ألقت الحرب الأوكرانية بظلالها الكارثية على ملايين البشر؛ فقد نزح مئات الآلاف من الأوكرانيين داخليًّا، وهاجر آخرون إلى دول مجاورة مثل بولندا ورومانيا، فضلًا عن الدمار الكبير الذي طال البنية التحتية والمستشفيات والمدارس. وإذا كانت الجهود الدبلوماسية تسعى إلى وقف إطلاق النار، فإن المساعي الإنسانية لا تقل أهمية عن ذلك؛ فالسكان في مناطق دونيتسك ولوغانسك وخاركيف وغيرها يعانون نقصًا حادًّا في المواد الأساسية، وانقطاعًا في الخدمات العامة.
من هنا، يتضح أن أي خطة لإنهاء الأزمة يجب أن تضع في الحسبان إطلاق مبادرات إنسانية مكثفة، تشمل تقديم المساعدات الغذائية والطبية، وإعادة تأهيل المساكن المدمّرة، وضمان عودة النازحين واللاجئين بصورة آمنة وكريمة. وبالإضافة إلى ذلك، من الضروري وضع برامج لدعم التأهيل النفسي للمدنيين الذين عاشوا فترات طويلة تحت القصف والخوف والظروف الصعبة. هذه الجوانب قد لا تحظى عادة بالاهتمام الكافي في المفاوضات السياسية، لكنها تشكّل الركيزة الأساسية لبناء الثقة، وإعادة اللحمة الاجتماعية بين أبناء الوطن الواحد.
من العوامل التي تسهم في ترسيخ السلام بعد الحروب دورُ منظمات المجتمع المدني وجماعات حقوق الإنسان. هذه الجهات تمتلك قدرة على التواصل مع القواعد الشعبية وتلمُّس احتياجاتها، كما أنها تتمتع بمرونة أكبر في طرح المبادرات على المستوى المحلّي. في الحالة الأوكرانية، أصبح صوت المجتمع المدني أكثر أهمية بعدما فقد المواطنون الثقة بالنخب السياسية، وتعرّضوا لصدمات متتالية من جرّاء الاقتتال؛ لذا يجب تشجيع المنظمات غير الحكومية على القيام بدور الوساطة المحلية، وفتح قنوات للحوار المجتمعي بين المناطق المتخاصمة، لا سيما في شرق البلاد وجنوبها. هذه الحوارات قد تُسهم في صياغة مصالحات محلية تسبق المصالحات السياسية الكبرى. كما يمكنها أن تدعم مبادرات تعليمية تهدف إلى تعزيز قيم التعايش، وتخفيف الاحتقان الإثني واللغوي. وتفعيل دور تلك المنظمات والمجالس المدنية يستلزم دعمًا ماليًّا ولوجستيًّا من جانب المجتمع الدولي والجهات المانحة، إضافة إلى توفير بيئة آمنة تتيح لها العمل بحرية بعيدًا عن سطوة المجموعات المسلحة.
لم تكن المحاولات الدولية للوساطة في النزاعات أمرًا جديدًا؛ ففي كثير من الصراعات في العالم، شهدنا تدخل أطراف إقليمية أو دولية للوساطة بين فرقاء النزاع. وفي الأزمة الأوكرانية، هناك سجل من المحاولات، أبرزها دور منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، التي أرسلت بعثات مراقبة وحاولت الدفع نحو اتفاقات تهدئة، غير أن غياب الإرادة السياسية الحقيقية، وتأثير مصالح القوى الكبرى، جعلا هذه الجهود محدودة الأثر.
اليوم، تتشكل ملامح وساطة متعددة الأطراف، تضم ـإضافة إلى القوى الغربية- أطرافًا جديدة، مثل الصين، وتركيا، والسعودية. لكل من هذه الدول نفوذها الخاص في المعادلة، سواء عبر العلاقات الاقتصادية أو الملفات الأمنية، فعلى سبيل المثال، تتمتع الصين بثقل دولي واقتصادي يمكن أن يمارس ضغطًا على موسكو، في حين تحظى تركيا بعلاقة متميزة مع كييف، وتوازن يحافظ على هامش للتواصل مع روسيا. أما السعودية فتتنامى مكانتها في مجال الوساطة الدولية، كما أن لديها مصالح تتقاطع مع روسيا في مجال الطاقة، وتعاون مع أوكرانيا في مجالات مختلفة.
نقطة أساسية في أي وساطة ناجحة تتمثل في ترسيخ أرضية مشتركة بين المتنازعين، وتوفير ضمانات قوية تسمح لهم بالشعور بأن مصالحهم الحيوية لن تُهدَر، وهذا يتطلب من الوسطاء الحياد والقدرة على تقديم حوافز وعقوبات في آن واحد، فالمكاسب الاقتصادية أو الأمنية قد تدفع الأطراف إلى المرونة في المفاوضات، في حين أن التهديد باستمرار العقوبات أو تكثيفها قد يشكل عامل ردع لمن يحاول عرقلة التسوية.
مع أن الحرب تؤثر في الجميع دون استثناء، فغالبًا ما تُهمَّش فئات معينة في عمليات صنع القرار، مثل النساء والشباب، لكن الحقيقة أن هؤلاء يمتلكون طاقات كبيرة يمكن أن توظف في بناء السلام وتعزيز الاستقرار. الجمعيات النسوية يمكنها أداء دور كبير في المصالحة المجتمعية، إذ تميل النساء في النزاعات إلى التركيز على الجوانب الإنسانية والاحتياجات الميدانية للأسر والأطفال. وقد أثبتت تجارب سابقة أن إدماج المرأة في مفاوضات السلام يزيد احتمالية نجاحها واستدامتها؛ لأنها غالبًا ما تحمل منظورًا أكثر شمولية للتسوية.
أما الشباب فهم وقود المستقبل، ولديهم الدافع للتغيير وإصلاح الواقع الذي ورثوه. يمكن لإشراكهم في البرامج التنموية والتدريبية أن يحولهم إلى قوة إيجابية في المجتمع، بدلًا من الانخراط في المجموعات المسلحة، أو الهجرة بحثًا عن فرص أفضل. كما يمكن تفعيل دورهم في الإعلام الجديد، ووسائل التواصل الاجتماعي؛ لنقل رسائل التعايش، وتشجيع الحوار البنّاء. وقد أظهرت حركات شبابية في العالم قدرتها على التأثير في الرأي العام، وصناعة تحوّل مجتمعي حقيقي؛ ما يجعل شباب أوكرانيا وروسيا والأقليات المعنية جزءًا أساسيًّا من معادلة السلام.
الانقسامات في أوكرانيا ليست لغوية وثقافية فحسب؛ بل تمتد أيضًا إلى المشهد الديني؛ ففي حين يتبع معظم الأوكرانيين المذهب الأرثوذكسي، شهدت البلاد انقسامًا كنسيًّا بعد الاعتراف بكنيسة أوكرانية مستقلة عن بطريركية موسكو. كما توجد أقليات كاثوليكية وبروتستانتية ومسلمة في شبه جزيرة القرم والمناطق الجنوبية. هذه التعددية الدينية يمكن أن تكون عاملًا إيجابيًّا إذا استُثمرت في بناء حوار ديني هادئ يرسخ قيم التسامح، لكنها قد تزيد التوتر إذا استُغلت سياسيًّا؛ لذا فإن زعماء الدين بإمكانهم أداء دور الوسيط الروحي، وتشجيع أتباعهم على نبذ الكراهية والممارسات الانتقامية. قد تُنَظَّم ندوات حوار بين رجال الدين من مختلف الأطياف، تُركّز على قيم العيش المشترك، وأهمية الاستقرار والسلم. كما يمكن إشراكهم في لجان مصالحة محلية، يعملون فيها على تقريب وجهات النظر، وتهدئة المشاعر المعادية بين المجتمعات المحلية المتخاصمة.
هناك دول في إفريقيا وآسيا نجحت في توظيف الأنظمة التقليدية والروحية لحل النزاعات ومداواة الجراح المجتمعية. في بعض المناطق، يتسم زعماء القبائل أو الشيوخ الدينيين بتأثير كبير في أفراد مجتمعاتهم، ويمتلكون صلاحيات معنوية كبيرة في عقد جلسات الصلح والمساءلة الشعبية. قد يكون في أوكرانيا، خاصة في الأقاليم الريفية، من يتمتع بنفوذ محلي يمكن استثماره إيجابيًّا في رأب الصدع المجتمعي.
بينما يختلف السياق الثقافي الأوكراني عن إفريقيا أو آسيا، فإن مبدأ الاستعانة بالقيادات المحلية والروحية قد ينجح جزئيًّا في إنجاح جهود المصالحة والتعايش. كما يمكن دمج المبادرات الرسمية في مؤسسات العدالة الانتقالية مع هذه الأعراف المحلية؛ ما يزيد فرص تقبُّل المجتمع لنتائج التسويات، ويوحد المفاهيم العامة عن العدالة.
عانت المجتمعات الأوكرانية انقسامات لغوية وسياسية، غير أن الفن والموسيقى والشعر أحيانًا ما تفلح فيما يفشل فيه السياسيون. دعم المهرجانات الفنية، وإحياء التراث الشعبي، يمكنهما أن يسهما في تعزيز شعور الانتماء الوطني الذي لا يستثني أحدًا. من الممكن تنظيم فعاليات تجمع مبدعين من شرق البلاد وغربها، ومن روسيا وأوكرانيا؛ لتقديم عروض فنية مشتركة تركز على معاني السلام والتعايش.
كما أن القطاع السياحي الثقافي قد يمثل فرصة مستقبلية إذا عادت الأوضاع إلى الاستقرار، فتاريخ أوكرانيا وروسيا مملوء بالقلاع والمواقع التاريخية والآثار المشتركة؛ ما يخلق مسارات سياحية تعيد اكتشاف العلاقات الحضارية القديمة بدلًا من التركيز على الجروح الحديثة. تشجيع هذا النوع من التبادل الثقافي يشكل جانبًا ناعمًا من جهود بناء السلام، لكنه شديد الأثر على المدى الطويل.
بينما ينشغل السياسيون بالتفاوض على القضايا الكبرى، يمكن للشباب من روسيا وأوكرانيا أن يبادروا بتنظيم ملتقيات مشتركة عبر الإنترنت، أو في بلدان محايدة، بهدف نقاش مستقبل العلاقة بين البلدين وتبادل الأفكار بشأن التعليم والابتكار والثقافة. يمكن لهذه اللقاءات أن تكسر الصورة النمطية للأعداء، وتتيح للفئات الصاعدة التعرف إلى بعضهم بعضًا بدون إرث الكراهية.
وقد تكون المبادرات الشبابية أكثر إبداعًا في ابتكار حلول خلاقة، مثل تأسيس شركات رقمية عابرة للحدود، أو ورش عمل فنية تجمع المواهب من الجانبين. يمكن أن تحظى هذه الملتقيات بدعم جهات دولية ومحلية توفر المنح والتدريب. ومع مرور الوقت، يتحول هؤلاء الشباب إلى نخبة مستقبلية تؤمن بالتعايش والمصالح المشتركة، وتنقل روح المصالحة إلى مؤسسات الدولة والمجتمع.
قد تُعلَن تهدئة مؤقتة، ويشعر أحد الأطراف بأنه انتصر أو “أخضع الآخر”؛ ما يدفعه إلى المماطلة في تنفيذ الالتزامات اللاحقة. هذه الظاهرة تُسمّى فخ الانتصار الزائف، إذ يعتقد الطرف المنتشي أنه حصد كل شيء دون حاجة إلى تقديم تنازلات إضافية. تاريخ النزاعات يشير إلى أن هذا الشعور القصير الأمد يؤدي في الغالب إلى انهيار الهدنة والعودة إلى القتال.
لتجنب ذلك، يجب أن يكون الاتفاق مبنيًّا على مبدأ “الرابح- الرابح” قدر الإمكان. فحتى إن كانت هناك تنازلات صعبة، يتعين تغليفها بحزمة مكاسب واضحة لكل طرف، سواء أكانت اقتصادية، أم أمنية، أم دبلوماسية. ويجب أن تُوضع آلية لمراقبة الالتزام بالبنود لا تعتمد على ثقة الأطراف بعضها ببعض فقط؛ وإنما على وجود جهات محايدة قادرة على فض النزاعات الناشئة، وحل الخلافات بشأن تفسير بنود الاتفاق.
قد يُعاني صوت السلام الضعف في خضم الخطاب المتشدد الذي تروجه النخب السياسية أو الإعلام الحربي؛ لذا فمن المهم اكتشاف القوى المجتمعية في روسيا وأوكرانيا المناهضة للحرب، التي تسعى إلى تقريب المسافات. هذه القوى غالبًا ما تكون مكونات من المجتمع المدني، أو مثقفين وأكاديميين وفنانين لديهم تأثير في الرأي العام المحلي. منحهم مساحة أوسع للتعبير عن آرائهم واحتضان مبادراتهم قد يخلق زخمًا شعبيًّا ينادي بالتسوية؛ ما يقلل من نفوذ الأصوات المتشددة.
يمكن أيضًا عقد مؤتمرات واجتماعات دولية تبرز أصوات الناشطين الحقوقيين من كلا البلدين، وتسليط الضوء على قصص إنسانية لأفراد تضرروا من الحرب، ويرغبون في إنهائها. هذا الأسلوب الإنساني في مخاطبة الرأي العام العالمي قد يحرّك مشاعر التضامن، ويحث الحكومات على مضاعفة جهودها لحل الصراع.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.