شهدت إندونيسيا، وبالأخص العاصمة جاكرتا، في الأيام الأخيرة من أغسطس (آب) 2025، موجة غير مسبوقة من الاحتجاجات العنيفة التي تحولت إلى فوضى عارمة، شملت اقتحام منزل وزيرة المالية سري مولياني إندراواتي، ومنازل نواب برلمانيين، إضافة إلى إحراق مبانٍ حكومية واشتباكات دامية مع قوات الأمن. هذه الأحداث، التي أسفرت عن مقتل خمسة أشخاص على الأقل وإصابة العشرات، تعكس أزمة سياسية واقتصادية عميقة تهز أكبر اقتصاد في جنوب شرق آسيا. بدأت الاحتجاجات كرد فعل على قرارات اقتصادية مثيرة للجدل، وتصاعدت بعد مقتل سائق دراجة نارية على يد الشرطة؛ مما أثار غضبًا شعبيًّا واسعًا.
الأزمة الاقتصادية وتفاقم عدم المساواة
تعاني إندونيسيا، على الرغم من كونها من أسرع الاقتصادات نموًّا في منطقة جنوب شرق آسيا، تحديات اقتصادية واجتماعية كبيرة. ارتفاع تكاليف المعيشة، وزيادة الضرائب، وارتفاع معدلات البطالة، خاصة بين الشباب، أدت إلى تزايد الاستياء الشعبي. وفقًا لتقارير اقتصادية، فإن الحد الأدنى للأجور في جاكرتا، الذي يبلغ نحو 5 ملايين روبية شهريًّا (نحو 307 دولارات أمريكية)، لا يكفي لتغطية الاحتياجات الأساسية في ظل ارتفاع الأسعار. في المقابل، أثار قرار تخصيص بدل سكن شهري بقيمة 50 مليون روبية (3075 دولارًا أمريكيًّا) لأعضاء البرلمان، وهو ما يعادل عشرة أضعاف الحد الأدنى للأجور، موجة غضب عارمة بين المواطنين. هذا القرار، الذي اعتبره الكثيرون رمزًا لعدم المساواة واستغلال السلطة، كان الشرارة الأولية للاحتجاجات.
تأثير السياسات الشعبوية
منذ تولي الرئيس برابوو سوبيانتو السلطة في أكتوبر (تشرين الأول) 2024، اعتمد سياسات شعبوية، مثل برنامج الوجبات المدرسية المجانية بقيمة مليار دولار، مما تطلب اقتطاعات كبيرة من الميزانية العامة. هذه السياسات، على الرغم من شعبيتها النظرية، أثارت انتقادات بسبب تأثيرها في الإنفاق العام في قطاعات حيوية مثل التعليم والصحة. في فبراير (شباط) 2025، شهدت إندونيسيا احتجاجات مماثلة احتجاجًا على هذه الاقتطاعات، مما يشير إلى تراكم الاستياء الشعبي تجاه إدارة الموارد العامة.
الشرارة: مقتل سائق الدراجة النارية
تصاعدت الاحتجاجات بعد حادثة مأساوية وقعت يوم الخميس، 28 أغسطس (آب) 2025، عندما صدمت مركبة مدرعة تابعة للشرطة سائق دراجة نارية يُدعى عفان كورنياوان، مما أدى إلى وفاته. الفيديو الذي انتشر على نطاق عريض عبر وسائل التواصل الاجتماعي أظهر المركبة وهي تدهس الشاب دون توقف، مما أثار غضبًا شعبيًّا عارمًا. هذه الحادثة حولت الاحتجاجات من قضية اقتصادية بحتة إلى احتجاجات ضد وحشية الشرطة؛ مما أدى إلى انتشار الاضطرابات إلى مدن رئيسة، مثل باندونج، ويوجياكرتا، وسورابايا، وماكاسار.
أثارت حادثة الدهس غضبًا واسعًا، خاصة بين سائقي الدراجات النارية، الذين يشكلون جزءًا كبيرًا من القوى العاملة في الاقتصاد غير الرسمي في إندونيسيا. هؤلاء العمال، الذين يعتمدون على دخل يومي متواضع، شعروا بالتهميش والظلم. تجمع المئات أمام مقر وحدة الشرطة “بريموب” في جاكرتا، مطالبين بالعدالة، ورشقوا قوات الأمن بالحجارة والمفرقعات، وردت الشرطة بالغاز المسيل للدموع. تحولت هذه الاشتباكات إلى فوضى، حيث أُحرقت محطات الحافلات وبوابات تحصيل الرسوم، مما زاد حدة التوتر.
في الساعات الأولى من صباح الأحد، 31 أغسطس (آب) 2025، اقتحمت حشود غاضبة منزل وزيرة المالية سري مولياني إندراواتي في مدينة تانغيرانغ الجنوبية، بالقرب من جاكرتا. وفقًا لتقارير إعلامية، نهب المتظاهرون ممتلكات ثمينة، من بينها كراسي ولوحات وأجهزة كهربائية، فيما كانت الوزيرة غائبة عن المنزل. كما استهدفت الحشود منازل ثلاثة نواب برلمانيين، منهم النائب أحمد سهروني، مما يعكس استهدافًا واضحًا لرموز السلطة التي ينظر إليها المتظاهرون على أنها بعيدة عن هموم الشعب.
استهداف منزل وزيرة المالية، التي تُعد شخصية تكنوقراطية مرموقة، ومديرة سابقة للبنك الدولي، يحمل دلالات رمزية عميقة. سري مولياني، التي تولت منصب وزيرة المالية منذ 2016، يُنظر إليها على أنها رمز للاستقرار الاقتصادي في إندونيسيا. ومع ذلك، فإن ارتباطها بالسياسات الاقتصادية التي يُنظر إليها على أنها تخدم النخبة جعلها هدفًا للغضب الشعبي. هذا الاستهداف يعكس انعدام الثقة المتزايد بين الشعب والنخبة الحاكمة، وهو ما يُعد مؤشرًا على أزمة شرعية سياسية.
ردود فعل الحكومة والرئيس برابوو سوبيانتو
ردت الحكومة الإندونيسية على الاحتجاجات بإجراءات أمنية صارمة. أمر الرئيس برابوو سوبيانتو الجيش والشرطة باتخاذ “إجراءات حازمة” ضد “مثيري الشغب واللصوص”، محذرًا من أن بعض الأعمال ترقى إلى “الإرهاب والخيانة”. نُشرت مركبات مدرعة ودوريات عسكرية في جاكرتا، في محاولة لاستعادة النظام. كما أعلنت الشرطة توقيف سبعة من عناصرها المرتبطين بحادثة الدهس، مع التحقيق في انتهاكاتهم لمدونة أخلاقيات الشرطة.
في محاولة لتهدئة الوضع، أعلن الرئيس برابوو في مؤتمر صحفي يوم الأحد، 31 أغسطس (آب) 2025، أن الأحزاب السياسية وافقت على إلغاء عدد من الامتيازات البرلمانية، منها بدل السكن المثير للجدل، وتعليق الرحلات الخارجية للنواب. هذه التنازلات جاءت كرد فعل على الضغط الشعبي، لكنها قد لا تكون كافية لاستعادة الثقة بالحكومة، خاصة في ظل تصاعد العنف واستمرار الاحتجاجات.
الخسائر الاقتصادية
تسببت الاحتجاجات في خسائر اقتصادية كبيرة، حيث تراجع مؤشر جاكرتا المركب للأسهم بنسبة 2.3%، وانخفضت قيمة الروبية الإندونيسية بنسبة 0.9%، مما جعلها الأسوأ أداءً في آسيا خلال الأسبوع الأخير من أغسطس (آب) 2025. قدرت الخسائر السوقية بما بين 13 و16 مليار دولار، مع تأثر قطاعات البنوك والطاقة والتجزئة على نحو خاص. كما تأثرت قطاعات النقل والسياحة، خاصة في جزيرة بالي، حيث هددت الاضطرابات موسم الذروة السياحي. تدخل البنك المركزي الإندونيسي بعمليات بيع للنقد الأجنبي، وشراء سندات للحد من نزيف الأسواق، لكن استمرار الاضطرابات قد يؤدي إلى أزمة هيكلية تهدد النمو الاقتصادي.
التحديات السياسية
تشكل هذه الاحتجاجات التحدي الأكبر لحكومة برابوو سوبيانتو منذ توليه السلطة. تصاعد الغضب الشعبي، إلى جانب اتهامات بالوحشية ضد وحدة الشرطة “بريموب”، يضع الحكومة في موقف حرج. وحدة “بريموب”، التي لها تاريخ طويل في استخدام القوة المفرطة، أصبحت رمزًا لسوء استخدام السلطة؛ مما يعزز الدعوات لإصلاح منظومة الشرطة. إذا لم تتمكن الحكومة من معالجة هذه القضايا، فقد تواجه أزمة شرعية أعمق، خاصة مع استمرار المطالبات الشعبية بالعدالة الاجتماعية والإصلاح الاقتصادي.
تحليل الواقع والتداعيات المستقبلية
يمكن تفسير تصاعد العنف في إندونيسيا من خلال نظرية الإحباط والعدوان (Frustration-Aggression Theory)، التي تقترح أن الإحباط الناتج عن عدم تحقيق التوقعات الاقتصادية والاجتماعية يؤدي إلى سلوكيات عدوانية. في هذه الحالة، فإن الفجوة بين توقعات الشعب لتحسين الأوضاع الاقتصادية والواقع الفعلي، إلى جانب الامتيازات الممنوحة للنخبة، أدت إلى انفجار الغضب الشعبي. اقتحام منازل المسؤولين وإحراق المباني الحكومية يعكسان هذا العدوان الموجه نحو رموز السلطة. ومن منظور نظرية التعبئة الاجتماعية (Social Mobilization Theory)، فإن انتشار وسائل التواصل الاجتماعي أدّى دورًا محوريًّا في تصعيد الاحتجاجات. الفيديو الذي يوثق حادثة الدهس انتشر بسرعة، مما أسهم في تعبئة الجماهير، وتوسيع نطاق الاحتجاجات من جاكرتا إلى مدن أخرى. هذا التأثير يبرز دور التكنولوجيا في تعزيز التحركات الشعبية، ولكنه يثير أيضًا تساؤلات عن كيفية إدارة الحكومات للأزمات في عصر الإعلام الرقمي.
على مستوى التداعيات المستقبلية والحلول، قد يؤدي استمرار الاحتجاجات إلى تعميق الانقسامات السياسية، وتقويض شرعية حكومة برابوو، خاصة إذا فشلت في معالجة المطالب الشعبية. وتؤدي إلى نزوح رؤوس الأموال الأجنبية، وتراجع ثقة المستثمرين، مما يهدد النمو الاقتصادي. وفي سياق الحلول، تشير الأحداث للحاجة إلى إصلاح وحدة “بريموب”، وتدريب قوات الأمن على التعامل مع الاحتجاجات بطرائق أقل عنفًا. ويجب على الحكومة معالجة عدم المساواة الاقتصادية من خلال سياسات أكثر عدالة، مثل إعادة النظر في تخصيص الموارد العامة، وزيادة الاستثمار في التعليم والصحة. وأخيرًا، إطلاق حوار وطني يشمل مختلف شرائح المجتمع؛ لمعالجة الاستياء الشعبي، واستعادة الثقة بالمؤسسات.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.