تقدير موقف

أزمة نيبال وتداعياتها على الأمن الإقليمي في جنوب آسيا


  • 11 سبتمبر 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: cbc

تشهد نيبال أزمة سياسية وأمنية غير مسبوقة، اندلعت شرارتها بسبب قرار حكومي بحظر منصات التواصل الاجتماعي، مما أثار احتجاجات واسعة النطاق قادها الشباب، وتُعرف شعبيًا بـ”انتفاضة الجيل زد (Z)”. هذه الاحتجاجات، التي تصاعدت إلى أعمال عنف أسفرت عن مقتل 19 شخصًا على الأقل وإصابة المئات، أدت إلى استقالة رئيس الوزراء خادجا براساد شارما أولي، ووزير الداخلية راميش ليخاك، بالإضافة إلى تراجع الحكومة عن قرار الحظر. هذه الأحداث ليست مجرد اضطرابات داخلية؛ بل تحمل تداعيات محتملة على الأمن الإقليمي في جنوب آسيا، بسبب موقع نيبال الإستراتيجي بين الهند والصين، وتاريخها السياسي المضطرب.

نيبال دولة جبلية واقعة في جبال الهيمالايا، ولديها تاريخ سياسي معقد. منذ إلغاء النظام الملكي في عام 2008 بعد حرب أهلية استمرت عقدًا، شهدت البلاد سلسلة من الحكومات غير المستقرة، حيث تعاقبت أكثر من اثنتي عشرة حكومة خلال هذه الفترة. هذا الاضطراب السياسي، إلى جانب الفساد المستشري، والبطالة العالية بين الشباب (20.8% للفئة العمرية 15-24 عامًا في 2024 حسب البنك الدولي)، خلق أرضية خصبة للغضب الشعبي. بدأت الأزمة الحالية في 4 سبتمبر (أيلول) 2025، عندما أصدرت وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات قرارًا بحظر 26 منصة تواصل اجتماعي، منها فيسبوك، وإكس، ويوتيوب، وإنستغرام، بحجة عدم امتثالها لإجراءات التسجيل الرسمية. ومع ذلك، يرى النقاد أن الحظر كان محاولة لقمع التوجهات الشعبية التي كشفت عن المحسوبية والفساد بين النخب السياسية، خاصة بين أبناء القادة وأقاربهم.

هذا القرار أشعل موجة غضب عارمة، خاصة بين الشباب، الذين يشكلون نسبة كبيرة من السكان، ويعانون إحباطًا متراكمًا بسبب ضعف الفرص الاقتصادية، وسوء الحوكمة. تصاعدت الاحتجاجات في 8 سبتمبر (أيلول) 2025، حيث تجمع عشرات الآلاف في العاصمة كاتماندو، وتحديدًا حول مبنى البرلمان الفيدرالي، مطالبين بإلغاء الحظر، ومحاسبة الفاسدين. استخدمت قوات الأمن الغاز المسيل للدموع، ومدافع المياه، والرصاص الحي في بعض الحالات، مما أدى إلى مقتل 19 شخصًا وإصابة أكثر من 400 آخرين، وفقًا لتقارير إعلامية وصحفية.

مع تصاعد الاحتجاجات، تحولت إلى أعمال عنف غير مسبوقة، حيث أضرم المتظاهرون النار في مبنى البرلمان، ومقر المحكمة العليا، ومكتب النائب العام، بالإضافة إلى منازل بعض المسؤولين. هذه الأعمال العنيفة، التي شملت إحراق إطارات، وقطع الطرق، أدت إلى إغلاق المطار الدولي في كاتماندو، وفرض حظر تجوال في العاصمة. الشرطة واجهت المتظاهرين بالقوة، مما زاد حدة التوترات. استجابة لهذه الأحداث، دعا رئيس الوزراء أولي إلى حوار سياسي، لكن الغضب الشعبي استمر؛ مما دفعه إلى تقديم استقالته في 9 سبتمبر (أيلول) 2025، ثم استقالة وزير الداخلية.

الحكومة، تحت الضغط الشعبي، تراجعت عن قرار حظر منصات التواصل الاجتماعي، لكن هذا التراجع لم يهدئ المتظاهرين، الذين وسعوا مطالبهم لتشمل إصلاحات جذرية في الحوكمة ومكافحة الفساد. أشار منظمو الاحتجاجات إلى أن الأزمة ليست مجرد رد فعل على حظر التواصل الاجتماعي، بل تعكس إحباطًا عميقًا من الفساد المستشري، وضعف الفرص الاقتصادية، وعدم المساواة الاجتماعية. هذه الحركة، التي قادها الشباب على نحو رئيس، تُعد الأسوأ منذ احتجاجات 2008 التي أطاحت بالنظام الملكي، مما يبرز عمق الأزمة السياسية والاجتماعية في نيبال.

انعكاسات الأزمة على الأمن الإقليمي في جنوب آسيا

نيبال، بموقعها الجغرافي بين الهند والصين، تُعد نقطة إستراتيجية في جنوب آسيا. أي اضطرابات داخلية فيها قد تؤثر في التوازنات الإقليمية، خاصة في ظل التنافس الجيوسياسي بين الهند والصين. الأزمة الحالية تحمل عدة تداعيات محتملة على الأمن الإقليمي، يمكن تلخيصها في النقاط التالية:

  • زعزعة الاستقرار السياسي والفراغ الحكومي

استقالة رئيس الوزراء خادجا براساد شارما أولي ووزير الداخلية راميش ليخاك في 9 سبتمبر (أيلول) 2025، بعد أيام من الاحتجاجات العنيفة، خلقت فراغًا سياسيًّا في نيبال. هذا الفراغ يُعد تهديدًا مباشرًا للأمن الإقليمي، حيث إن عدم الاستقرار السياسي في دولة مثل نيبال يمكن أن يفتح المجال أمام التدخلات الخارجية. الهند، التي تاريخيًّا كان لها نفوذ كبير في نيبال من خلال العلاقات الاقتصادية والثقافية، قد تسعى إلى دعم حكومة موالية لها لضمان استقرار الحدود المشتركة التي تمتد إلى أكثر من 1800 كيلومتر. في المقابل، الصين، التي زادت استثماراتها في نيبال ضمن مبادرة الحزام والطريق، قد تستغل هذا الفراغ لتعزيز وجودها السياسي والاقتصادي. هذا التنافس بين القوتين الإقليميتين قد يؤدي إلى تصعيد التوترات في جنوب آسيا، خاصة إذا تحول الصراع على النفوذ إلى مواجهات غير مباشرة عبر دعم فصائل سياسية متعارضة داخل نيبال. هذا السيناريو قد يعيد إحياء ديناميكيات الحرب الباردة الإقليمية، مما يهدد الاستقرار في المنطقة.

  • تصاعد التوترات الاجتماعية والاقتصادية

هذه الاضطرابات الاجتماعية ليست قاصرة على نيبال، بل قد تلهم حركات احتجاجية مماثلة في دول الجوار التي تعاني تحديات اقتصادية واجتماعية مشابهة، مثل بنغلاديش وسريلانكا. في بنغلاديش، على سبيل المثال، شهدت البلاد احتجاجات عنيفة في 2024 بسبب قوانين العمل والتوظيف، مما أدى إلى استقالة رئيسة الوزراء شيخ حسينة. إذا انتشرت هذه الحركات الشعبية، فقد تؤدي إلى موجة من عدم الاستقرار الإقليمي، حيث تكافح حكومات جنوب آسيا للسيطرة على الغضب الشعبي. هذا الانتشار قد يؤدي إلى زيادة أعمال العنف، مما يعقد الجهود الإقليمية لتحقيق الاستقرار والتنمية المستدامة.

  • التأثير في العلاقات الثنائية مع الهند والصين

تعتمد نيبال -اعتمادًا كبيرًا- على الهند في التجارة (60% من إجمالي تجارة نيبال في 2024 كانت مع الهند)، والطاقة، والإمدادات الأساسية، في حين أن الصين هي ثاني أكبر شريك تجاري، ومستثمر رئيس في مشروعات البنية التحتية. الأزمة الحالية قد تعطل هذه العلاقات الاقتصادية، خاصة بعد إغلاق مطار كاتماندو الدولي، وفرض حظر التجوال، مما أثر في حركة التجارة والسياحة. إذا استمر عدم الاستقرار، قد تتردد الهند في تقديم دعم اقتصادي إضافي خوفًا من أن يُستخدم لصالح حكومة غير موالية لها. في الوقت نفسه، الصين، التي استثمرت أكثر من 3 مليارات دولار في نيبال بين 2015 و2024، قد ترى في الأزمة فرصة لتوسيع نفوذها من خلال تقديم مساعدات اقتصادية، أو دعم سياسي لحكومة جديدة. هذا التنافس قد يؤدي إلى توترات دبلوماسية بين الهند والصين، خاصة إذا شعرت الهند بأن الصين تحاول تهميش نفوذها في نيبال. هذه التوترات قد تمتد إلى قضايا أخرى، مثل نزاعات الحدود في لداخ، مما يزيد التوتر الإقليمي.

  • التداعيات الأمنية المباشرة

أعمال العنف في نيبال، التي شملت إحراق مبانٍ حكومية ومواجهات مع قوات الأمن، أدت إلى حالة من الفوضى في العاصمة. هذه الفوضى قد تؤدي إلى زيادة الأنشطة غير القانونية عبر الحدود، مثل تهريب الأسلحة والمخدرات، خاصة عبر الحدود المفتوحة مع الهند. الحدود النيبالية- الهندية، التي تُعد مسامية بطبيعتها، كانت دائمًا نقطة ضعف أمنية، حيث تستخدمها جماعات متطرفة، وشبكات إجرامية. تفاقم عدم الاستقرار في نيبال قد يشجع هذه الأنشطة، مما يهدد الأمن في الولايات الهندية المتاخمة، مثل أوتار براديش وبيهار. بالإضافة إلى ذلك، إغلاق المطار الدولي في كاتماندو أثر في السياحة، وهي مصدر دخل رئيس (8% من الناتج المحلي الإجمالي في 2024)، مما قد يؤدي إلى تدهور اقتصادي يزيد الضغوط الاجتماعية والهجرة غير النظامية إلى الهند، مما يضع ضغطًا إضافيًّا على الأمن الإقليمي.

  • التأثير في التحالفات الإقليمية

جنوب آسيا تُعد منطقة ذات تكامل إقليمي ضعيف، حيث تعاني رابطة دول جنوب آسيا للتعاون الإقليمي (SAARC) شللًا بسبب التوترات بين الهند وباكستان. أزمة نيبال قد تؤدي إلى مزيد من التوترات داخل هذه الرابطة، إذ قد تتردد الدول الأعضاء في تقديم دعم موحد خوفًا من الانحياز إلى أحد الطرفين في التنافس الهندي- الصيني. على سبيل المثال، بينما قد تدعم الهند إجراءات لاستعادة الاستقرار في نيبال، قد تعارض باكستان أي تحركات تُعزز نفوذ الهند. هذا الانقسام قد يضعف الجهود الإقليمية لمعالجة الأزمات، مما يجعل جنوب آسيا أكثر عرضة للاضطرابات. بالإضافة إلى ذلك، قد تستغل الصين هذا الفراغ لتعزيز مبادراتها الإقليمية، مثل منتدى التعاون الصيني- جنوب آسيا، مما يزيد تعقيد ديناميكيات الأمن الإقليمي.

  • القلق الدولي وحقوق الإنسان

استخدام القوة المفرطة ضد المتظاهرين في نيبال، الذي أدى إلى مقتل 19 شخصًا وإصابة المئات، أثار قلق المجتمع الدولي، حيث دعت مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان إلى إجراء تحقيق شفاف. هذا الاهتمام الدولي قد يضع ضغوطًا على الحكومة النيبالية لإصلاح سياساتها، لكنه قد يؤدي أيضًا إلى ردود فعل داخلية معاكسة إذا شعرت الأطراف السياسية بأنها مستهدفة من قوى خارجية. هذا التوتر قد يعقد العلاقات مع الدول الإقليمية، خاصة إذا حاولت الهند أو الصين استغلال هذه القضية لتعزيز مواقفهما الدبلوماسية. على سبيل المثال، قد تدعم الصين موقف الحكومة النيبالية ضد “التدخل الغربي”، في حين قد تستخدم الهند قضايا حقوق الإنسان للضغط على نيبال للتوافق مع مصالحها.

خاتمة

إذا فشلت نيبال في معالجة الأسباب الجذرية للأزمة، مثل الفساد والبطالة، فقد تصبح أكثر اعتمادًا على المساعدات الخارجية، مما يزيد نفوذ القوى الإقليمية. هذا الاعتماد قد يجعل نيبال ساحة للتنافس الجيوسياسي، مما يهدد بتحويلها إلى نقطة اشتعال إقليمية. وإذا استمرت الاحتجاجات في إثارة حركات مشابهة في دول أخرى، فقد يؤدي ذلك إلى موجة من عدم الاستقرار تعوق جهود التنمية الإقليمية، مثل مشروعات الطاقة والنقل التي تربط آسيا الوسطى بجنوب آسيا، مثل مشروعي (CASA-1000)، (TAPI). هذه المشروعات، التي تهدف إلى تعزيز الترابط الإقليمي، قد تواجه تأخيرات أو انهيارًا إذا تفاقم عدم الاستقرار في نيبال وامتد إلى دول الجوار.

أزمة نيبال 2025 ليست مجرد اضطراب داخلي؛ وإنما حدث له تداعيات إقليمية كبيرة. من زعزعة الاستقرار السياسي إلى تصاعد التوترات الاجتماعية، ومن تعقيد العلاقات مع الهند والصين إلى تهديد الأمن عبر الحدود، تُظهر هذه الأزمة هشاشة التوازنات في جنوب آسيا. معالجة هذه التداعيات تتطلب تعاونًا إقليميًّا لدعم استقرار نيبال، مع تجنب استغلال الأزمة لأغراض جيوسياسية، لضمان أمن المنطقة واستقرارها. على المدى الطويل، قد تؤدي أزمة نيبال إلى إعادة تشكيل التحالفات الإقليمية في جنوب آسيا.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع