أدب

إيـﭬـان تورغينيـﭪ.. سيرة ذاتية ورؤى نقدية


  • 7 سبتمبر 2024

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: kulturamnd.ru

يصف الدكتور جودت هوشيار الأدب الروسي بقوله: “أصبح الأدب الروسي منذ عصره الذهبي في القرن التاسع عشر شبيهًا بالدين، يحمل عبئًا أخلاقيًّا كبيرًا. ومثل الفلسفة، أخذ على عاتقه التفسير الفكري للعالم المحيط. وتحول الأدب من ظاهرة فنية- جمالية إلى كتاب الحياة. وكان يُنظَر إلى الكاتب كنبيّ، أو معلم للشعب، قادر على التأثير في النظام القائم، وتغيير المجتمع. وهم يصغون باهتمام بالغ إلى آراء الكتاب والشعراء، ويوجهون إليهم الأسئلة عن نتاجاتهم خلال اللقاءات التي تُعقد معهم، سواء في قاعات الاحتفالات، أو في وسائل الإعلام”.

بين كوكبة الأدباء

إبان ذلك العصر الذهبي، لمعَت كثير من الأسماء الساطعة في المشهد الثقافي الروسي، ولم تقف شهرتها عند حدود وطنها، وإنما تجاوزتها وامتدت إلى سائر أرجاء العالم، مثل ألكسندر بوشكين، وميخائيل ليرمينتوﭪ، وأنطون تشيخوﭪ، ونيقولاي غوغول، وليـﭪ تولستوي، وفيدور دوستويفسكي، وإيـﭬـان تورغينيڤ، الذي يتناول هذا المقال سيرته وإنتاجه الأدبي.

ربما لا يتصور القارئ العربي أن شهرة إيـﭬـان تورغينيڤ في أثناء حياته قد تفوقَت على شهرة بقية الأسماء التي سبقته أو عاصرته، إلى درجة أن الكاتب الأمريكي- البريطاني هنري چيمس لم يكن ليصدق أن تولستوي ودوستويفسكي قد يعلو نجماهما على إيـﭬـان تورغينيـﭪ، إذ عدَّه أستاذًا في براعة الأسلوب والتصوير، والحس الجمالي، ورقة التعبير، ونموذجًا نبيلًا باعثًا على الإلهام، مع تحفظه في الوقت نفسه على افتقاره إلى الثقل الفكري، كما يرى أن أعماله تخيم عليها روح الكآبة والحزن.

 لم ينحصر هذا الرأي على چيمس وحده، فقد ذاع في الغرب أن إيـﭬـان تورغينيڤ هو أديب روسيا الأول آنذاك، إذ شاركه الأديب الفرنسي جوستاﭪ فلوبير في إسباغ صفة الأستاذية على إيـﭬـان تورغينيڤ، وبالمثل أشاد الأديب الأمريكي وليم دين هوويلز بمهارته التصويرية بحسب قوله: “من سوى إيـﭬـان تورغينيڤ قد تسنى له الشعور بكل ذلك المعنى الحزين والغني لنسيم الليل المتسلل من خلال نافذة مشرعة، أو النيران المتأججة في الظلمة عبر الحقول البعيدة”.

ورغم الصداقة الطويلة التي جمعته مع إيـﭬـان تورغينيڤ، وإن اعتراها بعض الشقاق أحيانًا، فقد التزم تولستوي بالحذر في الثناء عليه؛ لتحفظه على نمط حياته المترفة والمتنعمة.

أما الفيلسوف والمؤرخ البريطاني الروسي الأصل أشعياء برلين فقد رأى أن الاتهامات الموجهة إلى إيـﭬـان تورغينيـﭪ بالهروب من الواقع إلى عالم الخيال لا تتوافق معه، فعلى اتسام إيـﭬـان تورغينيـﭪ بحب الجمال، وشغفه بفكرة الفن من أجل الفن، فإنه تحلى بالواقعية أيضًا من خلال تقديم نقد دقيق للاتجاهات المادية والعدمية لدى الثوريين الراديكاليين من ناحية، وإخفاق الأرستوقراطيين والمحافظين في تقديم حلول مناسبة للعصر، من ناحية أخرى.

ولا تختلف رؤية الروائية البريطانية ﭬيرچينيا وولف كثيرًا في هذا الصدد؛ ففي تصورها أن تورغينيـﭪ قد نال الإطراء بفضل حسه الجمالي والفني الذي مَكَّنَه من رسم مشاهد الطبيعة والحس الإنساني. ومع اعتراف الأديب الأمريكي الروسي ﭬلاديمير نابوكوﭪ بما تتميز به كتابات  تورغينيـﭪ من إمتاع، فإنه لم يعدّه كاتبًا عظيمًا.

النشأة والمسيرة

إيـﭬـان سيرجيفيتش تورغينيـﭪ (9 نوفمبر/ تشرين الثاني 1818 – 3 سبتمبر/ أيلول 1883) هو الابن الثاني لسيرجيه تورغينيـﭪ، الضابط في سلاح الفرسان، والمنحدر من أسرة عريقة أخنى عليها الدهر، وأمه ﭬارﭬارا پتروﭬنا هي أيضًا سليلة أسرة ثرية عريقة تضم آلاف الأقنان من الفلاحين الروس.

من هذا المنبت الأرستقراطي تشكلَت شخصية تورغينيـﭪ وأفكاره، وإن اختلفَت عن المعهود في بعض الأحيان. فإن جاء رحيل الأب عن هذا العالم في أثناء مراهقة  تورغينيـﭪ الابن إلى درجة جعلت صورته بعيدة ونائية عنه، ففي المقابل اضطلعت أمه، ذات الحضور الطاغي، والشخصية المتسلطة، بدور سلبي في حياته لما دأبَت عليه من تفريغ سورات غضبها في أبنائها، كما في الأقنان الذين اعتادَت امتهان كرامتهم، وجلدهم بالسياط، متبعةً نفس عادةً كبار المُلَّاك. ووفقًا للكاتب والناقد الروسي ألكسندر سميرنوﭪ فإن أمه كانت الحاكمة المُطلَقَة للضيعة، وتجسدَت فيها حالة الانتشاء بالسلطة، وأشار تورغينيـﭪ نفسه إلى تلقيه العقاب كل يوم تقريبًا من جراء أتفه الأسباب.

 وبسبب ذلك نبعَت كراهية تورغينيـﭪ للعبودية والقنانة، وربما دفعه ذلك إلى الرحيل إلى أوروپا في فترة لاحقة من حياته، كما تحددَت مواقفه العدائية ضد النظام الاجتماعي في ذلك الوقت، ورؤاه نحو دور الطبقات المثقفة في تحسين حال المجتمع، ووضع حد للمظالم الناجمة عن القنانة.

وبناءً على ذلك، تظهر الضياع الروسية في أعمال تورغينيـﭪ لتصور ذلك الواقع المهين لحياة الأقنان، جنبًا إلى جنب مع حياة مالكيهم من الأثرياء الموسرين المتحضرين وغير المبالين.

صراع بين ثقافتين

مثل أقرانه في ذلك الوقت، بدأ تورغينيـﭪ بتلقي مبادئ التعليم ذات التوجهات الغربية، سواء في المنزل أو في المدارس؛ ومن ثم أجاد كثيرًا من اللغات الأجنبية، ثم استكمل تعليمه الجامعي في موسكو وسانت بطرسبورغ، ولكنه ظلَّ يُكِنُّ احترامًا كبيرًا لما تلقاه من تعليم في فترة إقامته في برلين بين أعوام 1838 و1841، ولعل ذلك هو ما أصَّلَ في نفسه فكرة تفوق الغرب وأفضليته، وضرورة أن تحذو روسيا حذوه، وانعكس ذلك على شخصيته التي أصبحَت تميل نحو الكوزمزپوليتانية والانشغال بالقضايا الحيوية، سواء للوطن، أو للعالم كله، وذلك ما أدى إلى اعتباره أكثر أديب روسي يتحلى بالنزعة الغربية الواضحة.

في بدايات انخراطه في الحياة الأدبية في أربعينيات القرن الثامن عشر، اجتذبَت محاولات تورغينيـﭪ الأولى في كتابة الشِعر والقصائد الطويلة انتباه الكاتب والناقد الشهير فيساريون بيلينسكي، إذ امتدح موهبته، كما اعتبره تورغينيڤ أستاذه، وتكونَت بينهما صداقة راسخة، رغم تباين رؤاهما- في بعض الأحيان- حيال فائدة النزعة الجمالية، وتفضيل الاتجاه إلى الواقعية، واستخدام الأدب في توجيه النقد وطرح الأسئلة اللاذعة بلا مواربة عما تواجهه الأمة الروسية من رجعية واضحة.

امرأة في حياة تورغينيڤ

مع أن تورغينيـﭪ لم يتزوج، فإنه ارتبط بعلاقة طويلة مع المطربة الأوپرالية الفرنسية پولين ﭬـياردوت، وقد سيطرَت عليه هذه العلاقة، وأثارت جدلاً ونقاشًا واسعين، حيث قابل تلك المطربة وزوجها عام 1843، وتكونَت بينهما أواصر ممتدة حتى نهاية حياته، وتشير المراسلات بين تورغينيـﭪ وپولين إلى حميمية تتجاوز حدود كونه مجرد معجب أو صديق، وقد انعكسَت هذه العلاقة في كثير من كتاباته التي تصور تصويرًا قاتمًا وكئيبًا لهذه النوعية من العلاقات المضطربة بين الرومانسية والإيروتيكية.

 يتضح الأمر نفسه في مراسلاته مع بعض أصدقائه الفرنسيين، مثل الأديب جوستاڨ فلوبير، إذ يتردد ذكرها بحميمية واضحة طوال الوقت، رغم صداقته لزوجها، رفيقه في رحلات الصيد، وشريكه في ترجمة بعض أعمال الأدب الروسي إلى الفرنسية، وحلوله ضيفًا عليهما في بيتهما في فرنسا، وفي بادن- بادن بألمانيا، بما يرجح أنه كان عشيقًا لپولين، رغم وجود بعض الترجيحات أيضًا إلى أنها لم تبادله المشاعر نفسها، بالقوة نفسها.

 بالإضافة إلى ذلك، فقد عهدَ إليها برعاية ابنته غير الشرعية پولينيت، التي أنجبها من إحدى الفلاحات من الأقنان وهو في العشرينيات، وتكفل برعايتها ونفقاتها. وبصفةٍ عامةٍ، فأكثر ما استفاد منه تورغينيـﭪ لوجوده في صحبتهما هو انخراطه في الدوائر الثقافية الأوروپية، وذيوع صيته فيها بوصفه أكثر الأدباء الروس ميلًا إلى التغريب، وينزع إلى الوسطية، ولكن ذلك جعله عرضةً لهجوم من الداخل الروسي من حركة السلاﭬوفيليا (الحركة القومية المناصرة للسلافية والثقافة الروسية).

الصور والأخيلة الأدبية

لا يغيب عن القارئ ما تحفل به كتابات تورغينيـﭪ من شاعرية وجمال، وملاحظات بارعة لأدق تفاصيل الطبيعة، تتدفق في انسياب وهي تمسك بيد الروح الكئيبة السوداوية؛ أثخنتها جراحًا التنشئة القاسية، وتطلعات البحث عن الحب الحقيقي بلا جدوى، محاولات خائبة لا تفلح في إيجاد المعنى والشبع والارتواء، ويرى الكثيرون أن هذا الأسلوب الذي تتميز به أعمال تورغينيـﭪ هو المعيار الذهبي للغة الأدب الروسي بكل بلاغتها وجزلها.

تتقاطع في كتابات تورغينيـﭪ كل هذه العوامل الشخصية والقومية، تمتزج برقةٍ ويسر، تفضحُ كل خيبات الأمل وإحباطات الحياة. فهذا النبيل الأرستقراطي لم يرضَ قط عن وجود العبودية، ولم يعمد إلى تبريرها؛ وإنما- على النقيض- قَدَّمَ جوانب غير معهودة من حياة الأقنان إلى عموم القراء، مستحضرًا إنسانيتهم، وتوقهم إلى الحرية. ومع أنه لم يتخلَ عن ترف طبقته العليا، فإن ذلك لم يُعْمِ بصره وبصيرته عن استقصاء حقيقة هذه الطبقة التي لا ينكر مزايا ذكائها، ونبلها، وثقافتها، فهي مع كل ذلك- وبحسب توصيفه- كأنها تشبه رجلًا لا لزوم له، ويفتقر إلى مقومات قوة الإرادة والعزيمة والعمل المثابر لتحقيق الآمال، وقد وقفَت عاجزةً عن تقديم حلول ناجعة تفيد الأمة الروسية لتنفض عنها رجعيتها.

ورغم تعارض قناعاته مع ثورية الجيل الجديد الذي نعته بالعدمية، فإنه لم يتجاهل حقيقة أن هذا الجيل الثوري الرافض للقيم الأرستقراطية التقليدية سيحلُّ محل جيله وطبقته، وعاجلًا أو آجلًا سيسمك بمقاليد الأمة، ومن طرف خفي يحذر الثوريين أنه قد تأتي لحظة يفشل فيها جيلهم أيضًا في إدراك غاياته وآماله، ليترك الساحة لمن هم أكثر ثوريةً، وأعنف راديكاليةً.

موت في تراب الوطن

على كل حال، لم تستمر الخلافات التي أثارتها أعمال تورغينيـﭪ طوال الوقت، فقرب نهاية حياته، وتدهور حالته الصحية، خفتَت حدة خصومات الماضي مع الجيل الثوري، إلى حد اعتراف بعض أنصار السلاڨوفيليا أن تورغينيـﭪ، رغم ميوله الأوروبية، فإن ذلك لا يُعِّبر إلا عن المستويين الفكري والعقلي، ولكنه يحمل داخله روحًا روسيةً خالصةً؛ ومن ثم لاقت زيارته الأخيرة للوطن استقبالًا حارًّا، وبناءً على وصيته، دُفِنَ جثمانه في سانت بطرسبورغ بعد وفاته في فرنسا، وجاءت هذه المراسم خيرَ تكريمٍ له؛ إذ حضرها الآلاف لوداعه الوداع الأخير.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع