تقدير موقف

إيران وإسرائيل في قلب التصعيد.. غارات وتهديدات وسيناريوهات الصراع


  • 16 يونيو 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: france24

في تطور مفاجئ وميداني خطير، اشتعلت المواجهة المباشرة بين إيران وإسرائيل. مقاتلات إسرائيلية شنت سلسلة ضربات جوية جريئة وعنيفة على أهداف حيوية في عمق الأراضي الإيرانية، مستهدفة منشآت نووية وقواعد عسكرية. دوّت الانفجارات في أطراف طهران، ومدن إيرانية أخرى، وأُعلن إصابة مراكز قيادية في الجيش الإيراني. لم تتأخر طهران في الرد؛ فأطلقت وابلًا من الصواريخ والطائرات المسيّرة باتجاه أهداف إسرائيلية، لتدوي صافرات الإنذار في أرجاء المدن الإسرائيلية مع محاولة الدفاعات الجوية اعتراض التهديدات القادمة. المشهد ينذر بأن الصراع المستتر منذ سنوات خرج إلى العلن بقوة النار والدخان، فيما تقف المنطقة بأسرها على أطراف أصابعها أمام تصعيد هو الأخطر بين الطرفين منذ عقود.

على الحدود اللبنانية، وفي الجولان السوري، يرتفع منسوب التوتر إلى أقصى حد. حزب الله وضع مقاتليه في حالة تأهب قصوى، وتعالت تصريحات قادته محذرةً من أن أي اعتداء إسرائيلي واسع على إيران لن يمر دون إشعال الجبهات. الجيش الإسرائيلي -بدوره- عزز انتشار قواته على الحدود مع لبنان تحسبًا لأي مفاجآت، وسط خشية حقيقية من فتح جبهة ثانية عنيفة إذا قرر حزب الله الانخراط المباشر في القتال. في طهران، ارتفعت حدة الخطاب الرسمي إلى مستوى غير مسبوق؛ المرشد الأعلى علي خامنئي خرج بلهجة تصعيدية، واصفًا الغارات الإسرائيلية بأنها “جريمة كبرى”، متوعّدًا بعقاب صارم لن يفلت منه “العدو الصهيوني”. التصريحات الإيرانية باتت تتحدث عن “تجاوز كل الخطوط الحمراء”، وعن معركة وجودية لن تنتهي إلا بزوال التهديد الإسرائيلي. في المقابل، يطلق مسؤولون إسرائيليون تهديدات حادة، إذ يؤكد قادة الحكومة أن من حق إسرائيل الدفاع عن بقائها، محمّلين إيران مسؤولية جرّ المنطقة إلى حرب شاملة. وزير الدفاع الإسرائيلي حذّر صراحةً من أن طهران ستدفع الثمن باهظًا إذا استمرت صواريخ إيران ووكلائها في استهداف العمق الإسرائيلي. هكذا تجد المنطقة نفسها أمام مشهد انفجار إقليمي محتمل؛ الطائرات في السماء، والصواريخ تعبر الأجواء، وحرب الظلّ الطويلة تخرج من العتمة إلى فوهة البركان.

البعد السياسي والدبلوماسي

إقليميًّا ودوليًّا، يُرسم مشهد تحالفات واستقطابات جديد على وقع التصعيد العسكري. إسرائيل تستند إلى تحالف متين مع الولايات المتحدة وعدد من الدول الغربية، حيث تؤمّن واشنطن الغطاء الدبلوماسي، والدعم العسكري والاستخباراتي الوثيق لتل أبيب. الإدارة الأمريكية تُظهر انحيازًا واضحًا لأمن إسرائيل، لكنها تدعو في الوقت نفسه إلى ضبط النفس لتفادي انفجار حرب إقليمية أوسع لا تحمد عقباها. وعلى الرغم من تأييدها المبدئي لضرب قدرة إيران النووية، فإن واشنطن تحاول ثني طهران عن استهداف قواتها ومصالحها المنتشرة في الشرق الأوسط. في الكواليس، يكثف المسؤولون الأمريكيون اتصالاتهم مع الجانبين لاحتواء الموقف، وسط قلق من أن أي خطأ في الحسابات قد يجرّ الولايات المتحدة إلى قلب المواجهة. أما أوروبا فتظهر بموقف حرج؛ العواصم الأوروبية تدعو إلى التهدئة والعودة إلى المسار الدبلوماسي، فباريس وبرلين ولندن تشدد على ضرورة تجنب الانزلاق نحو حرب شاملة، رغم إعرابها عن تفهّم هواجس إسرائيل الأمنية، وانتقادها برنامج إيران النووي والصاروخي. وفي الوقت نفسه، تبعث هذه الدول رسائل لطهران بضرورة ضبط النفس، وعدم الانسحاب الكامل من المفاوضات النووية التي كانت جارية بوساطة عُمانية قبل اشتعال الموقف.

على الجانب الآخر، تسعى إيران إلى حشد حلفائها الإقليميين ومناهضي النفوذ الأمريكي لدعم موقفها. محور “المقاومة”، الذي تقوده طهران، يضم حلفاء كحزب الله في لبنان، بالإضافة إلى الفصائل المسلحة الموالية لها في العراق واليمن وغزة. هذه الأطراف أعلنت تضامنها الصريح مع إيران؛ حزب الله ندّد بالغارات الإسرائيلية وعدّها تهديدًا وجوديًّا، فيما بدأت جماعة الحوثيين في اليمن بإطلاق صواريخ باليستية باتجاه إسرائيل نصرةً لإيران، في تطور غير مسبوق للتنسيق العلني بين الجانبين. دبلوماسيًّا، وجدت طهران دعمًا قويًّا من كل من روسيا والصين. موسكو دانت الهجمات الإسرائيلية بشدة، ووصفتها بأنها “عدوان غير مبرر على سيادة دولة عضو في الأمم المتحدة”، مطالبةً بوقف فوري للتصعيد، ومحذرةً من انهيار الأمن الإقليمي.

 يشكل هذا الصراع فرصة لروسيا لتعزيز تحالفها مع إيران في وجه النفوذ الأمريكي، وربما ورقة للضغط على الغرب المساند لكييف في ساحة أخرى. بكين أبدت -بدورها- معارضة واضحة لضرب سيادة إيران، ودعت الجانبين إلى ضبط النفس، فهي تؤكد احترام وحدة الأراضي الإيرانية، وترفض زعزعة الاستقرار في منطقة حيوية لإمدادات النفط التي تعتمد عليها الصين بشدة. ومع أن الصين ترتبط بعلاقات اقتصادية وإستراتيجية مع طهران، فإنها أيضًا حريصة على مصالحها مع إسرائيل والولايات المتحدة؛ ما يدفعها إلى تشجيع الحلول الدبلوماسية، وطرح نفسها وسيطًا محتملًا للتهدئة.

أما دول الخليج العربي فتجد نفسها أمام معادلة معقدة: السعودية والإمارات وقطر وسلطنة عُمان وغيرها سارعت إلى التنديد العلني بالضربات الإسرائيلية، ورأتها تصعيدًا خطيرًا يهدد أمن المنطقة، وشددت على رفضها انتهاك سيادة دولة إسلامية جارة. هذه المواقف العلنية تعكس الحسابات الداخلية والخليجية الرافضة لانزلاق المنطقة إلى حرب مدمرة على أعتابها. ومع ذلك، لا يخفى أن كثيرًا من دول الخليج تتقاسم مع إسرائيل القلق من الطموحات الإقليمية لإيران وبرنامجها الصاروخي والنووي. لقد انخرطت بعض هذه الدول في مسار تطبيع وتحالف ضمني مع إسرائيل خلال السنوات الأخيرة، لكنها اليوم أمام اختبار صعب؛ فهي مضطرة إلى الموازنة بين تطمين الشارع العربي المتعاطف مع إيران في وجه “العدوان الإسرائيلي”، من جانب، والحفاظ على علاقاتها الإستراتيجية مع واشنطن وتل أبيب، من جانب آخر. ومن المرجح أن تؤدي وساطات خليجية دورًا خلف الستار في محاولة نزع فتيل الأزمة، خاصة عن طريق قنوات عُمان وقطر التي تمتلك خطوط اتصال مفتوحة مع طهران وتل أبيب. المشهد السياسي والدبلوماسي إذن يتسم باستقطاب حاد: معسكر غربي داعم (بدرجات متفاوتة) لإسرائيل، في مقابل معسكر موالٍ لإيران تقوده روسيا والصين ويضم حلفاء إقليميين، وبينهما دول تحاول التوسط لمنع انهيار السلم الإقليمي. ورغم التصعيد العسكري، لا تزال أبواب الدبلوماسية مفتوحة بحذر، حيث يراقب الجميع مجلس الأمن الدولي وما قد يصدر عنه، وإن كان من المستبعد حاليًا التوصل إلى إجماع هناك في ظل “الفيتو” الأمريكي والروسي المتبادل.

البعد العسكري

على الصعيد العسكري، يقف الطرفان على قاعدة من التوازن الردعي الحرج، حيث يمتلك كل جانب قدرة على إيقاع أذى هائل بالآخر، مما جعل خيار الحرب الشاملة مكلفًا للجميع. إسرائيل تُعتبر القوة العسكرية التقليدية الأقوى في الشرق الأوسط بفضل تفوق سلاحها الجوي والتكنولوجيا المتقدمة التي بحوزتها، بالإضافة إلى ترسانة صاروخية متطورة ومنظومات دفاع جوي مثل “القبة الحديدية” و”مقلاع داود” القادرة نظريًا على اعتراض جزء كبير من الصواريخ القادمة من ايران. كما يُعتقد على نطاق واسع أن إسرائيل تمتلك قدرات نووية تشكل رادعًا أخيرًا لأي تهديد وجودي. في المقابل، طورت إيران على مدى سنوات ترسانة هائلة من الصواريخ الباليستية والمجنحة والطائرات المسيّرة الهجومية التي تستطيع ضرب عمق إسرائيل. هذه الترسانة، وإن كانت أقل دقة وتطورًا من الأسلحة الإسرائيلية، إلا أنها قادرة على تجاوز الدفاعات وإلحاق دمار كبير إذا أُطلقت بأعداد كبيرة. أضف إلى ذلك شبكة الوكلاء العسكريين التي نشرتها إيران حول إسرائيل: حزب الله في لبنان يمتلك بدوره ترسانة صاروخية بعشرات الآلاف من القذائف قد تغرق الدفاعات الإسرائيلية إذا اندلعت الحرب، وحركة حماس والفصائل في غزة (رغم إنهاكها مؤخرًا) لا تزال عاملًا يجب حسابه، إلى جانب الميليشيات الموالية لإيران العراق التي قد تنخرط عن طريق إطلاق صواريخ، أو هجمات على القواعد الإسرائيلية والأمريكية في المنطقة. هذا الوضع خلق معادلة ردع متبادل غير معلنة؛ فإسرائيل تتجنب حتى الآن ضرب إيران مباشرةً خوفًا من رد صاروخي شامل عن طريق إيران ووكلائها، وإيران في المقابل تحجم عن هجوم مباشر كبير على إسرائيل لتفادي رد إسرائيلي يمكن أن يشل قدراتها الإستراتيجية، أو يطيح بمنشآتها النووية.

طبيعة الضربات المتبادلة في التصعيد الحالي تؤكد هذا النمط الحذر من الانخراط العسكري المباشر وغير المباشر. إسرائيل اعتمدت أسلوب الضربة الاستباقية الخاطفة ضد أهداف محددة في إيران؛ إذ استخدمت مقاتلات شبح متطورة، وصواريخ بعيدة المدى لضرب منشأة نطنز النووية، ومواقع قيادية للحرس الثوري في طهران، ومراكز اتصالات، محاولةً شلّ قدرات الرد الإيرانية من الضربة الأولى. المعلومات تشير إلى نجاح إسرائيل في مباغتة الدفاعات الإيرانية إلى حد كبير، حيث أحدثت ضرباتها خسائر موجعة، شملت قيادات بارزة، وعلماء في البرنامج النووي. هذا الأسلوب يذكّر بعقيدة إسرائيل العسكرية التي تهدف إلى تحقيق نصر سريع وحاسم عن طريق التفوق الجوي والتكنولوجي. في المقابل، جاء الرد الإيراني على مرحلتين: أولًا عن طريق وكلائها الإقليميين بهجمات غير مباشرة (كإطلاق الحوثيين صواريخ من اليمن، وربما تشجيع فصائل غزة على التحرك)، ثم مباشرةً عن طريق إطلاق رشقات صاروخية ومسيّرات من الأراضي الإيرانية نفسها باتجاه إسرائيل.

 إيران تدرك أن خوض مواجهة تقليدية مفتوحة مع سلاح الجو الإسرائيلي مغامرة خاسرة؛ لذلك تعتمد على تكتيك الإشباع الصاروخي لضرب العمق الإسرائيلي، وإظهار قدرتها على إيذاء الخصم رغم التفوق التقني الإسرائيلي. تكشف التقارير أن عشرات المسيّرات الانتحارية الإيرانية انطلقت في موجات باتجاه الأجواء الإسرائيلية، حاولت التسلل على ارتفاعات مختلفة للالتفاف على الرادارات، تزامنًا مع صليات من صواريخ “شهاب” و”قياموس” ضربت مناطق في صحراء النقب، وربما مواقع عسكرية. جزء كبير من هذه الهجمات اعتُرِضَ قبل الوصول إلى الأهداف، سواء عن طريق الدفاعات الإسرائيلية، أو حتى في أجواء دول مجاورة كالأردن، لكن بعضها أصاب بالفعل مواقع حساسة، مخلّفًا أضرارًا وضحايا. المستوى الحالي من الاشتباك العسكري يوضح حدود الانخراط: ضربات جوية إسرائيلية دقيقة مقابل رد صاروخي إيراني عبر حرب غير متناظرة. كل طرف يحاول تجنب دفع الآخر إلى نقطة اللاعودة؛ فإسرائيل حذرة من استفزاز إيران إلى حد إطلاق صواريخ أكثر فتكًا، أو إدخال حزب الله مباشرة في الحرب، وإيران حريصة على الرد بقوة لإرضاء شارعها وحفظ ماء الوجه، دون أن تتسبب في هجوم إسرائيلي شامل قد يطيح بقدراتها الأساسية. حتى الآن، يمكن وصف ما يجري بأنه حرب محدودة عالية الخطورة، إذ تجري في نطاق محسوب دون أن تتدحرج -حتى اللحظة- إلى مواجهة شاملة وجهًا لوجه على كل الجبهات. ومع ذلك، يظل مستوى الانخراط العسكري قابلًا للتوسع السريع؛ فأي شرارة إضافية على جبهة لبنان، أو استهداف مباشر للقوات الأمريكية في الخليج، قد يحوّل هذا الاشتباك المحدود إلى كرة نار إقليمية تتورط فيها عدة دول تورطًا مباشرًا.

البعد الأيديولوجي والديني

يتغذى الصراع الإيراني الإسرائيلي على جذور أيديولوجية ودينية عميقة، تضفي عليه طابعًا مصيريًّا يتجاوز الحسابات المادية المجردة. بالنسبة لإيران، يمثل العداء لإسرائيل حجر زاوية في العقيدة السياسية للجمهورية الإسلامية منذ تأسيسها عام 1979. تطرح القيادة الإيرانية نفسها بوصفها قائدة لمحور “المقاومة الإسلامية” في مواجهة ما تصفه بـ”الكيان الصهيوني المحتل”، وترى في القضية الفلسطينية واجبًا دينيًّا وثوريًّا لا يمكن الحيد عنه. الخطاب الرسمي الإيراني -سواء من المرشد الأعلى أو الحرس الثوري- يُغلّف الصراع بلغة دينية؛ فهو صراع حق وباطل من منظورهم، حيث تصوَّر إسرائيل على أنها عدو للإسلام، وغدة سرطانية زرعها الاستعمار في قلب الأمة الإسلامية. يُكثر المسؤولون الإيرانيون من الاستشهاد بالمظلومية التاريخية للفلسطينيين، وبوجوب تحرير القدس، ويستخدمون مفردات عَقَدية تحفّز مشاعر الجماهير المسلمة، مثل وصف المعركة بأنها “ثأر للأئمة والشهداء”، وبأن إزالة إسرائيل هي مقدمة لظهور “المخلّص” (في إشارة إلى عقيدة المهدي المنتظر في التراث الشيعي). هذه الأيديولوجيا تمنح إيران شرعية داخلية وإقليمية لمشروعها التوسعي؛ فهي تبرر دعم طهران العسكري والمالي لحركات مثل حزب الله وحماس بوصفه التزامًا مبدئيًّا بنصرة المستضعفين ضد إسرائيل، وليس مجرد مناورة جيوسياسية. وبقدر ما يوفر هذا البعد العَقَدي دافعًا قويًّا لاستمرار الصراع، فإنه يجعل أيضًا أي تسوية سياسية مع إسرائيل أمرًا شديد الصعوبة من المنظور الإيراني الرسمي؛ لأنه يتطلب التخلّي عن أحد أسس الهوية الثورية للجمهورية الإسلامية.

على الجانب الإسرائيلي، يأخذ الصراع مع إيران أيضًا بعدًا عَقَديًّا، وإن كان مختلفًا في طبيعته. فمع أن إسرائيل دولة ذات مؤسسات علمانية في أغلبها، فإن الرواية الصهيونية تقوم على حق تاريخي وديني لليهود في أرض إسرائيل، وعلى ضرورة حماية الشعب اليهودي من أي تهديد وجودي تذكيرًا بالمحرقة النازية. صعود قوى يمينية ودينية في الحكومة الإسرائيلية في السنوات الأخيرة عزّز حضور الخطاب الديني والقومي المتشدد في مقاربة الصراع مع إيران. بعض الشخصيات الإسرائيلية تصف إيران بأنها “نظام شيطاني” معادٍ لليهود وسياساتهم، وتستحضر نصوصًا دينية أحيانًا لتؤكد حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها “بموجب وعد إلهي” بحماية شعبها في أرض الميعاد. وبينما يبقى القرار الإسرائيلي تجاه إيران مدفوعًا بالاعتبارات الأمنية والإستراتيجية بالدرجة الأولى، لا يمكن إغفال أن خلفية الصراع تتضمن مواجهة بين مشروع قومي يهودي ومشروع ثوري إسلامي. هذا البعد يجعل الصراع أكثر تصلبًا؛ فإسرائيل تنظر إلى قادة إيران الحاليين على أنهم متعصبون دينيًّا يضمرون نية تدمير الدولة العبرية بدافع عَقَدي، مما يبرر في ذهن صناع القرار الإسرائيليين خيار القوة كضرورة وقائية. في الوقت نفسه، يشعر الإيرانيون أن إسرائيل ليست مجرد خصم عادي؛ بل هي تجسيد لمظلمة تاريخية، وللغطرسة الغربية في المنطقة، وتاليًا فإن مقاومتها تتجاوز السياسة إلى الواجب الديني والأخلاقي. هذه الثنائية الأيديولوجية تغذي دائرة الكراهية وانعدام الثقة؛ فلكل طرف “عقيدة قتالية” مرجعها نصوص مقدسة، أو سرديات تاريخية ترى في الآخر خطرًا وجوديًّا ينبغي رده مهما طال الزمن. ونتيجة لذلك، تشتعل الحرب الدعائية بين الجانبين بلغة حماسية؛ فمن جهة تصف إسرائيل إيران بأنها “رأس حربة معسكر الشر والإرهاب”، ومن جهة أخرى تصف إيران إسرائيل بأنها “الشيطان الأصغر”، وتعد جماهيرها بقرب زواله. هكذا يصعب تخفيف الاحتقان عن طريق التسويات التكتيكية فقط؛ لأن جوهر الصراع ممتد إلى ميدان العقيدة والهوية؛ ما يجعله أشد استعصاءً على الحلول الوسط التقليدية.

البعد السيبراني

إلى جانب نيران الصواريخ وقصف الطائرات، تدور حرب موازية في الفضاء الرقمي بين إيران وإسرائيل لا تقل خطورة عن المواجهة العسكرية المباشرة. لقد أصبح الهجوم السيبراني سلاحًا إستراتيجيًّا يعوّل عليه كلا الطرفين لضرب الآخر بطرائق غير تقليدية تتجاوز الحدود الجغرافية. في ظل التصعيد الحالي، تشير التوقعات إلى أن إيران ستكثف اعتمادها على جبهة الحرب الإلكترونية كرد انتقامي يصعب لإسرائيل مواجهته علنًا دون المخاطرة بتوسيع رقعة النزاع. طهران تمتلك جيوشًا من “الهاكرز” المدربين المرتبطين بوحدات في الحرس الثوري، ووزارة الاستخبارات، وقد راكمت خبرات كبيرة في العقد الأخير عن طريق مواجهات رقمية متبادلة مع إسرائيل ودول خليجية، وحتى الولايات المتحدة. سبق لإيران أن تعرضت لهجمات سيبرانية موجعة، أشهرها فيروس “ستاكس نت” الذي أعاق برنامجها النووي، لكنها -في المقابل- طورت قدرات هجومية استطاعت اختراق بنى تحتية في دول منافسة. في السنوات الأخيرة تبادل الجانبان سلسلة ضربات صامتة: أنظمة إسرائيلية للمياه والمواصلات تعرضت لمحاولات اختراق إيرانية كادت تسمم إمدادات المياه، أو تشل عمل محطات الطاقة، فيما واجهت إيران انفجارات غامضة وحرائق في منشآت حساسة يُعتقد أن هجمات سيبرانية إسرائيلية أسهمت فيها. هذه حرب الظل الإلكترونية تصاعدت الآن لترافق الحرب العسكرية المباشرة؛ فمع كل صاروخ يسقط على الأرض هناك فيروس حاسوب يُزرع في شبكات الخصم. تهدف إيران من توسيع نطاق الهجمات السيبرانية إلى تحقيق عدة أمور؛ أولًا: إرباك الجبهة الداخلية الإسرائيلية عن طريق استهداف مرافق حيوية، كشبكات الكهرباء، والمطارات، والمستشفيات، مما يزرع الذعر، ويشتت تركيز القيادة الإسرائيلية. وثانيًا: توجيه رسائل قوة تظهر قدرتها على الرد في ساحات متعددة، خاصةً إذا تعذّر عليها الرد عسكريًّا على نحو متكافئ. وثالثًا: تجنب المواجهة المباشرة؛ فالهجوم الرقمي يوفّر لطهران وسيلة للانتقام الهادئ الذي لا يجر بالضرورة ردًا عسكريًّا فوريًّا من الطرف الآخر. في المقابل، تمتلك إسرائيل واحدة من أقوى منظومات الحرب الإلكترونية والدفاع السيبراني في العالم، مع وحدات استخبارية نخبوية مثل “وحدة8200 ” الشهيرة. من المرجح أن تكثف إسرائيل هجماتها الإلكترونية لضرب منصات إطلاق الصواريخ الإيرانية، أو شل أنظمة الاتصالات والقيادة والسيطرة لطهران، بل إن ميدان المواجهة السيبرانية قد يتسع ليشمل حلفاء الطرفين أيضًا؛ فقد تستهدف إيران شبكات حلفاء إسرائيل الإقليميين، أو القوات الأمريكية في المنطقة عن طريق هجمات إلكترونية انتقامية، في حين قد تسعى إسرائيل إلى تعطيل أنظمة الدفاع الجوي الإيرانية التي زوّدتها بها روسيا مثلًا، أو اختراق البنوك الإيرانية، وشل حركة الاقتصاد. وإلى جانب الأهداف العسكرية، هناك حرب معلومات تدور على الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، حيث تنشر الجيوش الإلكترونية للدولتين دعاية مضادة، وتسريبات استخبارية للتأثير في الرأي العام المحلي والدولي، وكسب الحرب النفسية. أخطر ما في هذا البعد السيبراني أنه غير مرئي للعيان، ولا تحكمه قواعد دولية واضحة؛ ما يجعله ساحة مفتوحة قد تخرج فيها الأمور عن السيطرة دون سابق إنذار. وأي ضربة ناجحة في هذا المجال، كإظلام مدن بكاملها، أو تعطيل منشأة نووية أو منشآت نفطية، قد تعد اعتداءً سياديًّا خطيرًا يستدعي ردًا عسكريًّا تقليديًّا؛ ومن ثم يمكن أن يكون الشرارة الخفية لتوسع الصراع. من هنا، يراقب العالم -بحذر- ما يحدث خلف شاشات الكمبيوتر بين طهران وتل أبيب، بالتوازي مع ما يحدث على الأرض؛ لأن تبادل الضربات السيبرانية بات جزءًا لا يتجزأ من معادلة القوة والردع المتبادلة بين الخصمين.

البعد الجيوسياسي

يتداخل الصراع الإيراني الإسرائيلي مع لوحة جيوسياسية معقدة في الشرق الأوسط، حيث يسعى كل طرف إلى تعظيم نفوذه الإقليمي، وحرمان خصمه من أوراق القوة الإستراتيجية. إيران تنظر إلى نفسها بوصفها قوة إقليمية كبرى ذات مشروع عابر للحدود، وقد عملت على مدّ نطاق نفوذها الجيوسياسي عن طريق ما يسمى “محور الممانعة” من طهران إلى بيروت، مرورًا ببغداد ودمشق (حتى عام 2024) وصنعاء. هذا الممر البري- البحري منح إيران عمقًا إستراتيجيًّا، وصولًا إلى سواحل المتوسط عبر سوريا ولبنان، وهو ما تراه إسرائيل تهديدًا خانقًا لأمنها؛ فمن منظور تل أبيب، نجحت طهران في تطويق إسرائيل بقوس من الميليشيات الحليفة المزودة بالصواريخ، مما يغيّر التوازن الجيوسياسي لمصلحة إيران، ويهدد بتقويض التفوق الإسرائيلي إذا ما نشبت حرب على عدة جبهات في آن واحد؛ ولذلك تخوض إسرائيل -منذ سنوات- حربًا في الخفاء لقطع أذرع الأخطبوط الإيراني في المنطقة: ضربات جوية متكررة لقوافل السلاح الإيرانية في سوريا (حتى نهاية عام 2024)، وغارات على مواقع الحرس الثوري والميليشيات في العمق السوري والعراقي، وعمليات سرية لاحتواء نفوذ طهران المتنامي قرب حدودها. التصعيد الحالي يأتي تتويجًا لهذا الصراع على النفوذ؛ إذ رأت إسرائيل -فيما يبدو- أن استمرار التغاضي عن تطوير البرنامج النووي الإيراني، وتمدد التهديد بوجود وكلاء يتجاوزون الخطوط الحمراء، قد يُجبرهم على التحرك لإعادة ضبط المعادلة الجيوسياسية.

على الجانب الآخر، ترى إيران أن إسرائيل ليست مجرد عدو تقليدي؛ وإنما هي رأس حربة نفوذ غربي وغريب مغروس في قلب المنطقة لعرقلة بسط هيمنة طهران وإبقائها محاصرة. من هذا المنطلق، يرتبط الصراع مع إسرائيل بالمعركة الإيرانية الأكبر ضد الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط، فطهران تدرك أن تل أبيب وواشنطن وجهان لتحالف واحد؛ ومن ثم فإن تحجيم الدور الإسرائيلي إقليميًّا يضعف -تلقائيًّا- نفوذ الولايات المتحدة وهيبتها أمام حلفائها المحليين. على هذه الخلفية، كل ساحات الاشتباك الإقليمية تصبح مترابطة: الخليج العربي يشهد توترًا على خطوط الملاحة، وتهديدًا لممرات النفط كلما احتدمت أزمة إيران مع الغرب أو إسرائيل، إذ تلوّح طهران بإغلاق مضيق هرمز، أو مهاجمة ناقلات النفط لابتزاز العالم اقتصاديًّا. كذلك سوريا كانت مسرحًا للصراع الجيوسياسي المفتوح بين إسرائيل وإيران، ولكنها انتهت مع سقوط نظام الأسد، والتحولات السياسية التي عاشتها سوريا، التي هي مستمرة حتى هذا الوقت، ولكن من الواضح أن الأولى تريد إبعاد الثانية عن حدودها، وإبعادها عن إنشاء قواعد دائمة هناك، في حين كانت إيران تصر على التمركز في سوريا لتعزيز عمقها الإستراتيجي، وتأمين طريق إمداد إلى حزب الله، لكن بعد سقوط نظام الأسد، لم يصبح من السهل للطرف الإيراني أن يستغل الملف الداخلي السياسي في سوريا في ظل حكومة الشرع.

