القضايا الاقتصاديةوحدة الدراسات الصينية

حوار خبراء من الصين والولايات المتحدة وأوروبا

“أمريكا أولًا”.. والعِلم على الهامش!


  • 3 مايو 2025

شارك الموضوع

في السنوات الأخيرة، واجهت الولايات المتحدة تحديات غير مسبوقة في قدرتها على جذب أفضل العقول من أنحاء العالم. وقد أصبحت قضية “هجرة العقول” في مجال البحث العلمي موضوعًا متكررًا في وسائل الإعلام والأوساط الأكاديمية، خاصة في ظل سياسة “أمريكا أولًا” التي تتبعها الإدارة الأمريكية الحالية. صحيفة Global Times جمعت ثلاثة خبراء من الصين والولايات المتحدة وأوروبا؛ لمناقشة الكيفية التي تدفع بها السياسات الأمريكية العلماء بعيدًا، وتأثير ذلك في منظومة البحث العلمي في الولايات المتحدة، وحركة تنقل الكفاءات العالمية، ومستقبل المنافسة العلمية الدولية.

أنتوني مورتي (Anthony Moretti)
أستاذ مشارك بقسم الاتصال والقيادة التنظيمية في جامعة روبرت موريس الأمريكية

يذكرنا التاريخ بأن أحد أسباب المكانة المرموقة التي حازتها الولايات المتحدة في مجالات مثل العلوم، كان انفتاحها الدائم على الباحثين من جميع أنحاء العالم. كما أن السياسات التي رحبت بهؤلاء العلماء ساعدت الولايات المتحدة على الاستفادة من طاقات فكرية عظيمة، سواء أُنتجت محليًّا أم استُجلبت من الخارج، لكن أمريكا اليوم مهددة بأن تعاني هجرة العقول.

كيف حدث أن تتحول الولايات المتحدة، أرض الحرية الأسطورية، إلى مكان يسعى بعض العلماء إلى الفرار منه؟

من خلال إصرار الإدارة الحالية على أن كثيرًا من الكليات والجامعات تتبنى سياسات “الوعي المستيقظ”، وتهديداتها المستمرة بسحب التمويل الحيوي، بات أداء الباحثين في أفضل المؤسسات الأكاديمية الأمريكية مهمة تزداد صعوبة. أولئك الذين يمتلكون سجلات بحثية تؤهلهم للانتقال إلى جامعات خارج الولايات المتحدة، بدؤوا بالنظر إلى خيارات أخرى. فمن يود المجازفة برؤية عمل عقود يُدمر؟

ينظر كثير من العلماء إلى إصرار الحكومة الفيدرالية على ترحيل طلاب الدراسات العليا المولودين خارج الولايات المتحدة، ولا يسعهم إلا أن يتساءلوا: هل سيأتي الدور على الأساتذة لاحقًا؟ صحيح أن القضاء قد يتدخل ليصعّب على الحكومة تنفيذ هذه السياسات، لكن من يلوم الباحث الأجنبي إذا خشي أن تصادق المحاكم على خطط الحكومة؟ من يود أن يخاطر بالترحيل؟

هل يدرك المسؤولون في واشنطن، وتحديدًا في البيت الأبيض، عواقب فقدان بعض أذكى العقول التي تعيش في البلاد حاليًا؟ طالما أُخبر المواطن الأمريكي أن حريات بلاده هي السبب في رغبة ملايين الناس، ومنهم النخبة المتعلمة، في العيش والعمل بالولايات المتحدة. أما الآن، فباتت هذه الرواية جوفاء. لقد بنت الولايات المتحدة -على مدى عقود- أعظم محرك ابتكار شهده العالم، لكنها اليوم تخاطر بأن تفقده.

لي تشنغ (Li Zheng)
باحث بمعهد الدراسات الأمريكية، التابع لمعاهد الصين للعلاقات الدولية المعاصرة

في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، بنت الولايات المتحدة نظام ابتكار لا نظير له، بفضل سياساتها المنفتحة، وتمويلها السخي؛ مما مكنها من استقطاب أفضل المواهب من العالم أجمع. غير أن هذا الوضع المهيمن بات مهددًا، مع السياسات الأخيرة التي ترفع شعار “أمريكا أولًا”، والتي وضعت العراقيل أمام استمرار التقدم.

لطالما اعتمد النظام الابتكاري الأمريكي على التوجيه الإستراتيجي الحكومي، وفِرق العمل المتنوعة، والعلماء الوافدين من الخارج. فمن خلال مؤسسات مثل “المعاهد الوطنية للصحة”، و”مؤسسة العلوم الوطنية”، كانت الحكومة توجه دفة البحث العلمي لاستكشاف أفضل المسارات، فيما سمح استقلال هذه المؤسسات للعلماء بالتركيز على مجالات بحثهم بحرية.

وقد شكل العلماء الأجانب ركيزة رئيسة للنظام الابتكاري الأمريكي؛ مما ضمن استمرار تدفق أفضل المواهب إلى الولايات المتحدة.

لكن السياسة العلمية للإدارة الأمريكية الحالية ألحقت ضررًا بالغًا بالنظام العلمي والتكنولوجي والابتكاري الأمريكي بـ3 طرق رئيسة؛

أولًا: تقلص تمويل البحث والتطوير تقليصًا كبيرًا، مما أدى إلى خفض الميزانيات وتسريح العاملين في كثير من المؤسسات البحثية.

ثانيًا: أصبحت أجواء البحث العلمي مسيّسة على نحو متزايد.

ثالثًا: تبنت الولايات المتحدة توجهًا انعزاليًّا وعدائيًّا تجاه التبادل العلمي والتكنولوجي مع الخارج.

مجتمعةً، تهدد هذه العوامل بإحداث انتكاسة تاريخية للعلم الأمريكي. وبينما تفقد الولايات المتحدة علماءها تدريجيًّا، لا يتوقف العالم عن التقدم. أوروبا وكندا تفتحان ذراعيهما للعلماء الأمريكيين الفارين؛ فقد طلبت ثلاث عشرة حكومة أوروبية من الاتحاد الأوروبي استقبال “المواهب اللامعة من الخارج الذين قد يعانون التدخل السياسي والاقتطاعات التمويلية الوحشية”، فيما باتت كندا وجهة رئيسة للعلماء الأمريكيين المُسرّحين.

كما أن تضييق واشنطن على البحث العلمي منح آسيا فرصة ذهبية للحاق بالركب. الصين وكوريا الجنوبية وسنغافورة تستثمر الآن بقوة في البحث والتطوير، وتبني بنى تحتية بحثية من الطراز العالمي؛ ما قد يؤهلها مستقبلًا لتحل محل الولايات المتحدة كمركز عالمي للابتكار العلمي والتكنولوجي.

سيباستيان كونتين تريو-فيغيروا (Sebastian Contin Trillo-Figueroa)
محلل جيوسياسي إسباني متخصص في العلاقات الأوروبية- الآسيوية

شهد الباحثون في عهد إدارة ترمب تآكل أحد الحقوق المدنية الجوهرية بسرعة مقلقة: حرية البحث العلمي. ونتيجة لذلك، بات الكثيرون يرون أن أعمالهم البحثية عرضة للخطر، وأن بإمكانهم ممارستها بحرية أكبر في أماكن أخرى.

ومع ذلك، من المهم الإقرار بأن الباحثين الأمريكيين لا يزالون الأعلى أجرًا في العالم، ويتمتعون بإمكانات تمويل بحثي لا تضاهى. ومع ذلك، فإن رحيل بعضهم -رغم هذه الامتيازات- يعكس عمق الاستياء السائد.

وقد يكون لهذا الوضع أثر سلبي بالغ في التنمية العلمية والتكنولوجية في الولايات المتحدة؛

أولًا: أصبحت القيادة العلمية الأمريكية عرضة لاضطرابات سياسية داخلية على نحو غير مسبوق.

ثانيًا: قد يبدأ الحلفاء الدوليون بقطع اعتمادهم على البحوث الأمريكية، فيما يؤدي تآكل مؤسسات مثل المعاهد الوطنية للصحة إلى تراجع النفوذ الأمريكي في دبلوماسية العلوم العالمية.

ثالثًا: قد تصبح الولايات المتحدة عبرة لكيفية فقدان المواهب العالمية بدلًا من اجتذابها.

الخطر الأعمق لا يكمن في التراجع التكنولوجي فحسب؛ بل في تصدع الرابط بين الهوية الوطنية الأمريكية ومجتمعها العلمي، فقد يشعر الباحثون، مثلهم مثل كثير من المهاجرين اليوم، أن “الحلم الأمريكي” لم يعد موجودًا.

إن هجرة العلماء من الولايات المتحدة تعيد توزيع المعرفة عالميًّا، وتضعف هيمنة الولايات المتحدة على البحث العلمي، لكنها في المقابل، تمثل مكاسب صافية للدول الأخرى؛ فضعف القيادة البحثية الأمريكية يفتح المجال أمام أوروبا وآسيا لتعزيز نفوذهما العلمي. أوروبا مهيأة للاستفادة من هذا التحول، بفضل بنيتها المؤسسية، وشبكاتها العابرة للحدود، فضلًا عن جاذبيتها كمكان يضمن الحماية الاجتماعية، ونوعية حياة عالية.

أما آسيا، بقيادة الصين والهند والمراكز الابتكارية الإقليمية، فبوسعها أن تتبنى نماذج تنموية ترتكز على التخطيط الطويل الأمد، والدعم الحكومي للبحث العلمي. وقد تستخدم الصين هذه الفرصة لتعزيز نماذجها البحثية، بدعم من استثمارات ضخمة، وظروف منافسة متزايدة؛ لجذب المهاجرين ذوي الكفاءات العالية.

إن تدفق العلماء المدربين في الولايات المتحدة لا يعزز التميز البحثي فقط؛ بل يشكل رافعة لإعادة ترتيب هرم القيادة العلمية عالميًّا. ويتعين على المؤسسات الأوروبية والآسيوية أن تتعامل مع هذه الفرصة برؤية إستراتيجية، فامتصاص الكفاءات يدعم إستراتيجيات الابتكار الوطني، ويعزز القوة الناعمة. على سبيل المثال، يمكن للصين أن توسّع مبادراتها القائمة بمرونة أكبر؛ لاستقطاب الخبرات، مع إدارة المخاطر المرتبطة بالسمعة الدولية.

المصدر: افتتاحية صحيفة غلوبال تايمز (Global Times) الصينية


شارك الموضوع