تقدير موقف

مقاربات إستراتيجية لما بعد الحرب الإسرائيلية الإيرانية

إعادة هندسة الدور التركي


  • 3 يوليو 2025

شارك الموضوع

جسّد الصراع بين إسرائيل وإيران إحدى أبرز صور التنافس الإستراتيجي في الشرق الأوسط خلال العقود الأربعة الماضية، غير أن تطوره إلى مواجهة عسكرية مباشرة  يعد تحولًا نوعيًّا في بنية التوازن الإقليمي، وهو ما قد يعيد تشكيل معادلات القوة في الشرق الأوسط، ليس فقط عن طريق إضعاف إيران، ولكن بفتح مجال أوسع لإعادة التموضع للقوى الإقليمية والدولية في المنطقة، وفي هذا السياق تجد تركيا نفسها أمام فرصة ذهبية في بيئة إقليمية تعاد صياغتها على أنقاض النفوذ الإيراني، لتسهم في رسم خريطة تحالفات جديدة، وأداء دور مزدوج بين الغرب والعالم الإسلامي؛ ما يفرض أهمية استشراف محددات ومعوقات الدور الذي يمكن أن تؤديه تركيا بعد انتهاء الحرب الإسرائيلية الإيرانية.

السياق الإقليمي بعد الحرب الإسرائيلية الإيرانية

مثّلت الحرب الإسرائيلية الإيرانية نقطة تحول في بنية النظام الإقليمي للشرق الأوسط، فعلى مدار سنوات، كانت المواجهات بين الطرفين تقتصر على حروب بالوكالة، وضربات نوعية محدودة، غير أن انزلاق هذه العلاقة العدائية إلى مواجهة عسكرية شاملة يُنتج بيئة إستراتيجية جديدة، تتغير فيها موازين القوى، وتتبدل الأدوار الإقليمية، حيث استند الصراع بين إسرائيل وإيران إلى طموحين متعارضين؛ فمن جهة تسعى إيران إلى فرض نفسها كقوة مهيمنة من خلال ما يسمى بمحور المقاومة الذي يمتد من طهران إلى بيروت عبر بغداد ودمشق، ومن جهة أخرى، تسعى إسرائيل إلى تحجيم النفوذ الإيراني، ومنع تطويره إلى قدرات عسكرية نووية أو صاروخية تمثل تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي، وقد فشلت الأطر التقليدية للردع، والوساطة الدولية في احتواء هذا التوتر؛ ما قاد إلى تصعيد عسكري مفتوح.

أولى نتائج هذا التصعيد كانت تراجع القوة الإيرانية النسبية في الإقليم، خاصة في الجبهات الخارجية، إذ فقدت إيران أجزاء من بنيتها الأمنية في سوريا والعراق ولبنان، سواء عن طريق تدمير مواقع، أو انسحاب تدريجي لحلفائها نتيجة الضربات الإسرائيلية أو الضغوط الغربية، كما أُضعف موقفها الداخلي نتيجة تزايد الاستنزاف الاقتصادي والاحتجاجات الشعبية، مما قيّد قدرتها على الانخراط الخارجي. في المقابل، استفادت إسرائيل من الصراع في تعزيز مشروعها الإستراتيجي، سواء عن طريق عمليات استخباراتية متقدمة، أو ضربات دقيقة على أهداف نوعية، ما فتح المجال أمام تطوير علاقاتها العلنية والسرية مع عدد من الدول العربية التي باتت تنظر إلى إسرائيل بوصفها عنصرًا موازنًا للتهديد الإيراني.

ومع هذا التحول، برز فراغ إستراتيجي في مناطق النفوذ الإيرانية، لا سيما في سوريا والعراق ولبنان؛ لذا اندفعت قوى إقليمية، على رأسها تركيا والسعودية، لمحاولة ملئه وفق المصالح والتصورات الأمنية لكل طرف؛ ففي سوريا، تسعى تركيا إلى تعزيز وجودها العسكري بعد سقوط نظام الأسد، وفي العراق تفعل أنقرة تعاونها الاستخباراتي مع أربيل وبغداد، أما السعودية فتستثمر هذا التراجع الإيراني لتعزيز نفوذها في الملفين اليمني واللبناني، ويواكب هذا التغير أيضًا تحول في خريطة التحالفات، إذ سرعت الحرب من إيقاع التشبيك الأمني العربي الإسرائيلي، سواء أكان علنيًّا أم سريًّا، لا سيما في المجالات السيبرانية، والمراقبة الجوية، وأمن الممرات البحرية، حيث أعادت الحرب بين إسرائيل وإيران ترتيب أولويات الأمن الإقليمي، لتبرز تهديدات من نوع جديد ترتبط بالحرب السيبرانية، والطائرات المسيرة، وحروب الوكلاء، وهو ما يدفع معظم دول المنطقة إلى تعزيز إنفاقها الدفاعي، وتحديث قدراتها التقنية، وبناء تحالفات أمنية جديدة قد تشمل ترتيبات متعددة الأطراف.

أما على مستوى القوى الكبرى، فتبدو الولايات المتحدة معنية بإعادة ترسيخ وجودها العسكري دون التورط في مواجهة برية، وذلك عن طريق قواعدها في الخليج وشرق المتوسط، وتبدو روسيا في موقف حرج، إذ قد تخسر نفوذها في المنطقة إذا تآكل الدور الإيراني، فيما تتابع الصين الوضع بحذر، بين حاجتها إلى استقرار تدفقات النفط ومصالحها في إيران؛ ومن ثم لم تقتصر آثار الحرب على طرفيها المباشرين، بل تعدتها إلى إعادة هيكلة إقليمية شاملة، طالت معادلات النفوذ، وشبكات التحالف والأولويات الأمنية، ويظهر في هذا السياق أن تركيا -ومعها قوى إقليمية أخرى- تقف أمام فرصة إستراتيجية لإعادة تموضعها، وطرح نفسها فاعلًا مركزيًّا في البيئة الإقليمية الجديدة.

فرص تركيا بعد الحرب الإسرائيلية الإيرانية

مع نهاية الحرب التي أسفرت عن إضعاف البنية العسكرية والمالية الإيرانية، فإن مناطق النفوذ التقليدي لطهران في سوريا والعراق ولبنان واليمن ستكون أكثر عرضة لإعادة الاختراق من قوى إقليمية منافسة، وتعد تركيا الدولة الأكثر جاهزية من حيث البنية العسكرية والانتشار الجغرافي، لا سيما في سوريا وشمال العراق، حيث إن هذا التراجع الإيراني يمثل فرصة ذهبية لأنقرة لتوسيع حضورها الأمني والسياسي، إما على نحو مباشر، وإما من خلال دعم كيانات محلية متحالفة معها، وتتضح معالم هذا فيما يلي:

  • تركيا وسيطًا إقليميًّا: بخلاف أطراف إقليمية أخرى، حافظت تركيا خلال السنوات الأخيرة على علاقات مفتوحة مع كل من إيران وإسرائيل، كما أبقت قنواتها مع دول الخليج نشطة رغم التوترات السابقة. هذه القدرة على الحفاظ على اتصالات متعددة تمنح أنقرة ميزة دبلوماسية يمكن استثمارها في مرحلة ما بعد الحرب، إذ قد تحتاج الأطراف المتنازعة إلى وسيط يمتلك علاقات متوازنة، وقد تسمح هذه الفرصة لتركيا بأن تعزز من موقعها بوصفها قوة تنظيمية وليست مجرد طرف في التوازنات الجديدة.
  • تعميق النفوذ التركي في سوريا والعراق: تُعد كل من سوريا والعراق امتدادًا مباشرًا للأمن القومي التركي، لا سيما في ضوء التهديدات المرتبطة بحزب العمال الكردستاني، والنظام الهش بعد سقوط الأسد؛ لذا فإن تراجع إيران، وانشغال روسيا، قد يتيحان لتركيا فرصة توسيع نطاق تدخلها الأمني في شمال البلدين، سواء من خلال دعم الجماعات المحلية المتحالفة معها، أو من خلال ترتيبات عسكرية أكثر عمقًا. كما يُتوقع أن تعمل تركيا على ترسيخ وجودها الطويل الأمد في هذه المناطق، خاصةً إذا تم احتواء التهديد الإيراني وتراجع دوره في تمكين الفواعل الشيعية المسلحة.
  • التمدد نحو آسيا الوسطى والقوقاز: من المناطق الأكثر تأثرًا بتداعيات الحرب وانكفاء إيران، منطقة آسيا الوسطى وجنوب القوقاز، حيث المنافسة مفتوحة بين روسيا والصين وتركيا، وقد استثمرت أنقرة خلال العقدين الماضيين في علاقاتها مع جمهوريات تركية، مثل أذربيجان وأوزبكستان وكازاخستان، من خلال منظمة الدول التركية، والتعاون الثقافي والتعليمي. وبعد الحرب، قد تجد تركيا فرصًا أكبر لملء فراغ التعاون الأمني والاقتصادي في تلك الدول، خاصةً إذا تراجعت قدرة إيران وروسيا على الاحتفاظ بنفوذهما هناك، في ظل أزمات داخلية وضغوط غربية متزايدة.
  • الانفتاح على الخليج العربي: أمام توجه بعض دول الخليج لإعادة هيكلة أولوياتها الأمنية بعد الحرب، قد تسعى تركيا إلى توظيف التفاهمات السياسية والاقتصادية مع قطر والإمارات والسعودية، لتقديم نفسها بوصفها شريكًا أمنيًّا واقتصاديًّا موثوقًا به، ويمكن لتركيا أن تعرض خدماتها في مجالات التدريب العسكري، وتكنولوجيا الدفاع، والطاقة المتجددة، والمقاولات، خاصة في ظل خبراتها المتقدمة في هذه القطاعات، وإذا أحسنت أنقرة إدارة خلافاتها مع الرياض وأبو ظبي، فقد تجد موطئ قدم أقوى في المعادلة الخليجية الجديدة، خاصة في ظل تراجع الدور الإيراني فيها.
  • إعادة بناء النفوذ الرمزي والثقافي: الفراغ الذي قد يتركه تراجع الطرح الأيديولوجي الإيراني في العالم الإسلامي يفتح المجال أمام صعود رمزي تركي مبني على نموذج الإسلام المحافظ الحداثي، الذي يجمع بين الهوية الإسلامية والتنمية الاقتصادية والانفتاح على الغرب، وقد تروج تركيا لنموذجها من خلال التعليم، والإعلام، والمنح الدراسية، والمساعدات الإنسانية، ويمكن لهذا التوسع الثقافي أن يدعم الحضور السياسي لأنقرة، ويؤسس لتحالفات ناعمة يصعب على خصومها مواجهتها عسكريًّا أو اقتصاديًّا.

أدوات النفوذ التركي بعد الحرب الإسرائيلية الإيرانية

يشكل المشهد الإقليمي في الشرق الأوسط بعد الحرب الإسرائيلية الإيرانية بيئة إستراتيجية متغيرة، تنطوي على انحسار أدوار تقليدية، وصعود طموحات لقوى متوسطة تسعى إلى ملء الفراغ الجيوسياسي الناتج. في هذا السياق، تظهر تركيا بوصفها واحدة من أبرز الدول التي تمتلك أدوات نفوذ متعدد الأبعاد تدفعها لتكون مرشحة لأداء أدوار أوسع بعد الحرب، سواء من خلال التدخل المباشر، أو من خلال النفوذ غير الرسمي، لعل من أبرزها ما يلي:

  • إعادة التموضع الأمني والعسكري التركي: يمثل الوجود العسكري التركي شمال سوريا وشمال العراق ركيزة جاهزة لأي توسع أمني مستقبلي، وتوظف تركيا هذه القواعد كمنصات إستراتيجية للتعامل مع تهديدات متعددة، مثل تنظيمات كردية تراها أنقرة إرهابية، أو لمراقبة تحركات ميليشيات موالية لإيران في مناطق رخوة أمنيًّا. وبعد تراجع الحضور الإيراني في هذه الجبهات، يُتوقع أن تسعى أنقرة إلى ترسيخ هذا الوجود ميدانيًّا، وربما دفعه إلى مناطق أوسع في سياق ترتيبات أمنية جديدة، سواء باتفاقات ثنائية مع الحكومات المحلية، أو بتفويض دولي ضمن إطار إقليمي.
  • الصناعات الدفاعية بوصفها أداةً للتأثير: شهدت تركيا خلال العقد الأخير طفرة نوعية في قطاع الصناعات الدفاعية، مكنتها من التحول إلى مصدر مهم للطائرات المسيّرة، والأسلحة الذكية، وأنظمة القيادة، وقد أثبتت فاعليتها في عدد من الصراعات على غرار أذربيجان وليبيا وسوريا وأوكرانيا؛ ما عزّز التقدير الجيوسياسي للصناعة التركية؛ ومن ثم في مرحلة ما بعد الحرب، قد تؤدي هذه الصناعات دورًا إستراتيجيًّا في نسج تحالفات عسكرية جديدة مع دول فقدت مزوديها التقليديين، مثل بعض جمهوريات آسيا الوسطى، أو دول جنوب آسيا التي تسعى إلى تنويع مصادر تسليحها.
  • حليف أمني بديل: في ضوء انشغال الولايات المتحدة بتنافسها مع الصين، وتراجع استعدادها للتورط عسكريًّا في الشرق الأوسط، وفي ظل انكفاء روسي نسبي بسبب الحرب في أوكرانيا، تبدو تركيا مرشحة لتكون حليفًا أمنيًّا بديلًا في عدد من الملفات، فبفضل موقعها الجغرافي الممتد بين الشرق الأوسط والبلقان والقوقاز، وخبرتها الميدانية، يمكن أن تؤدي دورًا في ضبط الحدود ومراقبة الممرات البحرية، ومواجهة التهديدات غير المتماثلة مثل الميليشيات المسلحة، والاختراقات السيبرانية، وشبكات التهريب العابر للدول.
  • الاقتصاد التركي بوصفه رافعة للتمدد الإقليمي: رغم التحديات الاقتصادية الداخلية، حافظ الاقتصاد التركي على ديناميته الإقليمية بفضل مرونته في التصدير، وتنوع قطاعاته، وحجم شركاته العاملة في الإنشاءات، والبنية التحتية، والخدمات، ويتيح هذا الواقع لأنقرة إمكانية استخدام اقتصادها أداةً للنفوذ السياسي، خاصة في البيئات التي تحتاج إلى إعادة الإعمار بعد الحرب، مثل سوريا والعراق، وربما لبنان وإيران نفسها في حال تطبيع الأوضاع، كما يمكن لتركيا أن تقدم نموذجًا تنمويًّا قائمًا على الشراكة وليس الهيمنة، وهو ما قد يجعلها أكثر قبولًا من بعض القوى الكبرى، أو حتى من الدول الخليجية ذات الثقل المالي.
  • الطاقة بوصفها ممرًا إستراتيجيًّا للنفوذ: تمتلك تركيا موقعًا جغرافيًّا فريدًا يؤهلها لأن تكون نقطة التقاء بين مصادر الطاقة في آسيا الوسطى والقوقاز والشرق الأوسط، والأسواق الأوروبية. وبعد الحرب، ومع احتمال تضرر خطوط الطاقة التي تمر عبر إيران أو الخليج، تصبح تركيا خيارًا أكثر استقرارًا وأمنًا لنقل الغاز والنفط إلى أوروبا، وتعزز هذه الفرصة مشروعات قائمة بالفعل، مثل خط أنابيب “تاناب”، وخطوط الغاز من أذربيجان، وقد تتوسع أنقرة في إنشاء ممرات طاقة جديدة من العراق، وربما من شرق البحر المتوسط إذا نجحت في حل الخلافات مع بعض الدول المعنية. كذلك تسعى تركيا إلى تطوير قدراتها في الطاقة المتجددة، والطاقة النووية المدنية؛ ما قد يعزز مكانتها بوصفها مركزًا إقليميًّا للطاقة، وليس مجرد ممر عبور.
  • القوة الناعمة بوصفها أداة تأثير طويلة الأمد: تمتلك تركيا رصيدًا متزايدًا من القوة الناعمة التي تعزز نفوذها في مجتمعات الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وإفريقيا، وتشمل هذه القوة الإعلام الناطق بالعربية والفارسية والأوردو، والدراما التركية التي تحقق انتشارًا عريضًا، والجامعات التركية التي تستقبل آلاف الطلاب الأجانب، فضلًا عن المساعدات الإنسانية التي تديرها مؤسسات مثل تيكا والهلال الأحمر التركي. هذه الأدوات لا تقتصر على الترويج لتركيا كدولة؛ بل تُعيد تشكيل الصورة الذهنية لأنقرة بوصفها نموذجًا للإسلام الديمقراطي؛ ما يمنحها قبولًا لدى قطاعات شعبية ترى فيها بديلًا للمشروع الإيراني الشيعي، أو لنماذج استبدادية عربية.
  • توظيف الهوية الثقافية: تتيح البيئة ما بعد الحرب فرصة لإعادة تقديم تركيا لزعامة المنطقة الإسلامية، لا سيما مع تراجع الخطاب الثوري الإيراني، وتراجع مصداقية سردية محور المقاومة. في هذا السياق، تعمل أنقرة على إعادة إحياء الدور التاريخي العثماني، عن طريق رمزية إسطنبول، ورئاسة الشؤون الدينية، ونشر الثقافة التركية بوصفها امتدادًا للهوية الإسلامية السنية المنفتحة، ويمكن لهذا التوجه أن يُستخدم سياسيًّا في تقوية نفوذ أنقرة في الدول ذات الغالبية السنية، خاصة في لبنان وسوريا واليمن، وأجزاء من إفريقيا، كما يسهل بناء تحالفات رمزية مع نخب دينية ومجتمعية، تعزز المصالح التركية في المنطقة.

السيناريوهات المستقبلية للدور التركي في المنطقة

تشهد البيئة الإقليمية في الشرق الأوسط مرحلة إعادة تشكيل جيوسياسي بعد الحرب الإسرائيلية الإيرانية، في ظل تراجع النفوذ الإيراني، وتردد الانخراط الغربي، وتزايد الحاجة إلى قوى إقليمية قادرة على ملء الفراغات الإستراتيجية؛ لذا تتجه الأنظار إلى تركيا بوصفها دولة ذات طموحات توسعية، وأدوات متعددة تؤهلها لأداء أدوار محورية في النظام الإقليمي الناشئ، يمكن التنبؤ بمساراتها من خلال السيناريوهات الثلاثة التالية:

السيناريو الأول: التوازن البراغماتي والانخراط الانتقائي: يعتمد هذا السيناريو على تقدير مواطن الضعف الداخلية، مثل الضغوط الاقتصادية، أو الاستقطاب السياسي، والتحديات الخارجية المرتبطة بالحسابات العربية، والتوازنات الدولية. ووفق هذا السيناريو، ستحافظ تركيا على وجودها في الجبهات الحيوية مثل شمال سوريا والعراق، لكن دون توسع إضافي، مع التركيز على تثبيت النفوذ بدلًا من توسيعه، وقد تنخرط أنقرة في ترتيبات أمنية محدودة ومتوازنة، خاصة في ملفات كالتجارة، والطاقة، والوساطة السياسية، مع تجنب الصدامات مع القوى الإقليمية والدولية، حيث ستعتمد تركيا على القوة الناعمة والأدوات الاقتصادية في توسيع نفوذها غير الرسمي، دون المجازفة بتدخلات عسكرية، أو استقطابات حادة؛ ومن ثم ستسعى إلى الحفاظ على علاقاتها المتوازنة مع الغرب وروسيا والخليج وإسرائيل، دون الانخراط في محاور ثابتة، ويعد هذا السيناريو الأكثر ترجيحًا إذا لم تُترجم الطموحات التركية إلى موارد كافية، أو إذا واجهت أنقرة مقاومة إقليمية منظمة لتمددها.

السيناريو الثاني: الصعود الإستراتيجي والتحول إلى قوة إقليمية مرجعية: يفترض هذا السيناريو المحتمل قدرة تركيا على استثمار الفراغات الجيوسياسية الناتجة عن تراجع إيران، وتآكل بعض الأدوار العربية، وتراجع الالتزام الأمريكي تجاه المنطقة؛ ومن ثم قد تنتهج أنقرة عدة أدوات لتنفيذ هذا السيناريو، لعل أبرزها: تعميق الانتشار العسكري والأمني في شمال سوريا والعراق، وربما التمدد إلى مناطق جديدة من خلال اتفاقات أمنية أو ترتيبات جماعية، وبناء تحالفات سياسية واقتصادية جديدة مع قوى صاعدة، مثل أذربيجان وقطر، وبعض دول الساحل والصحراء، تستند إلى نموذج الشراكة وليس التبعية، فضلًا عن تحقيق اختراق اقتصادي واستثماري في عمليات إعادة الإعمار، وسلاسل الإمداد، والطاقة، لا سيما كممر بديل لنقل الغاز إلى أوروبا، وقد تعزز أنقرة في هذا السياق النفوذ الرمزي والثقافي في المجتمعات السنية، لا سيما في شرق المتوسط وبلاد الشام وآسيا الوسطى، عن طريق القوة الناعمة والدبلوماسية الدينية، لكن نجاح هذا السيناريو يتطلب توازنًا دقيقًا في علاقات تركيا مع الغرب وروسيا، واستقرارًا اقتصاديًّا داخليًّا، وانضباطًا في إدارة ملفات الأمن الإقليمي المعقدة.

السيناريو الثالث: الانكفاء النسبي وتراجع الدور الإقليمي: يفترض هذا السيناريو -رغم ضعف احتمالات حدوثه في الوقت الراهن- فشل تركيا في الاستفادة من التحولات الإقليمية بسبب الضغوط الاقتصادية الداخلية الخانقة، التي تعوق قدرتها على الإنفاق العسكري، أو الاستثمار الخارجي، وتصاعد التوترات مع القوى الإقليمية والدولية؛ مما يؤدي إلى تقييد الحراك التركي في المنطقة، كما قد يحدث تغير في التوازن السياسي الداخلي، يؤدي إلى تغير في توجهات السياسة الخارجية، وتفضيل الأولويات الداخلية، ويزداد احتمالات حدوث هذا السيناريو في حالة فقدان الحلفاء الإقليميين، أو تآكل الثقة الدولية؛ مما يهمش الدور التركي في ترتيبات ما بعد الحرب؛ ومن ثم تنكفئ أنقرة إلى دور محدود يركز على الحدود والمصالح المباشرة، تاركة المجال لقوى أخرى -إقليمية أو دولية- لقيادة المرحلة الجديدة من توازنات الشرق الأوسط.

الخاتمة

بينما تمثل الحرب الإسرائيلية الإيرانية حدثًا مدمرًا في حسابات الإقليم، فإنها قد تكون لحظة مفصلية لتركيا، فلا يمثل تراجع إيران مجرد خسارة لدولة منافسة؛ بل هو تحول هيكلي يفتح فرصًا لإعادة توزيع النفوذ الإقليمي، لا سيما في ظل امتلاك أنقرة من الأدوات والمرونة ما يجعلها مرشحة للاستفادة من الفراغات الجيوسياسية الجديدة، غير أن هذا الطموح التركي لا يعتمد فقط على الفرص الخارجية؛ بل أيضًا على قدرة أنقرة على الحفاظ على توازن داخلي مستقر، وإستراتيجية خارجية دقيقة توائم بين الطموحات والموارد؛ ومن ثم سيتوقف ترجيح أي من السيناريوهات الثلاثة السالفة الذكر على مدى نجاح أنقرة في توظيف مواردها توظيفًا مرنًا، واستيعاب المتغيرات الإقليمية، وتحييد الصراعات التي قد تعوق تمددها، لتبقى لاعبًا لا يمكن تجاوزه في معادلات ما بعد الحرب.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع