استضافت مدينة أنطاليا التركية في منتصف مايو (أيار) اجتماعًا غير رسمي لوزراء خارجية حلف الناتو، وسط تصاعد القلق الأوروبي بشأن مستقبل الدور الأمريكي في الدفاع عن القارة. لم يعد السؤال: هل ستتراجع واشنطن؟ بل متى ستفعل، وبأي كلفة؟
عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض أعادت ترتيب الأولويات الأمريكية، وهذه المرة على حساب التحالفات التقليدية. وفي ظل هذا التحول، تبدو أوروبا وكأنها تخضع لاختبار مصيري: هل هي شريك دفاعي حقيقي، أم لا تزال مجرد مستهلك أمني مشروط بوجود الضامن الأمريكي؟
يواجه حلف الناتو اليوم ثلاث أزمات مترابطة؛ أولاها: الحاجة إلى ردع روسيا دون الاعتماد على الضمانات الأمريكية، وثانيها: تدهور البنية الصناعية الدفاعية الأوروبية، وثالثها: الخروج من حالة اللا مبالاة المؤسسية نحو تعبئة إستراتيجية جدّية.
وقد لخّص الأمين العام الجديد للحلف، مارك روتّه، هذا الواقع بقوله: “نحتاج إلى قفزة نوعية في القدرات، ليس للردع فقط؛ بل للبقاء”. أما وزير الخارجية الأمريكي، ماركو روبيو، فكان أكثر مباشرة حين قال: “الحلف لا يُقاس بالأقوى فيه؛ بل بأضعف حلقة فيه”، وهي عبارة تصف بدقة وضع أوروبا الدفاعي اليوم.
تشير التقارير إلى أن الجيش الألماني، رغم وعود مستشاره ببنائه ليكون أقوى جيش في أوروبا، لا يستطيع تنفيذ عملية كبيرة دون الاستعانة بحلفاء. الجيش البريطاني ينزف كوادره، في حين تعاني جيوش أوروبية نقصًا حادًّا في الذخيرة، وضعفًا في الدفاعات الجوية، وقلة في الطواقم المدربة. وفي حالة اندلاع صراع عالي الكثافة، قد لا تصمد أوروبا أكثر من أسبوع، وفقًا لتقديرات عسكرية بريطانية رسمية.
في هذا السياق، طُرحت “خطة لاهاي للاستثمار الدفاعي”، بهدف رفع الإنفاق الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي، موزعة على 3.5% للقدرات التقليدية، و1.5% للبنية التحتية السيبرانية واللوجستية. الدعم السياسي داخل الاجتماع كان قويًّا، لكن الإجماع غاب عند الانتقال من الأرقام إلى الالتزامات.
ما يعمّق أزمة الجاهزية الدفاعية في أوروبا ليس تفاوت القدرات فحسب؛ بل غياب مركز قرار قادر على تحويل الطموحات إلى خطة تنفيذية منسقة. فرغم إطلاق “خطة إعادة تسليح أوروبا” في مارس (آذار) 2024، بميزانية 650 مليار يورو، بقي التنفيذ رهينًا بقرارات وطنية لا تواكبها آليات اتحادية ملزمة.
وزير الخارجية الألماني، يوهان فاديبول، لخّص الأزمة بقوله: “إذا لم نربط المال بهيكلة مركزية، فسنخسر التمويل قبل أن نبدأ الإنتاج”. وتؤكد وثيقة “الجاهزية الدفاعية 2030” هذا القلق: غياب آليات تقاسم الأعباء وتحديد الأولويات أفرز مشروعات متضاربة تُضعف التنسيق، وتُكرّس الفوضى.
قمة أنطاليا كشفت عن اصطفاف جديد داخل أوروبا. لم يعد الانقسام جغرافيًّا، بل بين من يستعد لما بعد المظلة الأمريكية، ومن يراهن على استمرارها رغم تآكلها. في طليعة المستعدين تقف دول البلطيق وبولندا، التي رفعت إنفاقها الدفاعي إلى 5%، وأبرمت شراكات تسليحية مع كوريا الجنوبية، وإسرائيل، وتركيا، مدفوعة باعتبارات أمنية لا صناعية.
في المقابل، ترفض بلجيكا هذا الهدف تحت ضغط الدين العام، في حين تمانع المجر، بقيادة أوربان، أي التزام دفاعي يتجاوز حدود الناتو.
لكن هذه التباينات تعكس أزمة أعمق من خلافات التمويل. التفاوت الهيكلي بين اقتصادات الاتحاد يُنتج خريطة دفاعية غير متوازنة: الدول القوية تخشى تحمّل تكلفة الاقتراض المشترك، فيما تخشى الأضعف من الديون المستقبلية. ووسط هذا التنافر، تتآكل فكرة الدفاع الجماعي.
الأكثر تعقيدًا أن الدول ذات الصناعة الدفاعية المتقدمة تميل إلى توطين استثماراتها داخليًّا لضمان المكاسب الاقتصادية، في حين تكتفي الدول الأقل تصنيعًا بدور هامشي في الشراء المشترك؛ ما يعمّق فجوة نفوذ يصعب جسرها ماليًّا أو سياسيًّا.
هكذا، يتحوّل المشروع الدفاعي الأوروبي من وسيلة توحيد إلى مرآة لهشاشة القارة، حيث تتقاطع الفروق الاقتصادية مع الانقسامات السياسية، في لحظة لم يعد فيها التهديد مؤجلًا ولا التوافق مضمونًا.
رغم التصريحات الطموحة لبناء استقلال دفاعي أوروبي، لا تزال القارة عاجزة عن تلبية احتياجاتها العسكرية العاجلة من الداخل؛ فعلى الورق، تتيح آلية (SAFE) تجاوز قيود العجز الوطني، وتمويل المشروعات الدفاعية من خلال سندات أوروبية مشتركة، لكنها تفرض شروطًا معقدة: نسبة تصنيع محلي لا تقل عن 65%، وحصر المشتريات في شركات داخل الاتحاد أو دول مرشحة، كتركيا، وأوكرانيا.
هذه القيود تصطدم بواقع صناعي متأخر: طاقات إنتاجية محدودة، سلاسل توريد بطيئة، وجدول زمني لا يسمح بانتظار نتائج بعيدة. وعند الخطر، لا يكون الاستيراد من خارج القارة خيارًا؛ بل ضرورة دفاعية تناقض خطاب “الاستقلال الإستراتيجي” الذي تروّج له بروكسل.
نتيجة لذلك، لجأت ألمانيا وإسبانيا وهولندا إلى شراء أنظمة تسليح متطورة من إسرائيل، فيما عقدت بولندا صفقات ضخمة مع كوريا الجنوبية تشمل دبابات ومدافع وراجمات صواريخ تُسلّم بسرعة تفوق نظيراتها الأوروبية، بل أنشأت وارسو مراكز صيانة وإنتاج محلية للمعدات الكورية، في تحوّل واضح ببوصلة التسليح شرق القارة.
هذا الواقع يُعرّي الخطاب الرسمي: لا يمكن بلوغ الجاهزية الدفاعية ضمن أطر بيروقراطية تُقيّد السوق بدلًا من تحفيزها. القيود المصمّمة لحماية الصناعة الأوروبية تُضعف قدرة الدول على الاستجابة السريعة، وتخلق تناقضًا فاضحًا بين السيادة المعلنة والاعتماد العملي على الخارج.
ويُقدّر خبراء أن أوروبا تحتاج من ثلاث إلى سبع سنوات لبناء قاعدة صناعية عسكرية فعالة، في حين تفرض التهديدات تسليحًا فوريًّا لا يحتمل هذا التأخير. وحتى ذلك الحين، تبقى المشتريات العاجلة من خارج القارة الخيار الوحيد أمام معظم العواصم، في ظل عجز المخزون المحلي وغياب المرونة.
المفارقة جلية: أوروبا تنشد الانفصال الإستراتيجي عن واشنطن، لكنها تُضطر مرارًا إلى الاتكال عليها أو على بدائل غير أوروبية. ومع تكرار هذا النمط، تتحوّل شعارات الاستقلال إلى وعود مؤجلة ما لم تُرفد بإصلاحات صناعية وتمويلية تسبق الخطر بدلًا من أن تلاحقه.
في ظل التشتت المؤسسي وتباين الاستجابات، لم تعد إعادة التموضع داخل الناتو خيارًا مطروحًا؛ بل ضرورة واقعية. المطلوب ليس العودة إلى الاتكال على واشنطن؛ بل صياغة دور أوروبي متماسك يفاوض بوصفه شريكًا، لا تابعًا.
صرّح مارك روتّه من أنطاليا: “على أوروبا أن تنتقل من التذمر إلى التصميم”، في إشارة إلى تحول تدريجي في المزاج الإستراتيجي. ومع دعم ألمانيا، وبولندا، ودول البلطيق لخطة دفاعية جديدة يُنتظر إقرارها في قمة لاهاي، تظهر إرهاصات مراجعة لمسار ظل مرهونًا بالحماية الأمريكية.
لكن التحدي لا يكمن في حجم الإنفاق؛ بل في كيفية توجيهه. كما أوضح وزير خارجية ليتوانيا، غياب قاعدة صناعية منسّقة قادرة على التصنيع والصيانة والتحديث يضعف أثر أي زيادة في الميزانيات.
في هذا الإطار، طُرح مقترح بإنشاء “مجلس أمني أوروبي مصغّر” داخل الناتو، يضم الدول الأكثر التزامًا، ويتجاوز البيروقراطية التقليدية لتنسيق الجهود الدفاعية بفاعلية. إذا نُفّذ، قد يشكّل هذا المجلس نواة لنظام أمني أوروبي يعمل من داخل الحلف دون أن يذوب فيه.
استثمرت تركيا -من جهتها- استضافتها اجتماع أنطاليا لتأكيد جاهزيتها لأدوار أوسع، مطالِبة بإزالة القيود التي تعوق التعاون الصناعي بين الحلفاء. رسالتها كانت صريحة: “الأمن الحقيقي يُصاغ من الأطراف كما من المركز، وتُرسم معالمه على خطوط التماس لا خلف الأبواب المغلقة”.
في المقابل، اتّخذت واشنطن منحى أكثر حسمًا؛ إذ باتت تعيد تموضعها العالمي وفق اعتبارات تتجاوز أحيانًا التنسيق مع الحلفاء. وإذا استمرت واشنطن في مسار التسويات المنفردة، فعلى أوروبا أن تكون مستعدة لتحمّل مسؤولية أمنها دون ضمانات خارجية.
ما تواجهه أوروبا لا يقتصر على ضغوط روسية، أو انسحاب أمريكي متدرج؛ بل يكشف مأزقًا داخليًّا بنيويًّا: بطء مؤسساتها، وتوزع القرار الدفاعي بين عواصم تفتقر إلى رؤية وآليات موحّدة. المفوضية الأوروبية تملك إستراتيجيات واعدة، لكنها بلا أدوات تنفيذ فعّالة؛ ما يجعل فجوة الزمن أخطر من فجوة التسليح.
فالتهديدات تتسارع، في حين تظل أدوات الرد رهينة بالبيروقراطية والتردد. وإن لم تُستثمر هذه اللحظة لتوحيد القرار وتعزيز التكامل، فستتسع الهوّة بين الخطاب والواقع، وقد تواجه القارة تهديدات حقيقية، دون قدرة على الاستجابة.
الفرصة لم تُغلق بعد؛ إذ يمكن لأوروبا أن تبني بنية أمنية جماعية واقعية تنطلق من داخل الناتو، على أساس الشراكة لا الاتكال، لكن هذا الخيار يتطلب شجاعة سياسية، وقرارات حاسمة، واستثمارًا ذكيًا في الزمن، قبل أن يتحوّل الوقت نفسه إلى عنصر في معادلة التهديد.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.