بدأت الانتخابات التشريعية في الهند يوم 19 أبريل (نسيان)، حيث توجه قرابة مليار ناخب إلى صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم في الدولة الديموقراطية الأكثر تعدادًا للسكان في العالم. في هذه الأثناء أصدرت السلطات الهندية، ومنها بنك الاحتياطي الهندي ((RBI، ولجنة الانتخابات الهندية (ECI)، تحذيرات بشأن استغلال شركات وهمية المال السياسي من أجل تسهيل عمليات غسل الأموال، وذلك بعد أن ألغت المحكمة العليا في الهند خطة الرقابة المالية على التمويلات المالية الانتخابية، التي قدمها حزب بهاراتيا جاناتا عام 2017، باعتبارها غير دستورية.
كانت الخطة القانونية الخاصة بالتمويل السياسي تمنح الحزب الحاكم (بهاراتيا جاناتا الآن) الكشف- حصريًّا- عن دافعي التبرعات السياسية خلال الانتخابات، وهذا جعل الأصوات المعارضة تتزايد بأن الحزب يشن حملة تخويف أو ترهيب ضد المتبرعين للأحزاب المعارضة، ولا سيما حزب الكونغرس، علمًا أن هناك تباينًا كبيرًا في التمويلات بين الحزبين، حيث حصل حزب بهاراتيا جاناتا على نحو 788 مليون دولار أمريكي، في حين حصل حزب الكونغرس على 134 مليون دولار فقط، وربما يكون هذا هو سبب شن الحملة ضد الخطة القانونية التي وقعت في ضوء الاستقطاب السياسي بين الطرفين.
كانت الخطة القانونية تهدف إلى إصدار سندات انتخابية تشتريها الكيانات والأفراد للتبرع للحملات السياسية، مع الحفاظ على معلومات المُشتري والمستفيد، ولا سيما أن مال التبرعات يمثل أكثر مِن (50 %) من المال السياسي في الهند، واعترفت الحكومة الهندية بتدفق الأموال السوداء إلى تمويل الانتخابات الهندية؛ لذا هدفت عبر هذه الخطة إلى الحد من هذا التدفق من خلال فرض المعاملات الرقمية من خلال البنوك؛ فجاءت فكرة السندات الانتخابية المتاحة فقط من خلال الفروع المخصصة للبنك الدولة الهندي (SBI). ويمكن للعملاء شراء سندات بفئات تتراوح من 12 دولارًا أمريكيًّا (1000 روبية) إلى نحو 120 ألف دولار أمريكي (1 كرور روبية)، ويجب على الأطراف صرفها في غضون 15 يومًا، لكن استخدام المعاملات الرقمية وحده لا يضمن الشفافية.
علمًا أن الخطة القانونية حظت بشعبية كبيرة؛ لأنها ستزيد الشفافية في تمويل الانتخابات، وتمنع التدفقات المالية غير الخاضعة للرقابة التي يمكن أن تؤدي إلى إساءة استخدام الأموال، وتعريض العمليات الديمقراطية للخطر. لكن من جانب آخر، رأى بعضهم أن السندات الانتخابية تشكل شرعنة للفساد؛ لأن الكيانات والأفراد يملكون نفوذًا غير متناسب يمكن أن يؤثر سلبيًّا في العملية الديمقراطية، بالإضافة إلى أن بيانات المتبرعين ستصبح متاحة لبنك الدولة الهندي (SBI)، وهو هيئة تسيطر عليها الحكومة؛ ما يمنح يدًا عُليا للحزب السياسي الحاكم، ويفقد هذه المراقبة المالية دورها بشأن الشفافية، لتتجه أكثر نحو الرقابة، ومنع المانحين من تمويل المعارضين.
ووصفت لجنة الانتخابات الهندية- على وجه الخصوص- قرار المحكمة العليا بأنه خطوة إلى الوراء، وأعربت عن أسفها لآثاره السلبية على شفافية التبرعات السياسية، في حين أعلنت وزارة الداخلية الهندية أن قرار المحكمة العليا سيعيد الأموال السوداء (الأموال غير المشروعة، أو غير الخاضعة للضريبة) إلى التمويل السياسي، حيث ضاعفت بعض الشركات تبرعاتها السياسية بنسب أكبر من أرباحها للحصول على مزيد من الإعفاءات الضريبية، لكن المحكمة العُليا رأت أن خطة حزب بهاراتيا جاناتا تعمل على تعزيز إمكانية إجراء معاملات مقايضة بين الشركات والأحزاب السياسية. وفي حكمها، أشارت إلى أن “هذا السيناريو يعزز رأسمالية المحسوبية، وهو ما يشكل تهديدًا للديمقراطية في الهند”.
ويمثل قرار المحكمة العليا إبطال خطة السندات الانتخابية علامة فارقة في السعي إلى تحقيق الشفافية والمساءلة في مشهد التمويل السياسي في الهند، ولكن القوانين غير الفعالة، ورأسمالية المحسوبية المزدهرة، وافتقار لجنة الانتخابات إلى السلطة، لا تزال تعمل على تقييد الشفافية؛ لذا فإن تعزيز الشفافية في التمويل السياسي يستلزم إجراء إصلاحات تنظيمية وتكنولوجية، حيث تحتاج الهند إلى قوانين تتعلق بالإفصاح العام الإلزامي، وتنفيذ لوائح صارمة تلزم بالإفصاح العلني عن جميع التبرعات السياسية، بغض النظر عن طريقة المساهمة، بالإضافة إلى أن الانتخابات الهندية تفتقد آليات إعداد التقارير في الوقت الفعلي لتمكين الكشف الفوري عن المساهمات السياسية.
الصراع السياسي بين الحزبين في الهند أدى أحيانًا إلى غياب شفافية الجهات المانحة من خلال اشتراط الكشف عن هويات الجهات المانحة وانتماءاتها خوفًا من عمليات الانتقام السياسي، بالإضافة إلى غياب حدود صارمة على مساهمات الأفراد والشركات لمنع التأثير غير المبرر، والتخفيف من خطر المال السياسي على الديمقراطية، بالإضافة إلى خطورة عملية غسل الأموال، ورعاية الجريمة المنظمة، وتمويل الإرهاب، وأخيرًا التهرب الضريبي؛ لذا خلال هذه الانتخابات، تستكشف نيودلهي ضرورة جدوى آليات التمويل العام؛ لتقليل الاعتماد على التبرعات الخاصة، وتخفيف تأثير المصالح الخاصة.
من جانب آخر، سيتحتم على الهند- في ظل عدد الناخبين المتزايد (أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان)- البدء بخلق نظام إلكتروني مرن وشفاف للتصويت الرقمي، وهذا يحمل عدة مخاطر، أبرزها؛ أولًا: التأكد من عدم اختراق هذا النظام للحفاظ على النزاهة الانتخابية، ومنع التزوير، وثانيًا: هذا يفتح مجالًا أوسع أمام التبرعات السياسية، ويخلق مخاطر أكبر، حيث يأخذ التمويل السياسي- كما غسل الأموال- أشكالًا أكثر تعقيدًا، مثل عمليات التعدين الرقمي، والعملات الرقمية.
إن الأهمية المحورية في الديمقراطية تكمن في الاستفادة وإمكانية المسألة، حيث يجب أن يشعر المواطن أنه يستفيد من عملية التصويت في خلق تغيير أفضل في واقعه المعيشي والحياتي عن طريق مَن صوّت لهم، وهنا تأتي أهمية المساءلة؛ أن يصبح المواطن قادرًا على محاسبة المسؤولين، ومراجعة وعودهم، ومدى واقعيتها وتنفيذها؛ لذا تمثل الخطط القانونية الهندية، التي قد تغيب في بعضها بيانات المستفيدين من المال السياسي، هدرًا لجانب أصيل من العملية الديمقراطية؛ وهو الشفافية، فغيابها لا يخلق إمكانية للمساءلة، وهنا قد يبرز دور المجتمع المدني في تعزيز الوعي العام بعمليات التمويل الانتخابي، ومراقبة الامتثال، والدعوة إلى الإصلاحات الانتخابية، والعمل بعيدًا عن الاستقطاب السياسي الحاد في الهند، الذي بدأ يلقي بظلاله بين الأغلبية الهندوسية التي يعوق بعضها بعضًا عن التطور القانوني، والإصلاح الاقتصادي لصالح مكاسب سياسية قصيرة الأمد، ولكنها قد تهدد مصير التجربة الهندية- التي توصف بأنها “أكبر ديمقراطية على وجه الأرض”- بالفشل.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.