نواصل في هذا المقال عرض الكتاب الذي صدر عام 2022 عن المركز القومي للترجمة وعنوانه “إفريقيا في روسيا، روسيا في إفريقيا.. ثلاثة قرون من التلاقي”، وقد صدر في لغته الأصلية عام 2007، من تحرير مكسيم ماتوسفيتش.
والكتاب ينطلق من أن المواجهة والتلاقي بين المجتمعين الإفريقي والسوفيتي عكست كل التناقضات الكامنة، وتجلى ذلك في براعة دخول السوفيت في العالم الثالث، وفي قلق روسيا القديم من الأجانب، فكان الخطاب العميق المناهض للاستعمار لدى المؤسسة السوفيتية يخفي قليلًا العنصرية المتأصلة في البلاد، وخوفها من الأجانب رسميًّا. وغالبا ما كان الأفارقة في الاتحاد السوفيتي مرتبكين من الخليط المحير من الدعاية التي ترعاها الدولة، وواقع العنصرية اليومية، والكرم الزائد، والحفاوة التي يلاقونها لدى كثير من الشعوب السوفيتية.
كان الأفارقة يجدون أنفسهم أحيانًا موضعًا للسخرية في أثناء السير في الشوارع، أو ركوب المواصلات. ولكن في الوقت نفسه كان كثير من السوفيت مفتونين بوضوح بحماسة ضيوفهم وغرابتهم. وعلى عكس تجارب الأفارقة في الدول الغربية، كان طلاب إفريقيا يتمتعون بشعبية بين الروس. وخلال العقود الثلاثة من الستينيات إلى الثمانينيات تزوج مئات من النساء السوفيتيات بالطلاب الأفارقة.
ويمضي محرر الكتاب في تناول عدة قضايا مهمة في علاقة الطرفين، في مقدمتها الطلاب الأفارقة، فيرى أن معظم الأفارقة كانوا يذهبون إلى الاتحاد السوفيتي لأغراض عملية. فعلى عكس الزوار في العشرينيات والثلاثينيات، كان قليل منهم يهتمون بالاعتبارات الأيديولوجية؛ إذ كان الاتحاد السوفيتي يقدم فرصة تعليمية لا يمكن تجاهلها، ولكنه كان يقدم أيضًا رؤية بديلة للتنمية وجدها كثير من الأفارقة جذابة، فقد رسخ الاتحاد السوفيتي صورته في العالم الثالث مؤكدًا تشابهًا واضحًا في المصير التاريخي بين الاثنين، حيث كان متخلفًا كثيرًا عن معظم الدول الغربية المتقدمة في أوائل القرن، ولكن الدولة السوفيتية مرت بعملية تحديث شاملة وسريعة قبل الحرب العالمية الثانية، وكان هذا عملًا اقتصاديًّا بطوليًّا ملحوظًا (مع أنه تحقق بتكلفة مذهلة في الأرواح البشرية) حتى تحولت إلى عملاق صناعي، وكان بعض من النخب الإفريقية الجديدة يتلهف على تقليدها. وحتى في ذروة الحرب الباردة، ظلت الأيدولوجية تمثل اهتمامًا ثانويًّا لمن كانوا يبحثون عن المعرفة في أرض الاشتراكية، حيث تعرف الطلاب الأفارقة الذين كانوا يدرسون في مؤسسات التعليم العالي السوفيتية منافع التجربة السوفيتية لمشروعات التحديث في بلادهم، ولكن الحياة في الاتحاد السوفيتي زودتهم أيضا بفرصة إعادة التقييم والتفسير النقدي لبعض “الحقائق الشائعة” عن الاتحاد السوفيتي، وهذه عملية تحليل ثقافي واجتماعي ستستمر في تعريف مفاهيم الاتحاد السوفيتي عند العودة إلى البلاد؛ ونتيجة لذلك، كانت صور روسيا والاتحاد السوفيتي في إفريقيا متناقضة غالبًا بسبب خلط عدد من الأنماط الاستعمارية التقليدية مع الرؤى المثالية للعظمة العلمية والصناعية، ومع التجارب التي مر بها وأبلغ عنها الأفارقة الذين كانوا يقيمون في الاتحاد السوفيتي بعد عودتهم إلى البلاد.
دفعت الحرب الباردة الاتحاد السوفيتي إلى أعماق إفريقيا؛ مما حولها إلى مسرح مهم في الصراع الأيديولوجي العالمي، حيث تدفق آلاف من الفنيين والمستشارين السياسيين والعسكريين السوفيت إلى الدول المستقلة حديثًا؛ لمساعدتها في سعيها على طريق التوجه الاشتراكي. وكذلك قدم الاتحاد السوفيتي مساعدات عسكرية ولوجستية إلى حركات التحرر جنوبي إفريقيا.
وأجبر منطق صراع الحرب الباردة القوى العظمى على التنافس على “قلوب” إفريقيا وعقولها بتزويد شبابها بالمنح التعليمية، فعقب مهرجان الشباب الشهير في موسكو عام 1957، بدأ الاتحاد السوفيتي باستقبال أعداد متزايدة من الطلاب الأفارقة، حيث كانت مؤسسات التعليم العالي، مثل “جامعة صداقة باتريك لومومبا”، تراعي الاحتياجات الأكاديمية لآلاف الشباب المتعطشين إلى المعرفة من دول العالم الثالث، ومن بينهم كثير من الأفارقة، وخلق وجود مجتمعات حيوية من الشباب الإفريقي في المدن السوفيتية آلية جديدة في العلاقة بين المواطنين السوفيت وضيوفهم الغرباء، حيث جلب الطلاب الأفارقة معهم أنماط حياة وجماليات جديدة، وأثاروا وعي السوفيت بالعالم الخارجي عامةً؛ إذ إن المواطنين السوفيت الذين كانوا معزولين عقودًا عن بقية البشرية، أصبح لديهم الآن فرصة لرؤية شخصيات تجسد الدعاية الدولية حية في شوارعهم، في حين أصبح الطلاب الأفارقة قنوات طبيعية لنقل المعرفة بروسيا والاتحاد السوفيتي إلى أعماق إفريقيا.
وعندما وصل ميخائيل غورباتشوف إلى السلطة في الاتحاد السوفيتي عام 1985، حدث نوع ما من التوازن في العلاقات بين إفريقيا المستقلة والاتحاد السوفيتي، حيث ظلت مصداقية الاتحاد السوفيتي في مساندة حركات تحرير إفريقيا راسخة تمامًا، وشارك الاتحاد السوفيتي في عدد من مشروعات التنمية والصناعة الإفريقية، وأصبح الطلاب الأفارقة يمثلون مشهدًا مألوفًا في معظم الجامعات السوفيتية الكبيرة، وتمتع كثير منهم بدرجة من الشعبية في المجتمع الطلابي. وبدأ جيل جديد من الأطفال السوفيت من أصول إفريقية جزئيًّا بدخول الحياة العامة السوفيتية، ولكن إفريقيا ظلت بعيدة وغريبة عن المواطن السوفيتي العادي، غير أنها وجدت فضاءها المحدود في الخيال الشعبي السوفيتي، وفي الخطاب الثقافي والسياسي الرسمي.
وكشفت “البيروسترويكا” (إعادة الهيكلة) عن الاختلالات الهيكلية في النظام السوفيتي، ودعت إلى حوار علني بصورة متزايدة، وإعادة تقييم الوضع الخاص للاتحاد السوفيتي الذي أصبح يشغله في المجتمع الدولي، فعندما كانت الحرب الباردة تتراجع، كان يُلقَى اللوم في كثير من المشكلات الاقتصادية للبلاد على الالتزامات الخارجية، فكان دعاة “البيروسترويكا” يدعون أن الاتحاد السوفيتي قوض قاعدته الاقتصادية الخاصة به بتوجيه المساعدات إلى دول العالم الثالث؛ فقد كان العالم الثالث “يمتص” الاتحاد السوفيتي، ومن ثم كان يؤدي إلى انخفاض مستوى معيشة مواطنيه، وكان رد فعل الجمهور العام على هذه الاكتشافات مصحوبًا بانفجار متوقع في المشاعر المعادية للعالم الثالث. ولم يستطع الاتحاد السوفيتي تحمل مساندة المعتمدين عليه في المناطق الغريبة البعيدة. وغالبًا ما تحمل الأفارقة العبء الأكبر فيما أصبح يمثل حملة تلقائية للتنديد بتقديم المساعدات السوفيتية للخارج؛ لأنهم كانوا الممثلين الأكثر ظهورًا للعالم النامي في الفضاءات العامة السوفيتية.
وأبلغ الأفارقة المقيمون في الاتحاد السوفيتي في ذلك الوقت عن زيادة في عدد الحوادث العنصرية، وتزايد الصعوبات في استمرار المنح الحكومية لمواصلة تعليمهم في البلاد. ومع مرور البلاد بمرحلة انتقالية عنيفة، وتفكك فعلي، خرجت إفريقيا -من جانبها- من إطار الوعي العام في الاتحاد السوفيتي المترنح. وكذلك كان هناك انتشار لخيبة الأمل في القارة من اتجاه الإصلاحات السوفيتية التي تطلبت انسحاب الاتحاد السوفيتي شبه الكامل من العالم الثالث. وأدى تراجع الحرب الباردة، والتقارب بين الخصمين الأيديولوجيين السابقين (الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة) إلى إضعاف القدرة على المناورة السياسية لدول العالم الثالث، والقدرة على الحصول على امتيازات من القوتين العظميين بوضع إحداهما في مواجهة الأخرى.
ولكن إذا كانت المواجهة بين إفريقيا والاتحاد السوفيتي وصلت إلى نهايتها المنطقية مع تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991، فإن الصلات التاريخية والثقافية استمرت، فبعد بداية “البيروسترويكا” في الاتحاد السوفيتي بنحو عشرين سنة، كان يسهل معرفة الوجود الإفريقي في روسيا الجديدة؛ فلا يزال الطلاب الأفارقة يصلون إلى روسيا بحثًا عن تعليم مقبول التكلفة، وتظهر مجتمعات الشتات الإفريقي في المدن الروسية الكبيرة. وبينما يواصل الأفارقة في روسيا مواجهة التحديات التي تفرضها العنصرية يوميًّا، والمجتمع الذي يجهل أفكار التنوع الثقافي أساسًا، فقد احتلوا مؤخرًا موقعهم الفريد داخل المجال الثقافي الروسي أيضًا، حيث انتشرت النوادي والمطاعم ذات الطابع الإفريقي في موسكو وسانت بطرسبورغ. ويتمتع الممثلون الأفارقة والروس الأفارقة بشعبية واعتراف كبير في المجتمع الروسي، مثل كثير من الشخصيات التليفزيونية الروسية الإفريقية. ويلعب لاعبو كرة القدم الأفارقة في النوادي الروسية، ويشكلون قاعدة مشجعين متحمسين حتى في المدن الروسية المحلية. ويجتمع الروس من أصول إفريقية في جمعيات ثقافية حيوية، ويضع ممثلو الطبقة الوسطى الروسية الجديدة في أذهانهم محطات إفريقية عند التخطيط لسفريات إجازات الصيف.
وربما يستغرق المجتمع المتغير في روسيا بعض الوقت لتعريف ذاته في مواجهة جماعات الأقليات والتقاليد الثقافية التي تبدو غير متوافقة مع احتياجاته المباشرة. وبالمنطق نفسه، فإن روسيا فقدت أرضية كبيرة في القارة الإفريقية منذ أيام الحرب الباردة. ومع ذلك، فإنه من المفيد أن نتذكر أن المواجهة بين إفريقيا وروسيا لم تبدأ بالأمس، فعادة ما تجتاز الروابط التاريخية والأنماط الطويلة الأجل من التبادل الثقافي اختبارات الزمن، ولكن مستقبل الصلات الإفريقية الروسية سيعتمد على عمق معرفتنا وفهمنا لتطورها التاريخي.
سمحت نهاية الحرب الباردة، وظهور مجتمع الدارسين العالمي المتواصل على نحو متزايد، بإعادة تقييم لمجموعة من الروايات التاريخية العابرة للقوميات. وكذلك فإن اختفاء حقيقة الحرب الباردة أضاء مشاهد تاريخية وثقافية أكثر تعقيدًا وتشابكًا مما كان يعتقد سابقًا؛ ونتيجة لذلك، رأينا موجة حديثة من الاهتمام البحثي والشعبي بموضوعات خارج التقاليد النظامية المقبولة، ويعكس هذا الاهتمام الفكري الذي ظهر حديثًا طبيعة عصرنا كثيرًا جدًا؛ وذلك مع قصر المسافات والآليات الاجتماعية التي تتميز بالاختلاط والتعددية الثقافية. ويمكن أن تجد قصة العلاقات الإفريقية الروسية مكانها اللائق بين الموضوعات الحديثة في بحوث ما بعد الحرب الباردة بسهولة؛ فمن ناحية، نجد أنها تضع إفريقيا خارج المناطق الجغرافية والمجال المعرفي التقليدي، وليس في مواقع الشتات التقليدية، ولا في سياق تجارة الرقيق عبر الأطلنطي أو المحيط الهندي، ومن ناحية أخرى، فإنها تطرح تساؤلات عن بعض المعتقدات الشائعة عن العزلة التاريخية الروسية بإعادة تحديد خطوط طول البلاد وعرضها على خريطة الاتصالات العالمية.
وبينما كان واضحًا أن الدراسات السوفيتية عن إفريقيا تعرقلت بسبب العقيدة الأيديولوجية ومحدودية الوصول إلى المصادر الأولية والتجربة الميدانية، قدم المتخصصون السوفيت في الدراسات الإفريقية عبر السنين قدرًا كبيرًا من العمل، وكان معظمه تحت رعاية “معهد إفريقيا بموسكو Moscow’s Africa Institute” (أو “معهد الدراسات الإفريقية Institute of African Studies”)، وكان لنهاية الحرب الباردة، وما تبعها من انهيار الاتحاد السوفيتي، عدة آثار متناقضة غالبًا على الدراسات الإفريقية في روسيا، حيث تقلص تمويل الدولة لبحوث الدراسات الإفريقية، وأجبرت الضغوط الاقتصادية عددًا من الباحثين الشباب الواعدين على ترك المجال الأكاديمي. وكان على الآخرين البحث عن العمل في الخارج. ومع ذلك، استطاع المتخصصون في الدراسات الإفريقية، الذين تكيفوا مع الواقع بعد السوفيتي، أن يصلوا إلى السجلات، وأن يحصلوا على فرص جديدة للسفر على نحو غير مسبوق في الحقبة السوفيتية؛ ونتيجة لذلك، خرجت بحوث مذهلة جديدة من روسيا في السنوات الأخيرة.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.