 أما العراق فيمثّل ساحة نفوذ متنازعًا عليها أيضًا؛ فالميليشيات العراقية الموالية لإيران قد تستهدف الوجود الأمريكي، أو حتى تحاول نقل المعركة إلى الأراضي العراقية بإطلاق صواريخ باتجاه إسرائيل مرورًا بالأجواء الأردنية، مما يهدد بجر بغداد وعمّان إلى دوامة الصراع. كذلك البحر الأحمر تحول إلى ساحة تنافس خفي؛ فإسرائيل أقامت تحالفات أمنية ضمنية مع دول على الضفة الغربية للبحر الأحمر (كالسودان ودول القرن الإفريقي) لضمان حرية ملاحة باتجاه إيلات وقناة السويس، فيما تدعم إيران الحوثيين في اليمن على الضفة الشرقية لتهديد تلك الممرات عند اللزوم. ولا ننسى أيضًا ملف الطاقة الذي يشكل بُعدًا جيوسياسيًّا مهمًّا: إيران تسعى إلى كسر العقوبات، وتصدير نفطها وغازها إلى الشرق عن طريق مشروعات مع الصين وروسيا، فيما تعمل إسرائيل مع اليونان وقبرص ومصر على تطوير خطوط غاز شرق المتوسط إلى أوروبا. أي حرب شاملة ستضرب هذه المشرروعات، وتعيد تشكيل خريطة تدفقات الطاقة عالميًّا؛ فإذا أُغلِقَت مضايق الخليج ارتفعت أسعار النفط على نحو صاروخي، وإذا ضُرِبت منصات الغاز في البحر المتوسط، أو تعطلت الملاحة في قناة السويس، فسيتأثر الاقتصاد العالمي بأسره. كذلك، فإن استقرار الأنظمة في المنطقة على المحك؛ فدول مثل لبنان الهش، والعراق المنقسم، وسوريا التي لم تلملم جراحها بعد، ستكون أولى ضحايا أي تمدد للنزاع، حيث يمكن أن ينهار ما تبقى من مؤسساتها تحت ضغط الحرب بالوكالة. حتى الدول المستقرة نسبيًّا -كدول الخليج وتركيا- ستتعرض لضغوط أمنية واقتصادية ضخمة إذا اتسعت رقعة النيران؛ ما قد يفرض عليها خيارات صعبة، وربما تنازلات جيوسياسية لإطفاء الحريق. بهذا المعنى، لم يعد الصراع الإيراني الإسرائيلي شأنًا ثنائيًّا معزولًا؛ وإنما برميل بارود إقليمي تتداخل فيه قضايا النفوذ، والموارد، والحدود، والتحالفات الكبرى. وفي ظل التشابكات الراهنة، بات الحفاظ على توازنات الردع، واحتواء الاشتباك، أولوية قصوى للقوى الدولية والإقليمية التي تدرك أن انفجار المواجهة على مصراعيها سيغيّر وجه الشرق الأوسط عقودًا مقبلة.

سيناريوهات مستقبل الصراع

يقف الصراع الحالي بين إيران وإسرائيل عند مفترق طرق، ومع تصاعد حرارة المواجهة يبرز عدد من السيناريوهات المحتملة لمستقبل المشهد في المدى القريب والمتوسط:

  • اندلاع حرب واسعة: يظل شبح الحرب الإقليمية الشاملة حاضرًا كأسوأ الاحتمالات. في هذا السيناريو قد تؤدي سلسلة حوادث أو حسابات خاطئة إلى تدحرج كرة النار بحيث تنخرط أطراف أخرى مباشرةً في القتال، فإذا ما وقع خطأ إستراتيجي كاستهداف إيران مصالح أمريكية في الخليج، أو سقوط صاروخ بالخطأ على مدينة خليجية أو تركية، فقد تتوسع دائرة الحرب سريعًا. حرب واسعة تعني مواجهات مفتوحة على جبهات متعددة: إسرائيل تواجه إيران مباشرة بهجمات جوية وصاروخية مكثفة تتجاوز الضربات المحدودة الحالية، وإيران تطلق كل ما في جعبتها من صواريخ بعيدة المدى على مدن إسرائيلية، وربما منشآت نفط خليجية. حزب الله يدخل المعركة بكامل ثقله من الشمال، مطلقًا آلاف الصواريخ يوميًّا، وقد تشتعل جبهة غزة من جديد، وتتحرك الميليشيات العراقية لاستهداف القواعد الإسرائيلية والأمريكية حيث تستطيع. في البحر، قد تحاول إيران إغلاق مضيق هرمز، وشن هجمات بحرية عن طريق زوارق سريعة، وألغام ضد سفن تجارية أو بحرية إسرائيلية وأمريكية. هذه الحرب الشاملة ستتجاوز قدرة أي طرف على السيطرة: خسائر فادحة في الأرواح والبنى التحتية على الجانبين، موجات نزوح جماعي، خاصةً من جنوب لبنان، وشمال إسرائيل، وربما من الخليج، واضطراب اقتصادي عالمي، مع قفز أسعار النفط إلى مستويات قياسية تعيد إلى الأذهان أزمات السبعينيات. ومع أنه لا طرف يريد فعليًّا هذا السيناريو الكارثي، فإن خطر الانزلاق إليه نتيجة التصعيد وسوء التقدير يبقى قائمًا، ما دام كل جانب يشهر سيفه، ويضع إصبعه على الزناد في حالة تأهب قصوى.
  • استمرار الحرب المحدودة: السيناريو الأقرب واقعًا هو بقاء الصراع في نطاق الحرب المحدودة المدارة بضوابط خلفية تحول دون انفلاتها، بمعنى أن تستمر جولات التصعيد والتهدئة على نمط مدروس: ترد إيران عن طريق ضربات محسوبة بالصواريخ والطائرات المسيّرة، سواء مباشرة، أو من خلال جبهات وسيطة، كاليمن والعراق. يوازي ذلك استمرار المناوشات على الحدود اللبنانية- الإسرائيلية دون انزلاق حزب الله إلى مواجهة شاملة، وربما تبقي المنظمة الشيعية على تدخلها في حد إطلاق صليات رمزية، أو إسقاط مسيرات إسرائيلية لإبقاء الضغط، دون تخطي العتبة الحرجة. هذا الوضع يعني استنزافًا متبادلًا طويل الأمد دون ضربة قاضية: اقتصاد إيران يرزح أكثر تحت العقوبات والكلفة العسكرية، وإسرائيل تستنزف مواردها الدفاعية، وتعيش مدنها تحت تهديد مستمر، وإن كان محدودًا. سيحاول المجتمع الدولي في هذا السيناريو إدارة الأزمة عن طريق تكثيف جهود التهدئة المؤقتة، ومنع تجاوز الخطوط الحمراء (كضمان أمن الملاحة الدولية، ومنع ضرب منشآت نووية عاملة قد تسبب كوارث بيئية). قد نشهد هدنة غير معلنة بعد فترة من التصعيد، يعود فيها كل طرف إلى مداواة جراحه، وإعادة حساباته، دون توقيع اتفاق رسمي. تستمر حرب الاستنزاف بالوكالة، وعن طريق الضغط الاقتصادي والسياسي، لكن دون مواجهات طاحنة مباشرة جديدة. هذا السيناريو وإن كان يجنّب المنطقة كارثة الحرب الشاملة، يبقي حالة اللا سلم واللا حرب مخيّمة، بما تعنيه من توتر دائم، واحتمال اشتعال مفاجئ في أي وقت. إنه عمليًّا استمرار للوضع القائم خلال السنوات الماضية، ولكن على مستوى أخطر وأوضح، حيث تصبح الضربات المتقطعة جزءًا معتادًا من المشهد الإقليمي، ويتعايش الجميع مع نزاع مزمن قابل للاشتعال الموضعي بين حين وآخر.
  • ترسيخ حالة الردع المتبادل وحرب الظل: هناك احتمال آخر أكثر تفاؤلًا نسبيًّا يتمثل في نجاح الجهود الدولية والإقليمية في تبريد الجبهات، وعودة الطرفين إلى قواعد الاشتباك غير المعلنة التي سادت طيلة الأعوام الماضية. في هذا السيناريو، وبعد جولة التصعيد الحالية الدامية، يدرك الجانبان أن المضي أبعد قد يهدد وجودهما، فيتراجعان خطوة إلى الوراء بوساطات مكثفة (ربما عن طريق قنوات عُمان، أو قطر، أو تركيا). يُتوَصَّل إلى تفاهمات ضمنية عن طريق أطراف ثالثة تقضي بوقف الضربات المباشرة: إسرائيل توقف الغارات العلنية على الأراضي الإيرانية، وطهران تكبح جماح الميليشيات من إطلاق الصواريخ تجاه إسرائيل. في المقابل، يستمر الصراع، لكنه يعود إلى حرب الظل تحت عتبة الحرب المفتوحة، أي يتم التركيز على العمليات السرية والاستخباراتية: إسرائيل تصعّد التخريب الخفي لبرنامج إيران النووي عن طريق فيروسات إلكترونية، وعمليات اغتيال لعقول المشروع النووي، وإيران ترد عن طريق حروب الأشباح باستهداف مصالح إسرائيلية في الخارج (سفارات، سياح، شركات)، وعمليات اختراق أمني داخل العمق الإسرائيلي عن طريق عملاء سريين. تبقى جبهة لبنان والجبهات الأخرى في حالة ردع متبادل راسخ: حزب الله يمتنع عن التصعيد مقابل امتناع إسرائيل عن استفزاز كبير في لبنان أو ضرب إيران مباشرة، وهكذا. هذه المعادلة تعيد فرض ميزان خوف يمنع الجميع من الانفلات. بطبيعة الحال، سيبقى التوتر قائمًا، والمناوشات مستمرة، لكن ضمن خطوط حمراء محترمة من الطرفين: لا ضربات إسرائيلية مكشوفة على إيران، ولا هجمات صاروخية كبيرة من إيران أو حلفائها على إسرائيل. يستمر شد الحبال في الخفاء، وربما تعود طاولة المفاوضات النووية بدفع صيني روسي هذه المرة، مقابل تجميد نسبي لأخطر أنشطة إيران النووية، وتخفيف بعض العقوبات كإجراء لبناء الثقة. هذا السيناريو أشبه بهدنة غير معلنة تعيد الصراع إلى وضعية “الحرب الباردة”، أو “الصراع المنخفض الحدّة”، فترة قد تطول أو تقصر بحسب التطورات. إيجابية هذا المسار أنه يجنب المنطقة حربًا مدمرة، ويتيح مجالًا -وإن ضئيلًا- لمساعٍ دبلوماسية أوسع في المستقبل، لكن سلبيته أنه لا يحل جذور المشكلة؛ فالخلاف الإستراتيجي والعداء الأيديولوجي سيستمران، ما يعني أن خطر الانفجار سيبقى كامنًا، ويحتاج إلى مجرد شرارة ليعود إلى الاشتعال ما لم تُعالَج أسباب الصراع العميقة. غير أن هذا السيناريو، الذي يقوم على ترسيخ الردع المتبادل وحصر الصراع في مساحة الظل، يبقى هشًّا بطبيعته، ومهددًا من الداخل الإيراني نفسه، فاستمرار الضغط الخارجي، وتنامي التذمر الشعبي الداخلي، قد يفتحان الباب أمام سيناريو أكثر زلزلة: سقوط إيران، وتفكك ركائز الجمهورية الإسلامية من الداخل.

سيناريو إسقاط النظام السياسي في إيران.. التحول الجذري الذي قد يعيد رسم الشرق الأوسط

إذا تطورت الأمور باتجاه انهيار داخلي في إيران، بفعل سلسلة من الضغوط المركبة -ضربات عسكرية محدودة، وعقوبات اقتصادية خانقة، واختراقات سيبرانية متقدمة، وفقدان السيطرة على الشارع نتيجة احتجاجات متجددة- فإن ذلك قد يُفضي إلى لحظة فاصلة تطيح بالنظام السياسي الحالي، أو تُضعفه بدرجة لا تمكّنه من الاستمرار.

في هذا السياق، من غير المستبعد أن يؤدي استمرار الفشل الاقتصادي، والفساد المتفشي، والتراجع في القدرة على حماية المواطنين، إلى حراك داخلي واسع النطاق، قد تقوده شرائح من الشباب والنخب المستاءة، خاصةً في المدن الكبرى. هذا الحراك، إن تزامن مع تفكك داخل الحرس الثوري، أو انقسامات في النخبة الدينية والسياسية، سيشكل نقطة انهيار فعلية.

إذا سقط النظام السياسي، أو تهاوى مركزيًّا، فإن البلاد قد تدخل في مرحلة فراغ في السلطة، تفتح الباب أمام سيناريوهات عدة:

  1. تفتت السلطة المركزية، وعودة النزعة المناطقية، خاصة في مناطق كردستان وبلوشستان وخوزستان؛ مما يُدخل إيران في مرحلة من التفكك الجغرافي والسياسي.
  2. صعود قوى جديدة من داخل المؤسسة العسكرية أو التكنوقراطية تتبنى سياسة أكثر براغماتية، وتنفتح على الغرب لإعادة تشكيل النظام السياسي والاقتصادي مقابل وقف البرنامج النووي، وتفكيك شبكة الوكلاء الإقليميين.
  3. محاولة التيار الإصلاحي الإمساك بالسلطة، وإعادة صياغة الجمهورية الإسلامية على أسس أقل عدوانية، مع تخفيض حدة الخطاب الثوري، ونزع الطابع العَقَدي من السياسة الخارجية.
  4. تدخل خارجي تحت غطاء أممي أو إقليمي لضمان أمن المنشآت النووية وتجنب الفوضى، خاصةً في حالة ظهور فصائل متطرفة تسعى إلى السيطرة على السلاح الإيراني، أو البنية الأمنية.

تداعيات سقوط النظام السياسي على إسرائيل والمنطقة:

  • بالنسبة لإسرائيل، فإن انهيار النظام السياسي الإيراني سيكون التحول الأكثر أهمية منذ سقوط صدام حسين، وقد تراه فرصة تاريخية لتفكيك التهديد النووي والإقليمي نهائيًّا. غير أن إسرائيل تدرك أيضًا أن الفراغ في طهران أخطر من النظام السياسي نفسه؛ لأن البدائل قد تكون فوضوية، أو أكثر عدوانية، ما لم يُدَر الانتقال بعناية.
  • أما على مستوى المنطقة، فستواجه دول الخليج وتركيا وروسيا والصين وأمريكا معضلة التعامل مع إيران جديدة غير واضحة المعالم، وأي فوضى في إيران ستؤثر -مباشرة- في أمن الطاقة، واستقرار الأسواق، وتدفقات التجارة العالمية.
  • كما قد يُعيد هذا التغير رسم التحالفات، ويمنح العرب -خاصة دول الخليج- فرصة للتقارب مع طهران الجديدة إذا خُفِّفَ الطابع الثوري والعَقَدي من توجهاتها.

في المحصلة، تجد المنطقة نفسها اليوم أمام منعطف تاريخي في الصراع الإيراني الإسرائيلي. الأحداث المتسارعة تجعل التكهن صعبًا، لكن الواضح أن مرحلة ما بعد التصعيد الأخير لن تكون كما قبله؛ إما أن ينزلق الطرفان إلى هاوية مواجهة واسعة تغير وجه الشرق الأوسط، وإما أن يبقيا في دائرة نار مضبوطة الإيقاع تستنزف الجميع دون غالب أو مغلوب واضح، وإما أن يتراجعا خطوة فيعود الصراع إلى الظل تحت سقف جديد من الردع المتبادل. القرار الآن بيد ُصنّاع القرار في طهران وتل أبيب، وكذلك في عواصم كبرى، مثل واشنطن، وموسكو، وبكين، تمسك بخيوط التهدئة والتصعيد. الأسابيع القليلة المقبلة ستكون حاسمة في رسم ملامح المستقبل: هل نقترب من أتون حرب لا تُبقي ولا تذر، أم تظل النار تحت الرماد تتحين فرصة أخرى، أم يتدارك الجميع الكارثة بخطوات إلى الوراء؟ المؤشرات الحالية تنذر بالخطورة، لكن علمتنا التجارب في الشرق الأوسط أن اللحظات الحرجة قد تفتح أيضًا أبوابًا غير متوقعة للتهدئة. وعلى وقع أصوات الانفجارات، وأزيز الطائرات المقاتلة، يبقى العالم مترقبًا بحذر ليرى أي فصل سيكون التالي في قصة هذا الصراع الطويل والملتهب.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع