إستراتيجيات عسكريةمقالات المركز

أمراض الجيش الأمريكي.. بداية ذبول الإمبراطورية


  • 22 نوفمبر 2023

شارك الموضوع

عندما سألت صحيفة “واشنطن بوست” وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كليتنون، في أثناء سعيها للفوز بالانتخابات الرئاسية عام 2016، عن “أدواتها” كأول امرأة يرشحها الحزب الديمقراطي للحفاظ على النفوذ والهيبة والقوة والمصالح الأمريكية في العالم، كان رد هيلاري بأن الأمريكيين يمثلون 5 % فقط من سكان العالم، لكن الولايات المتحدة تستطيع “فرض إرادتها” على باقي سكان العالم من خلال وسيلتين؛ هما: “الجيش الامريكي” الأقوى في العالم، و”الدولار”؛ العملة التي ينتظر الجميع قيمتها أمام العملات المحلية صباح كل يوم.

 لكن هذه الثقة بالجيش الأمريكي بدأت تتراجع، وظهرت المشكلات والأمراض في جميع فروع القوات الأمريكية، وهو ما قاد إلى ظهور حسابات ومعادلات جديدة تؤكد أن الجيش الامريكي لن يستطيع القيام بحربين على جبهتين (روسيا، والصين)، بل تقول كل التقديرات الأمريكية إن الجيش الأمريكي غير قادر على خوض حرب إقليمية واسعة.

ميزانية الجيش الامريكي

ومع أن الولايات المتحدة خصصت في ميزانية عام 2024 نحو 842 مليار دولار للجيش الأمريكي، فإن ارتفاع التضخم يرجح أن القوات المسلحة الأمريكية لن تستفيد من هذه الزيادة الضخمة في الميزانية بعد أن زادت الميزانية العسكرية عام 2024 بنحو 26 مليار دولار عن ميزانية 2023، وبنحو 100 مليار دولار عن ميزانية 2022، وهو ما يزيد الشكوك بشأن قدرات الجيش الذي يوصف بأنه الأقوى في العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فخطط البنتاغون تكافح للوصول بعدد عناصر الجيش إلى مليون مقاتل، وهناك شح غير مسبوق في الطيارين، فضلًا عن مشكلات تتعلق بتعاطى المخدرات، والعنف داخل الوحدات العسكرية الأمريكية، والزيادة المفرطة في سمنة الجنود الأمريكيين، وهو ما يطرح سلسلة من الشكوك بشأن أداء الجيش الأمريكي في المستقبل؟ وهل تخصيص مزيد من الأموال يمكن أن يصلح كل تلك المشكلات البنيوية في الجيش الأمريكي؟ وما الحلول التي لجأ إليها الكونغرس والبنتاغون للتغلب على تلك المشكلات؟

صورة نمطية باهتة

على مدار التاريخ، ارتبط ذبول الدول العظمى وتراجعها بتراجع أهم عناصر القوة الشاملة للدولة، وهي الجيوش والقوات المسلحة، ومن يتأمل المشكلات التي يعانيها الجيش الأمريكي يتأكد له استحالة إصلاح تلك العيوب عن طريق مزيد من المخصصات المالية كما يسعى الرئيس جو بايدن، الذي أصر على رفع ميزانية الجيش الأمريكي منذ دخوله البيت الأبيض في 20 يناير (كانون الثاني) 2021، فالإنفاق الأمريكي على الجيش يزيد ضعفين على إجمالي النفقات العسكرية لكل من الصين وروسيا، حيث تنفق بيجين نحو 290 مليار دولار، وموسكو نحو 65 مليار دولار (قبل 24 فبراير 2022)، وهو ما يعني أن الإنفاق العسكري الأمريكي يعادل 36 % من إجمال الإنفاق العسكري العالمي، ومع ذلك فإن الخروج الفوضوي الأمريكي من أفغانستان، وعدم تحقيق أي نتيجة عسكرية طوال 20 عامًا من الحرب على الإرهاب كان أقوى المؤشرات على الترهل والضعف اللذين يعيشهما الجيش الأمريكي. ووفق مؤسسة هيريتيج الأمريكية، فإن هناك “ضعفًا” في القوات الفضائية والبحرية، و”ضعفًا شديدًا” في القوات الجوية، في حين أن المستوى المقبول هو فقط لقوات المارينز، والقوة النووية.

اسباب تراجع القوة العسكرية الامريكية

الخلاصة أن الجيش الأمريكي غير قادر على خوض حرب شاملة. وتعزو كثير من المؤسسات الأمريكية تراجع “مؤشر القوة العسكرية الأمريكية” إلى مجموعة من الأسباب، جاء في مقدمتها غياب الأولويات، ونقص التمويل، وكل ذلك رسم صورة نمطية “باهتة” عن الجيش الأمريكي ليس فقط لدى المنافسين لأمريكا على الساحة الدولية مثل روسيا والصين؛ بل في الداخل الأمريكي نفسه، حيث تشير كل استطلاعات الرأي إلى تراجع ثقة المواطن الأمريكي بجيش بلاده، ولعل نتائج استطلاع الرأي الذي أجراه مركز “إيكيلون إنسايتس”، في شهر أكتوبر الماضي، كشفت أن 72 % من البالغين لا يريدون الالتحاق بالجيش، ولديهم صورة سلبية عن الخدمة في الجيش، وأنهم غير مستعدين للانضمام إلى الجيش ولو خاضت بلادهم حربًا كبيرة، في حين بلغ الذين قالوا إنهم مستعدون للتطوع في الجيش 21 % فقط، وقال 7 % إنهم غير متأكدين من قرارهم، كما قالت مؤسسة “جالوب” إن 60 % من الأمريكيين ليس لديهم ثقة بالجيش، وذلك للعام السادس على التوالي.

 حجم المشكلات التي يعانيها الجيش الأمريكي

أولًا: نقص عدد المجندين

 فالجيش الأمريكي يكافح منذ سنوات للوصول بعدد العناصر القتالية إلى مليون مقاتل، وهو أمر أضعف الجيش كثيرًا، وجعله غير قادر على تنفيذ عدة عمليات عسكرية في أقاليم مختلفة حول العالم في وقت واحد. ولا يعاني الجيش الأمريكي من ضعف استقطاب الجنود الجدد فقط؛ بل يفشل في الاحتفاظ بالمجندين الحاليين.

وقد زاد الاقتصاد القوي، وفرص العمل بمرتبات عالية من ابتعاد الأمريكيين عن الجيش الذي يفترض بقاء المقاتل بعيدًا عن عائلته مدة طويلة، لكن السبب الأكبر وراء تراجع عدد الجنود في الجيش الأمريكي هو قلة أعداد الشباب المؤهلين للخدمة العسكرية، سواء بسبب السمنة، أو تعاطي المخدرات، وهذا يؤكده تراجع عدد الشباب الأمريكيين المؤهلين للخدمة العسكرية ما بين 17 و24 عامًا إلى 23 % فقط. ونظرًا إلى التحاق نحو 11 % من هؤلاء الشباب بالجامعات، فسوف يتبقى 12 %  فقط للانضمام إلى الجيش، وما يزيد الأمر سوءًا للجيش الأمريكي أن 9 % من بين 12 % المؤهلين هم فقط الذين لديهم رغبة في الانتماء إلى الجيش الأمريكي، وهو ما أثار قلق ممثلي الأمن القومي الأمريكي، خاصة في ظل تراجع قيمة الخدمة العسكرية وهيبتها، بحسب توصيف وزيرة الجيش الأمريكي كريستين ورموث، التي نشرت إحصاءات خطيرة تشير إلى تراجع عدد المقاتلين في الجيش الأمريكي من 482 ألف جندي عام 2021 إلى 473 ألفًا في 2023، ومن المتوقع أن يخدم 452 ألف فرد في القوات الأمريكية عام 2024، وهو ما يؤثر- في النهاية- في القدرات والقرارات الإستراتيجية للولايات المتحدة، وسبق أن حذر مايكل بلومبيرج، المرشح الديمقراطي الأسبق لنيل بطاقة الترشح للانتخابات الرئاسية لعام 2020، من خطورة تراجع عدد الراغبين في الانضمام إلى القوات المسلحة الأمريكية.

ويسعى البنتاغون إلى التغلب على هذه المشكلات من خلال دفع 35 ألف دولار لكل من يبدأ التدريب في القوات المسلحة، وتوفير الحرية للجنود في اختيار أماكن تمركزهم، بالإضافة إلى أن العقود الجديدة تسمح بالبقاء عامين فقط بدلًا من 4 أعوام، وبدأ البنتاغون بالتفكير في خيارات الذكاء الصناعي، وأنظمة التسليح غير المأهولة للتغلب على هذه المشكلة، وكل هذا يؤكد معاناة الولايات المتحدة في إيجاد مجندين، بعد النقص الحاد في عدد المقاتلين منذ إلغاء التجنيد الإجباري عام 1973.

ثانيًا: إرهاق الوحدات الخاصة ووحدات النخبة

  فالقادة العسكريون الأمريكيون ارتكبوا خطأ كبيرًا، لكنه ظل شائعًا خلال السنوات الماضية، وهو الاعتماد على “الوحدات الخاصة”، مثل وحدات “رينجرز”، و”المارينز”، و”دلتا”، وهذا الأمر تسبب في مشكلتين؛ الأولى هي إرهاق الوحدات الخاصة وتعبها وعدم شغفها، وفي الوقت نفسه فإن هذا أدّى إلى ترهل الوحدات الأخرى وعدم لياقتها وجاهزيتها، خاصة أن وحدات النخبة الخاصة تقوم- في كثير من الأحيان- بمهام ليست من مهامها.

ثالثًا: زيادة معدلات العنف داخل وحدات الجيش الامريكي

خلال الـ15 عامًا الماضية، كان غالبية القتلى في الجيش الأمريكي خلال عنف داخلي، وليس في أثناء العمليات العسكرية، أو الاشتباك مع الأعداء، فمنذ عام 2005 حتى عام 2020 قُتل نحو 17645 جنديًّا في عمليات غير قتالية، وهو ما جعل البيئة الأمنية داخل الوحدات القتالية الأمريكية غير آمنة؛ فوفق دراسة للكونغرس، فإن 93 % من هذه الحوادث وقعت في القواعد العسكرية داخل الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، كما يعاني الجيش الأمريكي منذ عام 2021 زيادة حادة في حالات الانتحار التي تأتي بسبب تنمر الضباط على الجنود، ولعل حادثة هروب الجندي الأمريكي “ترافس كينغ” إلى كوريا الشمالية خير دليل على ما يعانيه الجنود الأمريكيون داخل وحداتهم.

رابعًا: زيادة حوادث الاغتصاب والاعتداءات الجنسية

في عام 2022، زاد عدد البلاغات عن الاعتداءات الجنسية بنسبة 13 % عن عام 2021، وهو ما تسبب في الخوف من الالتحاق بالجيش الأمريكي، خاصة من جانب النساء.

خامسًا: مشكلات النقل  

لن يستطيع الجيش الأمريكي الانتصار في أي حرب قد تنشب في منطقة الأوراسيا؛ لسبب جديد يتعلق بالقدرة على “نقل الجنود والسلاح”؛ لأن أسطول النقل التابع للجيش الأمريكي بات قديمًا ومتهالكًا. ونظرًا إلى أن غالبية العمليات العسكرية الأمريكية تتم خارج الأراضي الأمريكية، وليس في أراضٍ قريبة منها، وتعتمد على أسطول النقل لنقل الأسلحة والذخيرة والمعدات إلى أقرب نقطة لساحات الحرب، وإلى نحو 800 قاعدة أمريكية في الخارج، فإن مستقبل نجاح أي حملة عسكرية أمريكية في الخارج يتوقف على النقل. وتستخدم القوات الأمريكية نحو 65 سفينة كبيرة (40% من هذه السفن باتت قديمة جدًّا وفق تقديرات لجنة القوات المسلحة في الكونغرس)، وقد طالبت الولايات المتحدة حلفاءها ببناء مثل تلك السفن وشرائها، أو النشر المسبق للأصول العسكرية في المناطق التي يحتمل أن تشهد نزاعات في القريب. وتشير كل التحذيرات إلى أن خوض الولايات المتحدة حربًا كبيرة أو شاملة، أو حتى دعم حلفاء على جبهتين مختلفتين، مثل تايوان وأوكرانيا، سيواجه صعوبات كبيرة في نقل القوات والمعدات.

جيش من المرتزقة

التحليل الرقمي والبياني لحجم الإنفاق، وعدد الذين يخدمون الأهداف العسكرية الأمريكية من خارج الجيش الأمريكي، يقول إن مشكلات الجيش الأمريكي دفعت صانع السياسات الدفاعية الأمريكية إلى الاعتماد على شركات الجيوش الخاصة، لا سيما أن تكاليفها السياسية والاقتصادية أقل بكثير من تكاليف الجيش النظامي؛ فعلى المستوى السياسي، لا تحسب الخسائر في الأرواح والإصابات ضمن خسائر الجيش الأمريكي، كما أن البنتاغون يدفع أقل إلى الشركات العسكرية الخاصة التي تحصل على أموال وقت تنفيذ العمليات فقط، في حين أن الجيش الأمريكي يحصل على الأموال على مدار العام، فمتوسط نفقات كتيبة مشاة يصل إلى نحو 110 مليون دولار سنويًّا، في حين أن تكلفة أداء الشركات العسكرية الخاصة للمهام نفسها لا تزيد على 99 مليون دولار في العام؛ ولهذا وقع البيت الأبيض نحو 3000 عقد عمل مع شركات عسكرية خاصة في الفترة من عام 2007 حتى عام 2012، بلغت قيمة هذه العقود نحو 160 مليار دولار، واستعان البنتاغون عام 2010 بنحو 207 آلاف عنصر قتالي من خارج الجيش، في مقابل 175 ألف جندي فقط من الجيش، في حروب أفغانستان والعراق، وهو ما شكل 50% من القوة العسكرية الأمريكية في العراق، و70% في أفغانستان

الثابت من هذا كله أننا أمام بداية لعالم متعدد الأقطاب؛ لأن تراجع الشغف بالقوات المسلحة هو المقدمة الإجبارية لأفول أي إمبراطورية وتراجع نجمها، فعندما تراجعت القوة العسكرية لأثينا كان هذا هو المقدمة الطبيعية لبلوغ إسبرطة قمة هرم القيادة العالمية.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع