أبحاث ودراسات

إيران بين كلفة المواجهة وحدود التراجع.. الخيارات الإيرانية بعد تفعيل آلية الزناد


  • 30 سبتمبر 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: spiegel

بعد ساعات من دخول آلية الزناد حيز النفاذ، تعود التساؤلات الكبرى إلى الواجهة: كيف ستتعامل طهران مع عودة العقوبات الأممية بأقصى درجاتها؟ وهل يملك النظام الإيراني بتياراته المتباينة خطة واقعية لتخفيف وطأة هذا التصعيد؟ إن الآلية التي صُممت بالأساس لضبط التزام إيران بالاتفاق النووي تحولت اليوم إلى أداة سياسية ودبلوماسية واسعة الأثر، ليس فقط على نفوذ إيران الإقليمي والدولي؛ بل أيضًا على استقرارها الداخلي، فهل سيؤدي تشديد العقوبات إلى تقويض الاقتصاد وتغذية موجات احتجاج جديدة، أم أن النظام سيتمكن من توظيف تلك العقوبات لتعزيز شرعيته، وتعبئة الداخل ضد الضغوط الخارجية؟ هذه الأسئلة تمثل مدخلًا لفهم ردود الفعل الإيرانية، واستعراض الخيارات المتاحة أمام الجمهورية الإسلامية، وتحليل انعكاسات الآلية على الداخل الإيراني على المدى المنظور.

مسار آلية الزناد

استمرت المفاوضات المعقدة بين إيران ومجموعة “5+1” (الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، وروسيا، والصين، وألمانيا) بشأن البرنامج النووي الإيراني سنوات طويلة، إلى أن وصلت إلى الاتفاق النووي المعروف بـاسم “خطة العمل الشاملة المشتركة”، الموقعة عام 2015، وكان هدفها الأساسي هو الحد من طموح إيران النووي مقابل رفع العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية، غير أن الانسحاب الأمريكي في مايو (أيار) 2018، بقرار الرئيس دونالد ترمب في ولايته الأولى، أعاد الجدل مرة أخرى بشأن النووي الإيراني، إذ تخلت واشنطن عن الاتفاق وبدأت بإعادة فرض عقوبات واسعة النطاق على إيران، في إطار سياسة “الضغط الأقصى”، وقوض هذا الانسحاب مصداقية خطة العمل، وأضعف قدرة الأطراف الأوروبية على الحفاظ على بنودها.

 وفي هذا السياق، تُعد آلية الزناد  Snapback Mechanismواحدة من أكثر الآليات إثارة للجدل في إطار خطة العمل المشتركة، حيث تنص هذه الآلية على إمكانية إعادة فرض العقوبات الأممية تلقائيًّا على إيران في حالة خرقها التزاماتها النووية، من دون الحاجة إلى تصويت جديد في مجلس الأمن، وقد صُممت الآلية لتكون أداة ردع تمنح القوى الدولية ضمانة لإمكانية معاقبة طهران سريعًا إذا ما تجاوزت الخطوط المرسومة في الاتفاق، حيث جاء اللجوء إلى آلية الزناد نتيجة مزيج من العوامل المركبة؛ فمن ناحية، استأنفت إيران بعد 2019 خطوات تصعيدية في تخصيب اليورانيوم، وتقليص التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، كرد فعل على انسحاب واشنطن، وفشل الأوروبيين في توفير المنافع الاقتصادية الموعودة، ومن ناحية أخرى، تصاعدت المخاوف الإقليمية لدى إسرائيل ودول الخليج من إمكانية تحول البرنامج النووي الإيراني إلى غطاء لإنتاج سلاح نووي، هذا المناخ المشحون دفع القوى الغربية، خاصةً بريطانيا وفرنسا وألمانيا، إلى التلويح باستخدام الآلية للضغط على طهران وإجبارها على العودة إلى الالتزام الكامل ببنود الاتفاق.

واستندت المرجعية القانونية لآلية الزناد إلى قرار مجلس الأمن رقم 2231 الصادر في يوليو (تموز) 2015، الذي تبنى الاتفاق النووي، وأرسى الإطار القانوني لتطبيقه، حيث ينص القرار على أنه في حالة إخلال إيران بالتزاماتها، يمكن لأي طرف مشارك في الاتفاق إخطار مجلس الأمن؛ ومن ثم يُعاد فرض العقوبات الأممية تلقائيًّا بعد مرور 30 يومًا، ما لم يصدر قرار معاكس، وهو ما أعادت الحديث عنه دول الترويكا في أواخر أغسطس (آب) المنصرم، حيث أرسلت بريطانيا وفرنسا وألمانيا رسالة إلى مجلس الأمن تؤكد أن إيران انتهكت التزاماتها في الاتفاق النووي، وأن الدول الثلاث مستعدة لتفعيل آلية الزناد إذا لم تُقدم طهران تنازلات كافية، مثل استئناف التفاوض مع الولايات المتحدة، والسماح بالوصول الكامل للوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتوضيح وضع مخزون اليورانيوم المخصب. ونتيجة رفض إيران الشروط الأوروبية أعادت الدول الثلاث تطبيق العقوبات وفقًا لآلية الزناد، وفشل مقترح روسيا والصين في إرجاء  تطبيق العقوبات الأممية.

تحليل الخطاب الإيراني تجاه تطبيق آلية الزناد

تبنت الحكومة الإيرانية خلال الأشهر الماضية خطابًا متناقضًا يجمع بين التهدئة والتصعيد؛ فمن جهة، يحرص المسؤولون في وزارة الخارجية الإيرانية على تأكيد أن طهران ما زالت ملتزمة بالإطار الدبلوماسي، ومستعدة للحوار مع الأوروبيين لتفادي الوصول إلى مرحلة العقوبات الأممية الشاملة، ومن جهة أخرى، يلوحون بأن أي خطوة نحو تفعيل آلية الزناد ستواجه بـرد قوي ومتناسب. هذا الخطاب المزدوج يعكس محاولة الحكومة كسب الوقت، وإبقاء باب التفاوض مفتوحًا أمام القوى الأوروبية، مع تحميل الدول الثلاث المسؤولية أمام الرأي العام الإيراني في حالة فشل العملية التفاوضية.

أما في البرلمان، بين النواب الأصوليين، فيظهر خطاب أكثر تشددًا؛ فالتصريحات البرلمانية ركزت على أن تفعيل آلية الزناد لن يكون له أثر عملي؛ لأن إيران اعتادت العقوبات، وأنها ستواصل برنامجها النووي بغض النظر عن التهديدات. هذا الخطاب يحمل بعدين؛ الأول تعبوي موجه إلى الداخل لتأكيد الصمود، والثاني رسالة إلى الخارج، يعكس تصميم المؤسسة التشريعية على دعم الحكومة إذا اختارت التصعيد. اللافت أن بعض النواب دعوا صراحة إلى تسريع الأنشطة النووية كرد استباقي على أي تحرك غربي؛ ما يضع البرلمان في موقع محرك للرأي العام، وليس مجرد مراقب للسياسات، في حين اعتمد التيار الإصلاحي خطابًا أكثر براغماتية، يحمل الحكومة -جزئيًّا- مسؤولية الوصول إلى هذه المرحلة بسبب تراجع الالتزام ببعض بنود الاتفاق النووي، لكنه في الوقت نفسه يرفض إغلاق باب التفاوض مع الغرب. تعكس تلك التباينات بين التيارات الإيرانية الانقسام التقليدي في السياسة الإيرانية، حيث يتبنى الأصوليون نهج المقاومة، فيما يسعى الإصلاحيون إلى تسويق التهدئة بوصفها خيارًا واقعيًّا لتجنب عزلة أكبر.

أما الحرس الثوري فقدم الخطاب الأكثر حدة ووضوحًا في رفض أي تهديد بالزناد، فالتصريحات المتكررة لقياداته اعتبرت أن تفعيل الآلية بمنزلة حرب اقتصادية شاملة، وأن الرد لن يقتصر على المجال النووي، بل سيمتد إلى أدوات الردع الإقليمية، في إشارة إلى النفوذ الإيراني في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وهو ما يشير إلى أن خطاب الحرس الثوري لا يستهدف فقط الداخل الإيراني، بل يوجه رسائل ردع إلى الخارج، خاصةً الولايات المتحدة وإسرائيل والدول الأوروبية، بأن أي خطوة قد تفتح جبهة توترات أوسع في المنطقة. هذه اللغة تعزز صورة النظام أمام الداخل بوصفه مدافعًا عن السيادة والكرامة الوطنية، وفي الوقت نفسه تمهد إلى أن أي تنازل محتمل سيكون في إطار تكتيك مؤقت، وليس تغييرًا استراتيجيًّا للعقيدة الإيرانية.

انعكاسات تطبيق آلية الزناد على الداخل الإيراني

إن تفعيل آلية الزناد بما يعنيه من عودة العقوبات الأممية الشاملة، على غرار حظر على بيع الأسلحة لإيران، ومنع صادراتها العسكرية، وقيود على البرنامج النووي والصاروخي الإيراني، وتجميد الأصول الإيرانية، فضلًا عن قيود مالية ومصرفية، وحظر السفر لعدد من المسؤولين الإيرانيين، يُتوقع أن يترك انعكاسات عميقة على الاقتصاد الإيراني الذي يعاني بالفعل أزمات متراكمة؛ لذا فإن عودة القيود على صادرات النفط، والمجال المصرفي، والتجارة الدولية، ستؤدي إلى تقلص الإيرادات الحكومية، وتفاقم أزمة سعر العملة، وارتفاع معدلات التضخم التي تجاوزت بالفعل حدود التحمل الشعبي. هذه الأزمة قد تترجم اجتماعيًّا من خلال اتساع الفجوة بين الطبقات، وتراجع القدرة الشرائية، وتزايد معدلات البطالة بين الشباب، وهي عوامل قد تؤدي إلى احتقان داخلي أوسع. وبالنظر إلى تجارب السنوات السابقة، فإن العقوبات الأممية تختلف عن العقوبات الأمريكية المنفردة في أنها تفرض عزلة شبه كاملة؛ ما يضاعف حدة الانعكاسات على البنية الاقتصادية والاجتماعية للشعب الإيراني.

فلم يعد الملف النووي في إيران قضية خارجية؛ بل تحول إلى ركيزة للتعبئة السياسية الداخلية، فالأصوليون يستخدمون التهديد بالعقوبات، أو تفعيل آلية الزناد؛ لتعزيز خطاب الصمود والمقاومة، وتقديم أنفسهم كحماة السيادة الوطنية في مواجهة الغرب. في المقابل، يحاول الإصلاحيون تحميل المحافظين المسؤولية، مستندين إلى سردية أن نهج التصعيد أضاع فرص التفاوض والاندماج الدولي، لكن على أرض الواقع، يغلب خطاب الأصوليين بحكم السيطرة على مؤسسات الدولة الحيوية؛ ما يجعل الملف النووي أداة لإعادة إنتاج الشرعية للنظام أكثر مما هو محل نقاش إستراتيجي؛ ومن ثم تتحول الأزمة إلى وسيلة لتوحيد الصف الداخلي، بدلًا من أن تكون نقطة ضعف للنظام.

لكن في ظل الأزمات الاقتصادية المتوقعة، يبقى احتمال اندلاع احتجاجات شعبية قائمًا، لا سيما في المدن الكبرى، وبين الفئات الشبابية والطبقات الوسطى المتضررة من العقوبات على نحو مباشر، ومع ذلك، فإن النظام الإيراني يمتلك خبرة طويلة في إدارة الاحتجاجات والحد من انتشارها، سواء عن طريق أدوات القمع، أو من خلال تبني سياسات دعم اجتماعي مؤقتة، مثل توزيع مساعدات نقدية، أو دعم أسعار السلع الأساسية. على الجانب الآخر، يمكن للسلطة أن توظف عودة العقوبات الأممية لتأطير الأزمة بوصفها عدوانًا خارجيًّا؛ ما قد يعزز شرعية النظام في نظر قطاعات من المجتمع ترى أن إيران مستهدفة. بهذا المعنى، قد تتحول الأزمة إلى فرصة لتجديد خطاب الشرعية الثورية، حيث تلتف بعض الشرائح حول القيادة بوصفها المدافع الأخير عن السيادة الوطنية.

يكشف هذا أن الانعكاسات الداخلية لتفعيل آلية الزناد على إيران معقدة ومتناقضة في آن واحد؛ فمن جهة، ستتعمق الأزمات الاقتصادية والاجتماعية على نحو غير مسبوق؛ ما قد يغذي احتمالات السخط الشعبي، ومن جهة أخرى، يمكن للنظام أن يوظف هذه الأزمة لتعزيز شرعيته من خلال خطاب المقاومة، وإعادة تأطير المعركة في سياق صراع وجودي مع الغرب؛ وبذلك تصبح تداعيات آلية الزناد ساحة اختبار مزدوجة؛ اختبار لقدرة الشعب على الصمود، واختبار لقدرة النظام على تحويل الأزمة إلى أداة لبقاء السلطة، وتعزيز قبضتها الداخلية.

خيارات إيران لمواجهة العقوبات الغربية

لن تقبل إيران عودة العقوبات الأممية دون رد؛ لذا فإن خياراتها -رغم محدوديتها- قد تتراوح بين تعليق التعاون النووي وتوسيع الشراكات مع روسيا والصين، مع إبقاء ورقة النفوذ الإقليمي حاضرة كورقة ضغط موازية، وهو ما يتضح فيما يلي:

  1. الخيار الدبلوماسي: قد تلجأ الجمهورية الإسلامية إلى تكثيف اتصالات مع روسيا والصين وبلدان الجنوب؛ لمحاولة إقناع البلدان الأوروبية بالتراجع من خلال عروض تفاوضية خارج إطار الأمم المتحدة، لكن فرص نجاح هذا الخيار ضعيفة، خاصة بعد رفض المقترح الروسي والصيني إرجاء تنفيذ آلية الزناد في جلسة مجلس الأمن الأخيرة 6 أشهر؛ لذا اكتفت إيران باستدعاء سفرائها في ألمانيا وبريطانيا وفرنسا للتشاور بهدف إبقاء رفضها للقرار الأممي في سياق دبلوماسي.
  2. الخيار القانوني: أمام طهران خيار للتقدم بالطعن قانونيًّا على شرعية تفعيل الآلية، وأنها أداة سياسية، مع التلويح بإجراءات قانونية وإعلامية أمام الأمم المتحدة ومحاكم دولية، أو استعراض التبعات الدبلوماسية على دول المنطقة؛ ما يقدم غطاءً سياسيًّا، ويجذب التأييد من حلفاء إيران، غير أن هذه الخطوة تُعد خطوة تكتيكية وليست حلًا عمليًّا لمواجهة العقوبات الغربية.
  3. الخيار النووي: قد توظف إيران ورقتها النووية للرد على إعادة تفعيل آلية الزناد من خلال أحد الإجراءين المتضادين؛ الأول عن طريق تعليق التعاون – ولو مؤقتًا- مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، رغم الاتفاق الأخير الموقع بوساطة مصرية في سبتمبر (أيلول) الجاري، واستئناف تخصيب اليورانيوم بمعدلات أو مستويات أعلى عبر التعاون مع روسيا والصين، مع إغلاق أو تشديد شروط التفتيش؛ ما يسرع عزلة إيران، ويبرر إجراءات عسكرية، أو فرض عقوبات صارمة أكثر ضدها، في حين أن الإجراء الثاني قد تقدم طهران فيه تنازلات محدودة لإبقاء نافذة التفتيش مفتوحة، واستثمارها في مفاوضات مستقبلية مع أوروبا أو وساطة إقليمية، وهو ما قد يخفف الضغوط الاقتصادية، لكنه قد يُعرض النظام لانتقادات داخلية بوصفه تنازلًا من النظام الإيراني.
  4. الخيار الاقتصادي: قد تأتي الاستجابة الاقتصادية على رأس أولويات خيارات إيران تجاه أزمة إعادة العقوبات عليها، فقد تستخدم شبكات تجارية بديلة عبر طرف ثالث، وشحن عبر شركات غير خاضعة للعقوبات، وتكثيف التبادل التجاري مع روسيا والصين، مع زيادة التركيز على صادرات غير نفطية، أو قنوات تهريبية؛ لتقليل تأثر الاقتصاد الإيراني على المدى المنظور، وهو ما يمكن أن يخفف التأثير جزئيًّا، لكنه لا يعوض خسائر النظام الإيراني بكاملها.
  5. الخيار العسكري: قد تصعد إيران إجراء عمليات انتقامية مباشرة، أو عن طريق وكلاء لاستهداف مصالح الدول الأوروبية في المنطقة، أو تكثيف هجمات إلكترونية ضد الغرب؛ ما يخدم منطق الردع داخليًّا، ويضغط على الخصوم خارجيًّا، لكنه يرفع احتمال مواجهة أوسع، وربما ضربات استباقية على مواقع إيرانية، كما قد تسعى طهران إلى تسريع إقامة تحالفات أمنية أو عسكرية مع حلفائها الإقليميين، وعلى رأسهم باكستان، والصين، وروسيا.

تقييم الخيارات الإيرانية

يمثل تفعيل آلية الزناد نقطة تحول في مسار العلاقة بين إيران والقوى الغربية، فهي ليست مجرد إجراء قانوني لإعادة فرض عقوبات الأمم المتحدة؛ وإنما اختبار حقيقي لقدرة طهران على التوفيق بين خطابها العلني المتشدد وإمكاناتها العملية المحدودة في بيئة دولية مضطربة، حيث اتسمت التصريحات الإيرانية عقب الحديث عن تفعيل آلية الزناد بالحدة، إذ برزت تهديدات بإنهاء التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ومراجعة الالتزام بمعاهدة حظر الانتشار النووي، فضلًا عن التلويح باستخدام أوراق الضغط الإقليمية. هذه التصريحات، التي انعكست بوضوح في خطابات القيادات العليا، وفي الصحف القريبة من الحرس الثوري، تهدف إلى تحقيق ثلاثة أهداف رئيسة؛ الردع من خلال بث رسالة قوية بأن طهران لن تقبل بفرض عقوبات دون تكلفة على الطرف الآخر، والتعبئة الداخلية من خلال توحيد الرأي العام بشأن خطاب مقاوم وتخفيف الضغوط الداخلية الناتجة عن العقوبات الاقتصادية، وأخيرًا: المساومة لفتح مجال للتفاوض من خلال التصعيد الخطاب الإيراني؛ على أمل الحصول على تنازلات في مسارات أخرى.

عمليًّا، تمتلك إيران القدرة على رفع نسب التخصيب، وتقييد وصول المفتشين، وهو ما قامت به جزئيًّا في السنوات الأخيرة، غير أن الانتقال من التهديد إلى الانسحاب الكامل من معاهدة حظر الانتشار النووي، أو طرد المفتشين الدوليين ينطوي على تكلفة سياسية عالية، إذ سيؤدي إلى عزل إيران دبلوماسيًّا، وربما يبرر تحركات عسكرية ضد منشآتها، ما يكشف أن قدرة طهران على التطبيق الكامل محدودة، وإن كانت قادرة على خطوات تصعيدية جزئية محسوبة. فضلًا عن هذا، تُعلن إيران في خطابها العلني ثقة كبيرة بروسيا والصين كحائط صد أمام العقوبات الغربية، غير أن قدرة موسكو وبكين على تعطيل آلية الزناد محدودة؛ لطبيعة هذه الآلية التي تتجاوز الفيتو، ليصبح أقصى ما يمكن أن تحصل عليه طهران هو دعمًا سياسيًّا، وتسهيلات اقتصادية في قطاعات محددة.

ومع أن الخطاب الرسمي الإيراني يتحدث عن اقتصاد مقاوم قادر على تحمل العقوبات، فإن الواقع يشير إلى هشاشة الاقتصاد الإيراني، وارتباطه بالأسواق السوداء، وشبكات معقدة من التحايل التجاري، فالقدرة على الصمود موجودة، لكن بكلفة اجتماعية مرتفعة تشمل التضخم والبطالة، وتراجع قيمة العملة المحلية، وهذا يحدّ فاعلية الخطاب المتفائل بشأن قدرة الجمهورية الإسلامية على الالتفاف على العقوبات، ولعل الورقة الأبرز التي لطالما تلوح بها إيران تتمثل في توظيفها للجماعات المسلحة الحليفة لها في العراق ولبنان واليمن، لكن الارتكاز على تلك الجماعات على نحو واسع قد يستدعي ردًّا إقليميًّا أو دوليًّا لا تقدر طهران على تحمل تبعاته؛ لذلك يبقى استخدامها في الغالب أداة ضغط غير مباشرة، أكثر من كونها خيارًا استراتيجيًّا للنظام الإيراني.

واستنادًا إلى ما سبق، يمكن القول إن إيران تتحرك في مساحات ضيقة، ولديها خيارات محدودة بعد تطبيق آلية الزناد، بين ضغوط خارجية متزايدة، وأوضاع داخلية صعبة، فثمة فجوة جلية بين التصريحات العلنية المتشددة والقدرة العملية على تنفيذها، حيث يستهدف الخطاب الرسمي رفع سقف المساومة، وكسب التأييد الداخلي للنظام، ويحاول تقديم صورة عن دولة مستعدة للتصعيد والانسحاب من الاتفاقيات الدولية، لكن القدرة الفعلية لطهران تشير إلى سياسة تصعيد محسوب لا تصل إلى حد الاندفاع في خيارات نووية وعسكرية؛ ومن ثم فمن المرجح أن تقوم السياسة الإيرانية في المرحلة الراهنة على الموازنة بين “التهديد اللفظي” و”التنفيذ المدروس”؛ في محاولة لتقليل الخسائر الإستراتيجية، وإبقاء نافذة المناورة مفتوحة.

ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع