عقد الرئيس فلاديمير بوتين مؤتمره الصحفي السنوي، المسمى “الخط المباشر”، بعد انقطاعه منذ اندلاع “العملية العسكرية الخاصة” في أوكرانيا. يحلل رئيس الجمعية الأوراسية في (برلين) ألكسندر رار، الذي حضر هذا المؤتمر، ما صدر عن الزعيم الروسي من تصريحات، وتوقعاته لسياساته في عام 2024، وذلك من خلال الأسئلة التي طرحها عليه يفغيني شيستاكوف من صحيفة رسيسكايا غازيتا.
لقد شاهدت “الخط المباشر” مع فلاديمير بوتين، ما الاستنتاجات التي توصلت إليها بناءً على ما دار فيه؟
ألكسندر رار: أصبح من الواضح الآن أن الهجوم المضاد الأوكراني قد فشل، ويبدو أن ميزة الجيش الروسي في ساحة المعركة واضحة. لدى بوتين ما يقدمه للناخبين في الانتخابات الرئاسية التي ستُجرى بعد ثلاثة أشهر. ولم يكن بوسع أولئك الذين تابعوا “الخط المباشر” للرئيس في الغرب- من كثب- إلا أن يلاحظوا عدم وجود لهجة عدوانية من جانب زعيم الكرملين تجاه الغرب. إن ادعاءات واتهامات روسيا ضد ما يسمى بـ “الدول الشريكة” معلنة ومعروفة منذ فترة طويلة. في عام 2024، سيأتي وقت “ذوبان الجليد” بين الطرفين. بالطبع، سيحدث ذلك فقط بشرط أن يتوقف تدفق المعدات العسكرية الغربية إلى أوكرانيا (أو تُدَّمر)، وأن تضمن القوانين الأوكرانية حقوق السكان الناطقين بالروسية في الأراضي التي سيطر عليها الجيش الروسي.
في المؤتمر الصحفي الختامي، قال الرئيس فلاديمير بوتين إن أوروبا تتخذ قرارات تضر بنفسها، وتفقدها سيادتها، وفي رأيه أنه لا توجد في الوقت الحالي شروط أساسية لاستعادة العلاقات بين الغرب وروسيا. هل تتمكن النخبة الأوروبية من رؤية الواقع، والتوقف عن اتباع الخط السياسي الأمريكي؟ أم لا يمكن التعويل على خطوات مستقلة من الاتحاد الأوروبي تجاه روسيا من دون قرار واشنطن؟
رار: تحتاج أوروبا وروسيا أحداهما إلى الأخرى على قدم المساواة. إن النافذة التي فتحها بطرس الأكبر على أوروبا قبل ثلاثمئة عام، جعلت روسيا واحدة من القوى الرائدة في القارة العجوز. حتى نهاية القرن العشرين، عاشت أوروبا على أساس أن روسيا جزء لا يتجزأ من البيت الأوروبي المشترك. لقد أُنشئت منظمة الأمن والتعاون في أوروبا قبل خمسين عامًا لتعزيز التعاون والتنسيق المشترك، ولكن الحقيقة الأخرى هي أن النخب الحالية في أوروبا جميعها ذات ثقافة سياسية “أطلسية”. من المعروف أن أمريكا تريد إضعاف دور روسيا في أوروبا، والنخب الأوروبية لا تتحدث إلى موسكو بانفصال عن واشنطن، إلا إذا فقدت الولايات المتحدة نفسها اهتمامها الجيوسياسي بأوروبا القديمة. هذا الأمر سيحدث عندما ترى الولايات المتحدة أنه من المناسب تحويل تركيزها نحو آسيا. في هذه الحالة أرى آفاقًا جديدة لاستعادة العلاقات بين روسيا وأوروبا.
اليوم، يتعين على الخبراء أن يفكروا بالفعل في الشكل الذي قد يبدو عليه العالم بعد الأزمة الأوكرانية، وبطبيعة الحال، بعد انتهاء الحرب في فلسطين. إن العالم يتغير بالفعل تغيّرًا كبيرًا إلى درجة أن التنبؤات ضرورية لفهم الاتجاه الذي نتجه إليه. إن حقيقة أنه أصبح من المستحيل تقريبًا مواكبة التغيرات في العالم، هي في بعض النواحي مخيفة.
في أحد ردوده، قال بوتين إن لدى روسيا كثيرًا من المؤيدين في الغرب الذين يعتقدون أن روسيا على حق في الدفاع عن قيمها، ويأسفون لأن حكوماتهم لا تفعل ذلك. هل تعتقد أنه لا تزال هناك فرصة لأوروبا- بشكل خاص- والغرب- بشكل عام- للعودة إلى القيم المسيحية المحافظة؟ أم أن أوروبا وروسيا اختلفتا ثقافيًّا بشكل لا رجعة فيه؟
رار: الصراعات الرئيسة التي تجري في أوروبا اليوم هي التنافس بين “القيم الليبرالية” السيئة السمعة لما بعد الحداثة، من ناحية، والقيم التقليدية الموجودة إلى جانب فكرة “أوروبا المصالح الوطنية” على الجانب الآخر. إن النضال من أجل مستقبل أوروبا، المصحوب بالصراع بين أفكار الليبرالية والتقليدية، سيستمر عدة سنوات أخرى، وليس من الواضح بعد من سيفوز. في هذا الصراع، ينظر “التقليديون” إلى روسيا على أنها أقرب إليهم من مركزي الليبرالية العالمية (واشنطن وبروكسل).
هل تخشى أوروبا التكامل الاقتصادي والعسكري في المجال ما بعد السوفيتي، وأنشطة الهياكل الجديدة مثل مجموعة بريكس، التي ترفض العيش في عالم قائم على القواعد الغربية؟
رار: إن جوهر الصراع العالمي، الذي برز بقوة من خلال الأزمة الأوكرانية، هو المواجهة بين النظام العالمي القديم (القائم على احتكار القيم الليبرالية الغربية)، ودعاة فكرة “النظام العالمي المتعدد المراكز”، الذي يرونه أكثر عدلًا، لكن أنصار النظام الغربي “القائم على القواعد” يقاومون بشدة.
تحدث الرئيس الروسي أن ما تعلمه في عام 2023، بالنظر إلى تجربته الطويلة منذ عام 2000، الحذر “من الإفراط في الثقة بالشركاء”. فهل من الممكن اليوم التوصل إلى أي اتفاق بمشاركة الغرب يمكن أن تثق به روسيا؟ أم أن العدمية السائدة في الشؤون الدولية لن تسمح بإبرام اتفاقيات دولية عقودًا من الزمن في المستقبل؛ لأن مستوى انعدام الثقة بين روسيا والغرب أصبح في أعلى مستوياته، وباهظ التكلفة؟ وهل من الممكن التغلب على هذا الوضع أم أنه لا يزال يتعين علينا جميعًا أن نتعايش معه مدة طويلة جدًّا؟
رار: لسوء الحظ، فإن انعدام الثقة بين الغرب وروسيا لن يختفي بسرعة. المطالبات المتبادلة مذهلة. وإذا شرحنا الصراع بكلمات بسيطة، فإن جوهره يتلخص في أن الغرب لا يريد الاعتراف بحق روسيا في التحول إلى قوة عظمى. في المقابل، لن توافق روسيا أبدًا على الاضطلاع بدور ثانوي في أوروبا.
ما مدى جدية حديث بعض الخبراء عن أن عام 2024 سيكون مصيريًّا؟ أم أن هذا التصور مبالغ فيه؟
رار: أنا من أولئك الذين يعتقدون أن العام المقبل (2024) سيكون مصيريًّا. ستجرى الانتخابات في 70 دولة. سيصوت ما يقرب من ثلثي سكان العالم لصالح حكومة جديدة، أو سيحاولون الحفاظ على الحكومة القديمة. ومن المقرر أن تجرى الانتخابات في الدول الرئيسة، مع استثناء الصين. لدينا انتخابات في الولايات المتحدة، حيث من الواضح أن الديمقراطيين بقيادة بايدن قد يخسرون. وبعد ذلك سيعود ترمب إلى السلطة مرة أخرى، وهو ما سيغير الولايات المتحدة تغييرًا كبيرًا، أو ربما النظام الأمريكي بكامله، ودور أمريكا بوصفها قوة عالمية.
في روسيا، يمكن للمرء أن يفترض أنه سيظل هناك معقل للاستقرار. اليوم، السكان يدعمون فلاديمير بوتين، ولكن هذا لا يعني أن روسيا سوف تكون قادرة على “الراحة”؛ بل يتعين عليها أن تستمر في بناء العلاقات مع جارتها الصينية، وتعزيز مكانتها في النظام العالمي الجديد.
وفي عام 2024، ستُجرى الانتخابات في ثلاث ولايات في جمهورية ألمانيا الديمقراطية السابقة (ألمانيا الشرقية). جميع الدلائل تشير إلى إمكانية فوز الأحزاب اليمينية، وحصولها على كثير من الأصوات، مثل “البديل من أجل ألمانيا”، الذي سيغير أيضًا المشهد السياسي في ألمانيا تغييرًا كبيرًا. في عام 2024، أعتقد أن المستشار أولاف شولتس سيضطر إلى ترك منصبه. إن الوضع في ألمانيا يمر بأزمة قد لا تتمكن الحكومة الحالية من الصمود أمامها.
من المقرر أن يتم التصويت في بريطانيا، ويبدو أن الحكومة هناك ستتغير أيضًا. لا أستبعد احتمال حدوث تغيير في السلطة في أوكرانيا. سيتعين علينا أن نتعامل مع الدور الجديد للولايات المتحدة، وهذا سيحدد نوع النظام العالمي الذي سننغمس فيه ابتداء من عام 2024. في جميع الاحتمالات، سيزداد الصراع بين واشنطن وبكين.
أمام أعيننا، نشهد تحولات كبرى في أوروبا- ألمانيا التي كانت قوية ذات يوم، تتحول إلى تابع، وعاجزة عن ممارسة سياسية مستقلة، فهل تمتلك برلين فرصة للبقاء في صدارة الاتحاد الأوروبي، أم أن “عصر الرخاء الذي ميز فترتي شرودر وميركل قد وصل إلى نهايته أخيرًا؟
رار: ألمانيا لا تزال رائدة أوروبا من وجهة نظري، لكنها تفقد هذا الدور بسرعة. وسيعاني الاتحاد الأوروبي بكامله من هذا. سيتعين عليه المناورة باستمرار، مع الأخذ في الحسبان فوز القوى اليمينية والشعبويين في الانتخابات. وفي فرنسا أيضًا سوف يصل اليمين إلى السلطة، عاجلًا أو آجلًا، كما هي الحال في أغلب بلدان أوروبا الشرقية.
ومن ناحية أخرى، سنشهد في بعض الدول عودة الأحزاب الليبرالية إلى السلطة، كما حدث الآن في بولندا. وتأمل ألمانيا أيضًا حدوث هذا التطور. وستكون المشكلة الرئيسة في الاتحاد الأوروبي هي نقص الأموال، والديون المرتفعة جدًّا، والأزمات المتلاحقة، والاقتصاد غير المتنامي. ومن أجل إنقاذ نفسها، تستطيع أوروبا أن تخلق آلية للإدارة المشتركة للديون، وهذا يعني أن الألمان، بوصفهم أكبر اقتصاد، سيتعين عليهم أن يدفعوا ثمنًا ما للجميع، وهذا سوف يسبب كثيرًا من السخط، وسيُسهم في إضعاف أوروبا الموحدة؛ لذا فمن غير الواضح ما إذا كان الأوروبيون سوف يحصلون على الأموال التي وعدوا بها كييف اليوم، والتي تقدر بنحو 27 مليار دولار، والتي يبدو أنهم يريدون منحها لأوكرانيا في الأعوام الثلاثة المقبلة من أجل استعادة الاقتصاد.
ألكسندر رار
في العام الماضي، قيل الكثير عن تدمير النظام العالمي القديم، وكانت هناك علامات واضحة على ذلك، مثل طرد فرنسا من المستعمرات السابقة في إفريقيا، وتوسيع بريكس، ورفض كثير من الدول الالتزام بالعقوبات التي فرضها الغرب على روسيا، كيف ترى الأمور؟
رار: السؤال الكبير هو: كيف ستبدو المواجهة بين الاتحاد الأوروبي وروسيا في المستقبل؟ من المخيف الاعتقاد أننا قد نجد أنفسنا في حرب باردة مرة أخرى، لكن لديَّ سؤال: كيف أدفع ثمنها؟ ففي نهاية المطاف، انتهت الحرب الباردة الأخيرة بحقيقة أنه لم يعد هناك أي أموال لصيانة المركبات العسكرية على أي من الجانبين، ولم تكن هناك رغبة سياسية في مواصلة المواجهة. لا أستطيع أن أتخيل أننا سنعود إلى زمن كان فيه ما يقرب من ثلث الميزانية ينفق على الاحتياجات العسكرية للدول. في ألمانيا، يصل هذا الرقم حاليًا إلى 10 في المئة، لكن برلين الرسمية تتحدث بالفعل عن زيادة الإنفاق العسكري.
سوف يتغير النظام العالمي في آسيا. قبل ثلاثين عامًا، أدى سقوط النظام السوفيتي إلى تغييرات كبيرة في أوروبا، لكن الولايات المتحدة لم تتأثر، بل أثرت- إلى حدٍ ما- في آسيا، ولكن آسيا الآن تتفوق على أوروبا، ومن غير الواضح ما إذا كان التحول سوف يتم سلميًّا أم بعنف. إن ظهور نظام عالمي جديد يحدث بسرعة، وبقدر كبير من العدوانية، وهذا لا نراه في فلسطين فحسب؛ بل في أماكن أخرى أيضًا، ويحدث كل هذا على خلفية تعزيز قوة الصين، التي ستصبح بحلول نهاية عام 2024، جنبًا إلى جنب مع الولايات المتحدة، ثاني قوة عظمى على المسرح العالمي.
ومن خلال العمليات العسكرية في أوكرانيا، تدفع روسيا باتجاه إنشاء نظام عالمي جديد، سيتميز- من وجهة نظري- بالهيمنة المشتركة بين أمريكا والصين. لا أحد يعرف ما الذي سينتجه هذا الوضع. اليوم، تبحث البشرية عن الشيء الرئيس: “فهم كيفية تحقيق الاستقرار في الحياة على هذا الكوكب”. نرى أن هناك كثيرًا من التحديات التي لا توجد إجابات لها حتى الآن. ونحن في أوروبا نشعر بالرعب إزاء الهجرة الجماعية، والعجز عن حل مشكلات الديون، وتراجع التصنيع في العالم القديم. أما فيما يتعلق بروسيا، فإن العيش في عزلة فعلية عن أوروبا ستكون له- من وجهة نظري- أيضًا عواقب وخيمة. لا أستطيع أن أتخيل كيف ستعيش أوروبا وروسيا الآن منفصلتين في ظل الستار الحديدي الجديد.
الآن نرى ذلك هذا النظام العالمي بكامله معرضًا للتهديد. التغييرات في نظام غير مستقر بذاته يمكن أن تؤدي بالفعل إلى تغييرات خطيرة في السياسة العالمية.
قرأت مؤخرًا أنه في ألمانيا سوف يستقطعون جزءًا من غابة الأخوين غريم الخيالية من أجل وضع “طواحين الهواء” في هذا المكان. هل ستظل التكنولوجيا الخضراء هي المسيطرة في العام المقبل؟
رار: مؤتمر المناخ في دبي، الذي عُلقت عليه آمال كبيرة، على الأقل في الغرب، ينتهي تقريبًا بفضيحة للغرب، الذي تخيل قدرته على إقناع القوى الأخرى بالانخراط في التكنولوجيات الخضراء، وإدخال القضايا الخضراء في السياسات الكبرى، وتحسين الاقتصاد الأخضر. لكن في دبي، اتضح أن القواعد الغربية قد تم التخلص منها، ولم يعد يُستَمَع إليها. تحاول دول أوبك، وبعض الدول الأخرى، المضي قدمًا في أجندتها، وهي ليست جذرية على الإطلاق. إنهم ليسوا ضد التكنولوجيات الخضراء، ويرحبون باستخدامها، لكنهم يريدون- في الوقت نفسه- الاحتفاظ بمصادر الطاقة التقليدية (النفط، والغاز، والفحم). ويأتي هذا بمنزلة صدمة للأوروبيين؛ لأنهم لم يتوقعوا أن العالم الغربي لن يتمتع بالقدر الكافي من النفوذ لإحداث ثورة خضراء عالمية. لقد تم التخطيط لهذه “الثورة”، والحلم بها أولًا وقبل كل شيء في ألمانيا. الآن اتضح أن الدول الأخرى يمكنها أن توقف هذه العملية جديًّا، وهذا يوضح مدى الاختلاف الذي أصبح عليه العالم على نطاق عالمي. أكرر، منذ سنوات كثيرة، حدثت جميع التغييرات الرئيسة في أوروبا، وهي تحدث الآن في جميع أنحاء العالم، دون استثناء.
هل يمكن أن يكون التدهور الحالي للأوضاع شكلًا من أشكال التقدم، أو شكلًا من أشكال التنمية البشرية؟ ربما نحن- ببساطة- خائفون من شيء جديد؟
رار: ربما هي مسألة عمر. الأشخاص الذين اعتادوا أسس العالم القديم يخافون من التقدم. ومن الإنصاف أن نقول إن التقدم يجب أن يكون عقلانيًّا. في مكان ما، لا يزال يتعين عليه توفير الراحة للناس، وجعل العالم أفضل، وليس أسوأ.
هناك شعور بأن التقدم، على الأقل في أوروبا، يتكون من عدم إحراز تقدم. للمرة الأولى منذ أكثر من مئة عام، يدعو الأوروبيون إلى فرض قيود على اقتصاداتهم. تُقارَن الثورة الخضراء أحيانًا بثورة البلاشفة، الذين كان من المهم لهم أن يهزوا العالم كله ثم يروا ما سيحدث. في ذلك الوقت، كانت الأيديولوجيا فوق السياسة، لكن بعد عام 1945، كُرِّسَت كل الجهود لتحقيق استقرار العالم في أي مواجهة، وعدم زعزعته.
لقد دخل العام الماضي مصطلح “الجنوب العالمي” إلى الاستخدام اليومي، الذي أصبحت مصالحه تتناقض- على نحو متزايد- مع “مجموعة السبع”، و”الغرب الجماعي”. هل وصل الجنوب العالمي إلى النفوذ الكافي لفرض نفسه على الغرب؟ أم أننا في البداية فقط؟
رار: إن اعتماد أوروبا على الولايات المتحدة أصبح اليوم أكبر مما كان عليه قبل ثلاثين عامًا. قبل بضعة عقود مضت، لم يكن أحد يفهم حقًّا ما أوراسيا. لقد كان مفهومًا أدبيًّا بحتًا. واليوم، يعد هذا تعريفًا سياسيًّا تمامًا لما يحدث في الفضاء بين أوروبا وآسيا، وظلت روسيا لاعبًا مؤثرًا حقًّا هناك. ظهرت قوى مهمة جديدة: (الهند، وإيران، وتركيا، وباكستان)، وبطبيعة الحال، الصين. لقد تحولت آسيا الوسطى من كيان سابق إلى موضوع للسياسة العالمية. يُبنَى نظام عالمي جديد هناك، على النقيض- إلى حد كبير- من النظام العالمي القديم الغربي.
الجنوب العالمي، الذي يتم الحديث عنه كثيرًا، هو- في رأيي- الاسم المستقبلي لعالم آخر. هذه هي الدول العربية وإفريقيا، التي أصبحت بالفعل “جذر” الجنوب العالمي، ويتضاعف عدد السكان هناك. وفي 50 عامًا سوف يتضاعف ثلاث مرات؛ ومن هنا تأتي التحديات التي تواجه البشرية، ومن الصعب اليوم أن نتخيل كيف سيتعامل العالم معها. السكان هناك في حالة نمو بشكل فلكي. قريبًا سيكون هناك 10 مليارات على هذا الكوكب. إن إطعامهم هو التحدي الرئيس.
أشك في أن العالم الذي يتشكل الآن سيبدو عادلًا لهذه المنطقة؛ أولًا: لا تزال هناك صراعات كثيرة في وسط إفريقيا، وفي الشرق الأوسط، والمنطقة برمتها على شفا حرب كبرى. لقد اختفى النفوذ الأمريكي هناك. حصلت البلدان هناك على سيادتها الكاملة، وتسير في طريقها الخاص. نشعر أن هناك مشكلات كثيرة في هذه البلدان، وهناك هجرة جماعية من هناك لا يمكن وقفها، ولا تقتصر هذه الهجرة على انتقال عدد قليل من الأشخاص من هنا إلى هناك، فهذه الهجرة الجماعية يمكن أن تؤدي إلى تغييرات في عدد سكان أوروبا، ومنها تغييرات في العقلية، والبنية، وما إلى ذلك، ولن يحدث هذا في غضون من 50 إلى 80 عامًا، كما كان متوقعًا سابقًا؛ بل في غضون 20 عامًا فقط.
أحصت وكالة بلومبرغ أن هناك 183 صراعًا إقليميًّا ومحليًّا في العالم اليوم، وسوف يتزايد عددها؛ لأن اللاعبين الدوليين الرئيسين يقللون من شأن احتمال نشوب حرب عالمية جديدة. هل سيتقبل العالم الغربي التغييرات القادمة؟ أم سيقاومها، بما في ذلك من خلال استخدام القوة العسكرية؟
رار: عدم استقرار الوضع الحالي يرجع- في المقام الأول- إلى حقيقة أن الدول تناضل من أجل حقوقها. لن يتخلى أحد طوعًا عن السلطة والنفوذ. الآن العالم يتغير. ميثاق باريس لم يعد موجودًا. لا يوجد سلام شبيه بما حدث في مؤتمر يالطا، ولا توجد أنظمة عالمية أخرى. الأمم المتحدة تنفجر من الخلافات. ونحن بحاجة إلى خلق شيء جديد. إن النظام العالمي المتعدد الأقطاب آخذ في الظهور، لكن في الغرب، وخاصة في أوروبا، يعد ظهوره مخيفًا جدًّا؛ لأنهم يقولون إنهم في أوروبا لا يريدون العيش في عالم يسيطر عليه الصينيون أو الروس، وأخشى أن الغرب يعول على وقف تشكيل هذا النظام الجديد أو تغييره من خلال محاولة استخدام القوة.
لذا، فإن خبراء العالم على حق عندما يقولون إن الصراع بين روسيا وأوكرانيا لا يتعلق بأوكرانيا؛ بل يتعلق بالنظام العالمي المستقبلي، الذي تعارضه تلك القوى التي لا تريد ذلك. لكن لا تزال هناك منصات دبلوماسية، حيث يمكن التفاوض على شيء ما، لكنها ليست شائعة. كل جانب لديه منصة خاصة به، ولا يريد مشاركة الطرف الآخر فيها، وهذه هي المأساة الكبرى.
المصدر: صحيفة رسيسكايا غازيتا الروسية
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.