تقدير موقف

تحالف ما بعد العقوبات وملامح نظامٍ إقليمي جديد

اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين روسيا وإيران


  • 26 أبريل 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: vedomosti

تُطلّ اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين روسيا وإيران بوصفها وثيقةً فريدة توائم بين حاجات الأمن القومي لكلا البلدين ومتطلّبات التنمية المستدامة في بيئة دولية تحكمها المنافسة الجيواقتصادية والعقوبات العابرة للحدود. فبعد أن استكمل الكرملين المسار التشريعي الداخلي، ونُشرت بنود الاتفاقية على البوابة الرسمية للمعلومات القانونية، انتقل التعاون الروسي‑ الإيراني من مرحلة “التفاهمات القطاعية” إلى مرحلة “المظلّة الهيكلية” التي تعيد صوغ معايير التحالف في المنطقة الممتدة من بحر البلطيق إلى مضيق هرمز. الوثيقة التي جرى توقيعها في موسكو منتصف يناير (كانون الثاني)2025  خلال زيارة الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، تؤسِّس لشراكةٍ مدّتها عشرون عامًا تُجدَّد تلقائيًّا كل خمس سنوات، وتتكوّن من سبعة وأربعين بندًا تغطّي الدفاع، والاستخبارات، والاقتصاد، والفضاء السيبراني، والثقافة، والتعليم.

منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، ظلّت العلاقة بين موسكو وطهران محكومةً باعتبارات ظرفية: مواجهة النفوذ الأمريكي في آسيا الوسطى، والتنافس المستتر في أسواق الطاقة، ومعالجة الأزمات الإقليمية من أفغانستان إلى سوريا، لكنّ اللحظة الراهنة مختلفة؛ إذ يواجه الطرفان قيودًا غربية خانقة تجعلهما يلتقيان على أرضية مقاومة العقوبات وتوطين التكنولوجيا؛ فروسيا الباحثة عن أسواق بديلة بعد حرب أوكرانيا، وإيران الساعية إلى تحرير اقتصادها من “الدولرة”، تجد كلٌّ منهما في الأخرى شريكًا يمكّنها من بناء منظومة سيادية للمال والطاقة والأمن.

ما أسباب الاتفاقية في هذا الوقت؟

تُحمِّل الاتفاقية الطرفين التزامًا واضحًا بتبادل المعلومات الأمنية، والتعاون في مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، غير أنّها لا تفرض بند الدفاع المشترك صراحةً؛ ما يمنح موسكو وطهران مساحةً دبلوماسية لتفادي الصدامات غير المحسوبة مع أطرافٍ إقليمية، كتركيا، وإسرائيل، ودول الخليج. بنود “بحر قزوين” مثلًا تُعيد التشديد على مبدأ استبعاد القوات غير الساحلية، وتُشرعن التنسيق البحري والاستخباراتي بين أساطيل البلدين بحيث تظلّ حرية الملاحة التجارية مكفولة، دون أن تتحوّل المنطقة إلى مسرحٍ لسباق التسلح.

في الاقتصاد، يتجاوز التعاونُ مجرد مقايضة النفط والسلاح؛ إذ تُنشئ المادة العشرون بنية دفعٍ ثنائية تربط المصرفين المركزيين الروسي والإيراني بشبكة مراسَلة سيادية، وتُلزم الوزارات المالية بالانتقال التدريجي إلى الروبل والتومان. المعنى العميق هنا أنّ موسكو وطهران لا تكتفيان بتفادي نظام “سويفت”؛ بل تبنيان مختبَرًا مصغَّرًا لطموح “بريكس” في استخدام عملةٍ احتياطية بديلة. على الأرض، يتجلّى ذلك في مشروع خط السكك الحديدية أستارا‑ رشت لاستكمال ممر “الشمال‑ الجنوب” الذي يختصر زمن الشحن من سانت بطرسبورغ إلى مومباي إلى أقلّ من ثلاثة أسابيع، وفي مبادرة روسية لتمويل محطة تسييل غاز قرب بندرعباس تستقبل إمدادات من حقول “يامال” عبر شبكة أنابيب مقترحة. هذه المشروعات تتيح للقطاع الخاص في البلدين تحقيق وفورات لوجستية تتخطى 25% بالمقارنة مع المسارات التقليدية عبر قناة السويس، وتخلق ما يُشبه “قارة اقتصادية عائمة” تربط شمال أوراسيا بجنوب آسيا عبر عمقٍ إسلامي‑ أرثوذكسي جديد.

التكنولوجيا العسكرية تشكّل محورًا حيويًّا آخر؛ فالقوات الجو‑ فضائية الروسية تقدّم خبرةً تمتد من صواريخ “إسكندر‑إم” إلى منظومات الحرب الإلكترونية، فيما تصدّر طهران خبرتها في تكتيكات المسيّرات البحرية والجوية. الاتفاقية تضع إطارًا لتدريبٍ متبادل؛ لإطلاق أقمار استطلاع صغيرة تُدار من مركزٍ مشترك في مقاطعة أستراخان، ولتطوير غواصاتٍ خفيفة مصمَّمة للإبحار في المياه الضحلة للخليج وبحر عُمان. على المستوى الرقمي، يجري العمل على مواءمة نظامي الدفع “مير” و”شتاب”، وإنشاء سحابة بيانات موزَّعة تضمن استمرارية الخدمات الحيوية في حال استبعاد البلدين من شبكة الإنترنت الغربية.

أما على صعيد الطاقة، فإن تجاور أكبر احتياطييْن للغاز في العالم يُعيد طرح فكرة “أوبك غاز”، غير المعلَنة من خلال تنسيق إنتاج الغاز الطبيعي المسال، و”مقايضة” براميل النفط عبر مواني “نوفوروسيسك” و”جزيرة خرج”، ويستطيع الطرفان إدارة فائض العرض لضبط أسعار “برنت” و”يوروبرال”، والضغط على هوامش ربح شركات الطاقة الغربية. في الصناعات التحويلية، تمنح طهران امتيازاتٍ لشركات روسية في مناجم الليثيوم والزنك، في حين تقدّم الأخيرة تقنيات تبريدٍ متقدّمة لمحطات الغاز المُسال في بارس الجنوبي، ومحطة بوشهر النووية. يكمن الرهان في خلق “سلسلة قيمةٍ متكاملة” من المواد الخام إلى بطاريات السيارات الكهربائية، بما يسدّ فجوة الشرائح الإلكترونية التي تفرضها العقوبات الأمريكية.

ردود الفعل الدولية جاءت متباينة؛ فإسرائيل تحرّكت دبلوماسيًّا لتحشيد الغرب ضدّ أيّ تزويدٍ لطهران بمنظومات دفاع جوّي طويلة المدى، ولوّحت بخيارات عسكرية ضد منشآت “أراك” و”نطنز”. الإدارة الأميركية فرضت حزمة عقوباتٍ ثانوية على مصارف وسيطة في تركيا وماليزيا، في محاولة لتجفيف قنوات التوريد المالي للاتفاقية. الاتحاد الأوروبي أعرب عن “قلق عميق” حيال احتمال تشكيل محور غازي يتحكم في ثُلث خطوط الإمداد باتجاه السوق الأوروبية. في المقابل، رأت الصين في الوثيقة عاملًا مساعدًا يخفف عنها عبء حماية ممرّات الطاقة عبر مضيق “ملقا”، ووسيلةً لتعزيز مبادرة “الحزام والطريق”، دون أن تتحمّل عبء العداء المباشر لواشنطن. أما الرياض وأبو ظبي فاكتفتا بالتشديد على أهمية “عدم عسكرة الخليج”، مع إبقاء قنوات التجارة البتروكيميائية مفتوحة مع موسكو لاستيعاب ما قد يُعاد توجيهه من صادرات روسية.

التحديات أمام تنفيذ هذه المعاهدة ليست هينة؛ فالبنية المالية السيادية تتطلب شرائح قادرة على تشفير مليارات الرسائل البنكية يوميًّا، وهي شرائح يسيطر عليها تحالفٌ تقوده الولايات المتحدة واليابان. الفجوة البيروقراطية بين إجراءات التخليص الجمركي الروسي والإيراني يمكن أن تؤخر الشحنات الحساسة، والشركات الروسية تشتكي طوابير الانتظار في ميناء بندر عباس، في حين تتخوّف طهران من الرسوم الجمركية غير المتوقَّعة في مواني البحر الأسود، ثم إن غياب بند الدفاع المشترك قد يخلق ارتباكًا إذا انفجرت مواجهةٌ مباشرة في أوكرانيا أو الخليج: هل يُترجم “التعاون الاستراتيجي” إلى دعم عسكريّ ميداني، أم يبقى عند حدود تبادل المعلومات؟

مع ذلك، تحمل الاتفاقية إمكانات نوعية لتشكيل اقتصاد مضاد للعقوبات يعتمد على “التوطين العميق” للصناعة والتقنية. الخطة الروسية لإقامة منطقةٍ صناعية حرة قرب بندر عباس، حيث تُجمَّع مكوّنات روسية‑ إيرانية لإعادة تصديرها إلى أسواق جنوب آسيا وشرق إفريقيا، يمكن أن تصبح مختبرًا لنموذج “المناولة السيادية” الذي يقطع حلقات الاعتماد على المواني الأوروبية. بالإضافة إلى ذلك، فإن التعاون في الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني يتيح بناءَ منصّاتٍ للبيانات القومية قادرة على حماية البنى التحتية الحيوية للطاقة، والمصارف، والنقل.

إنجاز هذه الأهداف رهينٌ بإنشاء مؤسساتٍ تنفيذية واضحة: صندوق استثماري مشترك بقيمة 10  مليارات دولار يُموَّل من الإيرادات النفطية الفائضة، ومركز أبحاث في الذكاء الاصطناعي يتخذ من قازان وطهران مقرين مزدوجين. على المستوى الشعبي، تتضمن الاتفاقية برامج تبادل طلابي، وتمويلًا مشتركًا لإنتاج أفلام وثائقية عن التراث الروسي‑ الإيراني؛ ما يضيف بعدًا ثقافيًّا يُضفي على التحالف شرعية اجتماعية تتخطى لغة الأرقام والجيوش.

تحوّل في معادلات الردع الإقليمي

لن تبقى معادلة الأمن في الشرق الأوسط على حالها فور دخول موسكو وطهران طور التفعيل العملي لبنود التسليح المشترك، فالقبة الصاروخية الإيرانية، التي ستتكئ على رادارات روسية بقدرات كشفٍ تتجاوز600  كم، ستُجبر إسرائيل على إعادة حساب مسار طلعاتها الجوية الطويلة المدى. والخليج، الذي اعتمد على المظلة الأمريكية -عقودًا- سيكتشف أن التوازن لا يُقاس بعدد أسراب “F‑35” فحسب؛ بل بتكامل حرب إلكترونية- مسيّرات- قذائف فرط‑ صوتية قد تُغلق المضيق في أقلّ من عشر دقائق. بكلمات أوضح: الاتفاقية تُدرِّج الردع الإيراني من مستوى “التهديد غير المتماثل” إلى مستوى “التهديد النظامي” الذي يربك الدبلوماسية الوقائية، ويُبطئ قرار الحرب.

بوابة كبرى إلى آسيا الوسطى والقوقاز

يتحرّك المحور الجديد على رقعةٍ أوسع بكثير من خرائط النفط؛ فخطوط سكك حديد “قزوين- الخليج” تعني أن طهران ستستعيد موقعها التاريخي بوصفها حلقة وصل بين حوضَي الفولغا والجنج، وسيُعاد فتح المنفذ الدافئ الذي فقدته موسكو عبر سوريا بعد عام 2024، وسيُدار ميناء تشابهار الإيراني جزئيًّا بمنظومة خدمات لوجستية روسية- هندية؛ ما يمنح البضائع الروسية طريقًا لا يمرّ ببحر البلطيق أو قناة السويس. أما أرمينيا وأذربيجان -الغارقتان في سباق ممرّات- فسيتعيّن عليهما إدراج عامل “السكك الروسية عبر إيران” في أي تسوية مقبلة لناغورني‑ قره باغ، وإلّا وجدتا أنفسهما خارج خريطة العبور الكبرى.

اقتصاد البيانات.. رأس مال القرن الجديد

أكثر بنود الاتفاقية حيوية هو ذلك الذي يربط الأمن السيبراني بالبنية التحتية السحابية. تعمل موسكو وطهران على إنشاء “كتلة دوائر متكاملة محلية” تُنتج شرائح 28  نانومتر بحلول عام 2027، تمهيدًا للوصول إلى عقدة 14  نانومتر قبل عام2030 . النجاح هنا يعني ولادة سلسلة توريد شرقية تستغني عن  «ASML» الهولندية و«TSMC» التايوانية في تطبيقات الدفاع والطاقـة. وفور أن تضمن طهران وموسكو أمن رقاقاتهما، ستغدو قاعدة بيانات الطاقة والبتروفارما والبتروكيميائيات في العالم الإسلامي تحت إدارة سحابة مُشفَّرة تشغِّلها مراكز بيانات في “قم” و”أستراخان”، وهو ما يفتح بوابةً لاقتصادٍ خالٍ من الابتزاز الرقمي الغربي، ويُطلق سباقًا جديدًا نحو “مياه رقمية دافئة”.

منصّة BRICS Plus .. رافعةٌ دولية

من المتوقَّع أن تقدِّم روسيا في قمة “بريكس” عام2026  مشروعًا تجريبيًا لعُملة تسوية مشتركة بين الروبل والتومان والروبية واليوان، وإذا قُيِّض لهذا المسار النجاح، ستنخفض حصة الدولار في تسعير النفط الأوراسي تحت 50%  بحلول عام 2032 ؛ وحينذاك سيُعاد رسم منحنى فيشر للفائدة/ التضخم العالمي على وقع مؤشر أسعار نفطٍ جديد يُتداول في بورصة دُبي- أستراخان. باختصار: الاتفاقية لا تُقيم جدارًا عازلًا مع الغرب فحسب؛ بل تبني ترمومتر سعرٍ بديلًا يُتيح لعواصم الجنوب ربط عوائدها النفطية بسلةٍ تتفادى الفائض النقدي الأمريكي.

تحديات الحوكمة وإدارة المخاطر

تفاوت أحجام الاقتصاد

 على موسكو أن تتفادى إغراق السوق الإيرانية بالسلع الرخيصة، فتقتل الصناعة المحلية قبل أن تولد؛ لذلك أدرج الطرفان بند “الدفعات المعكوسة” القاضي بأن يستثمر كلُّ دولارٍ من روسيا في إيران أمامه نصف دولار من الصناديق السيادية الإيرانية في أقاليم روسية متأخرة في النمو، مثل خاباروفسك وأورينبورغ.

ضغط العقوبات التابع

 لن تكتفي واشنطن بفرض عقوبات ثانوية؛ بل ستلجأ إلى أداة “الحجب الجغرافي للسفن” عبر شركات التأمين في لويدز؛ لذلك وُضِعَت خُطة تأجير أسطول طوارئ ناقلاتٍ ترفع أعلام سيراليون وتنزانيا، وتتمتع بحماية إعادة تأمين روسية‑ صينية.

الاستنتاجات

تُجسِّد اتفاقية الشراكة الإستراتيجية الشاملةِ بين روسيا وإيران تحوّلًا بنيويًّا في معادلات القوّة الدولية؛ لأنها تُقيم -للمرة الأولى منذ الحرب الباردة- محورًا يملك في آنٍ معًا: خُمسَ إنتاج النفط العالمي، وأكبرَ احتياطيين للغاز، وأطولَ متصلٍ بريٍّ- بحريٍّ يربط شمال المحيط المتجمِّد بالهند والمحيط الهندي من دون المرور بقنوات خاضعة لرقابة الغرب. وعلى أرضية هذا الامتداد الجغرافي، تؤسِّس الوثيقة لمنظومة أمن جماعي تُعيد تعريف الردع من خلال مزيج من الصواريخ فرط‑ الصوتية، والدرع الصاروخية الطبقية، والحرب الإلكترونية- السيبرانية؛ ما يُجبر خصومها الإقليميين والدوليين على مراجعة إستراتيجياتهم الهجومية والدفاعية.

اقتصاديًّا، يُنهي الربط المباشر بين المصرفين المركزيين، وحزمةُ “مير- شتاب” هيمنةَ شبكة “سويفت” على التسويات الثنائية، ويفتح الطريق أمام اختبار حيّ للعملة الاحتياطية الطامحة إليها مجموعة البريكس؛ إذ يُمكن للروبل والتومان أن يصبحا “نواةَ المقاصة” داخل سلة أوسع تضمّ اليوان والروبية والراند. وبموازاة ذلك، يمنح ممرُّ “الشمال- الجنوب” الشركاتِ الروسيةَ نافذةً بديلةً عن قناة السويس، ويعيد إلى إيران موقعها التاريخي بوصفها مفصلًا تجاريًّا بين حوض الفولغا وشبه القارة الهندية، فتتحول مواني “بندر عبّاس” و”تشابهار” و”جابهار” إلى عقدةٍ تعيد توزيع البضائع إلى آسيا الوسطى، والقوقاز، والخليج.

على صعيد الطاقة، يُنتَظر أن يؤدي التفاهمُ على تنسيق إنتاج الغاز المسال، ومقايضة النفط عبر مواني “نوفوروسيسك” و”جزيرة خرج”، إلى قيام “أوبك غاز” غير معلَنة، تتحكّمُ في نحو 40% من سوق الغاز العالمية، وتضعُ الاتحاد الأوروبي أمام معادلة أمنٍ طاقي مختلفة، لا تكفي فيها محطاتُ الغاز العائم، ولا الإمداداتُ النروجية لتعويض فجوةٍ محتملة. وفي الصناعات التحويلية، تُراهن موسكو على الليثيوم الإيراني لمعالجة فجوة البطاريات في قطاع السيارات الكهربائية الروسي، فيما تراهن طهران على البرمجيات الروسية لتأمين تشغيل منشآتها النفطية والبتروكيميائية بعيدًا عن أخطار الاختراق والقرصنة الغربية.

تكنولوجيًّا، يتقدّم بندُ “سحابة البيانات الموزَّعة” ليجعل من “قم” و”أستراخان” قلبَ شبكةٍ سيبرانيةٍ مقاومةٍ للعقوبات، مستندةً إلى شرائحٍ محلية ٢٨ نانومترًا بحلول عام ٢٠٢٧ كمرحلة أولى. نجاحُ هذا المسار يعني انفراطَ عقد الاحتكار الغربي لسلاسل توريد أشباه الموصلات العسكرية والمدنية، ويُطلق تنافسًا دوليًّا جديدًا على “المياه الدافئة الرقمية” يمتدّ من إيران إلى روسيا، ثم إلى شركاء البريكس في جنوب إفريقيا والبرازيل.

دبلوماسيًّا، تضاعف الاتفاقية قدرة موسكو وطهران على المناورة في ملفات سوريا واليمن وأفغانستان والقوقاز؛ لأنها تمنح الطرفين أدوات ضغط مالية ولوجستية وتكنولوجية تجعل استبعادهما من أي تسوية إقليمية أمرًا شبه مستحيل. كما تُسهم في تفكيك “النظام الأمني الأحادي” في الخليج؛ إذ تفرض توازنًا مع المظلّة الأمريكية التقليدية من خلال إدخال منظومات دفاع جوّي روسية، وتكاملها مع قدرات المسيّرات الإيرانية.

غير أنّ الطريق أمام هذا المشروع ليس مفروشًا بالورود؛ فالتفاوت الاقتصادي بين روسيا وإيران، وتعقّد البيروقراطية الجمركية، والحاجة إلى شرائح متقدّمة ما زالت خاضعةً لرخصٍ أمريكية- يابانية، وضغط العقوبات الثانوية التي تستهدف شركات التأمين والشحن، كلُّها عوامل تهدّد بتقليل سرعة الاندفاعة الأولى؛ لذلك رصدت موسكو وطهران عشرة مليارات دولار لصندوقٍ سيادي مشترك يمتصّ صدمات العقوبات، ووضعتا آلية “الدفعات المعكوسة” التي تُلزم روسيا بضخّ استثماراتٍ موازية في الأقاليم الإيرانية الفقيرة، فيما تستثمر طهران في مناطق روسية متأخرة؛ لتجنب اختلال الميزان التجاري.

في المحصلة، تُعلن الاتفاقية ولادة محور “ما بعد العقوبات”: محور لا يُراهن على اختراق السوق الغربية؛ بل على بناء دوائر مكتفية ذاتيًّا في الطاقة، والتمويل، والتقنية. وإذا اكتملت حلقةُ الشرائح الإلكترونية، والعملات الرقمية السيادية، والممرّات اللوجستية الكبرى، فسيواجه العالم بعد عشر سنوات واقعًا تعدديًّا جديدًا، لا يحتكر فيه الدولار تسعيرَ النفط، ولا تحتكر شركات وادي السيليكون تدفّقَ البيانات، ولا تستطيع حاملاتُ الطائرات وحدها فرضَ حصارٍ بحري أو اقتصادي. هكذا يتحول التحالف الروسي- الإيراني من مجرد رد على العقوبات إلى مختبر لنظام دولي يوازن بين القوة الصلبة والناعمة، ويرسم ملامح توازن إقليمي جديد من بحر البلطيق حتى بحر العرب.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع