مع دخول الصراع الروسي الأوكراني عامه الرابع، حطمت حقائق ساحة المعركة كثيرًا من الأوهام المريحة التي غذّاها الغرب، فالصراع، بعيدًا عن كونه “دفاعًا عن الديمقراطية” كما صُوّر في البداية، أصبح اختبارًا عميقًا للصمود الإستراتيجي، والمصالح الوطنية، وحدود أدوات القمع التي يستخدمها النظام الليبرالي.
يقدّم هذا الصراع ثلاثة دروس أساسية على الأقل، تؤكّد حقيقة لطالما أدركها دارسو الجغرافيا السياسية: في العلاقات الدولية، القوة هي التي تحدّد النتائج، لا الروايات.
أولًا- الروايات لا تؤدي إلى كسب الحروب. حاول القادة الغربيون تقديم الصراع على أنه حملة أخلاقية، وصدام بين الخير والشر، بين الحرية والاستبداد، لكن التاريخ لا يكافئ أولئك الذين يخلطون بين الخطاب والواقع. وكما قال سون تزو قبل أكثر من ألفي عام: “كل الحروب قائمة على الخداع”. وفي هذه الحالة، كان الخداع موجهًا إلى الذات بالدرجة الأولى، فالشعارات، والخطابات، والوسوم على وسائل التواصل لا يمكن أن تحل محل المدفعية، وسلاسل الإمداد، والقدرة الصناعية. إن أداء أوكرانيا في ساحة المعركة، وخاصة خلال هجومها المضاد في عام 2023، لم يُحدَّد بالقيم أو الإعلانات؛ بل بفعل التفاوت العسكري، ومواجهة خصم مستعد لـ”حرب استنزاف”، وكان الفارق بين التوقعات والنتائج صارخًا.
ثانيًا- العقوبات، التي لطالما اعتُبرت الأداة الأشد تأثيرًا في ترسانة الغرب، فشلت في تحقيق النتائج المرجوّة؛ فبدلًا من عزل الاقتصاد الروسي وتدميره، أسهمت العقوبات في تسريع التغييرات الهيكلية، وردّت موسكو بإعادة توجيه تجارتها نحو الشرق، وتعزيز علاقاتها المالية مع الجنوب العالمي، وترويج فكّ الارتباط بالدولار، واستخدام أسواق الطاقة وسيلةً إلى تحقيق الاستقرار في إيراداتها. وقد أظهرت العقوبات -في الحد الأدنى- مدى اعتماد النظام العالمي الحالي على البنية الغربية، ومدى استعداد كثير من الفاعلين لبناء بدائل. لقد قادت محاولة معاقبة روسيا إلى تعزيز مناعة قوى أخرى. أما التأثيرات الجانبية -من انعدام الأمن الغذائي، إلى التضخم، وصدمات الطاقة- فقد تركت آثارًا واسعة في الأسواق الناشئة، وأثارت استياءً متزايدًا من خيارات الغرب.
ثالثًا- كشف الصراع هشاشة الوعود المتعلقة بالأمن الجماعي؛ فرغم تصوير الناتو أنه ركيزة للاستقرار، فإن تحرّكاته كانت حذرة ورد فعل، ورفضه الانخراط على نحو مباشر يتجاوز تزويد أوكرانيا بالسلاح يؤكد ما كان يشتبه به كثيرون: إن المادة الخامسة من ميثاق الحلف لا تساوي أكثر من مقدار المخاطر التي تستعد الدول الأعضاء لتحمّلها. ولا يزال شبح الكارثة النووية يفرض قيودًا، وهو أمر مبرر، لكن هذا الواقع يثير أيضًا تساؤلات لدى الدول الصغيرة الأعضاء في الناتو، التي تعتمد على الردع الممتد: ما الضمانات الحقيقية في حالة نشوب أزمة تمس مصالح القوى الكبرى؟ في نهاية المطاف، بقاء الدول يتجاوز اعتبارات التحالفات. والناتو اليوم أقرب إلى جبهة إستراتيجية مفككة، تجمعها المصالح أكثر مما توحّدها الرؤية.
في خضم هذا المشهد، نال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كثيرًا من التركيز، وغالبًا ما اختُزل في صورة كاريكاتيرية في الإعلام الغربي، لكن التحليل المتزن يكشف عن زعيم يدرس -بجدية- نقاط الضعف الداخلية للغرب: الاستقطاب السياسي، وتقلبات الانتخابات، وقصر أفق السياسات، وتراجع الرغبة الشعبية في التورط العسكري الطويل الأمد. أفعال بوتين قد تكون محل جدل، لكنها بعيدة عن أن تكون غير عقلانية؛ فهي تعكس إدراكًا دقيقًا للتوقيت، والإرهاق، وتضاؤل قدرة الغرب على خوض حروب طويلة دون دعم شعبي. إن حنكته الإستراتيجية تتجلى في صبره المحسوب، ومراهنته تبدو أكثر فأكثر ناجحة.
في الأشهر الأخيرة، استعاد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب حضوره على الساحة الدولية، وعرض “الوساطة للسلام” بين موسكو وكييف، مما جذب اهتمامًا عالميًّا، لكن عرضه -بعيدًا عن كونه مبادرة سلام حقيقية- يبدو محاولة لحفظ ماء وجه الناتو، فقد بلغ التحالف العسكري عبر الأطلسي مرحلة من الإحراج الإستراتيجي: لا يمكنه التدخل الحاسم، ولا يستطيع ادعاء النصر. اقتراح ترمب للوساطة، الذي قُدّم بلبوس الواقعية، ما هو إلا إستراتيجية انسحاب متنكرة في هيئة دبلوماسية، تهدف إلى تهدئة الشكوك الداخلية، وخفض التكلفة السياسية، ومنع مزيد من تآكل سمعة الناتو. والمفارقة أن ذلك قد يعزز من حجج ترمب ضد الحلف بوصفه مكلفًا ومتقادمًا.
ومع ذلك، فإن الكشف الجيوسياسي الأهم في هذا الصراع يتمثل في تنامي انفصال الجنوب العالمي عن سردية الغرب، فقد تبنت دول كثيرة في آسيا، وإفريقيا، وأمريكا اللاتينية موقف “التوازن الإستراتيجي”، ورفضها الانحياز إلى أي طرف لا يعكس حيادًا أخلاقيًّا؛ بل خيبة أمل عميقة.
يرى كثيرون أن استناد الغرب إلى القانون الدولي انتقائي، وأن دعواته إلى التضامن العالمي انتهازية، وأن نظام عقوباته يعوق التنمية العالمية. وهذه الدول لا تسعى إلى المواجهة؛ بل إلى التعاون، لا إلى سياسة المحاور؛ بل إلى علاقات متوازنة. إن توسع مجموعة “بريكس” وصعود المنتديات الإقليمية لا يعكسان رمزية فحسب؛ بل يمثلان تطلعًا فعليًّا إلى تعددية فاعلة.
وتنسجم دعوة الصين للحوار، والحل السياسي، وتعددية الأقطاب مع هذا السياق الجنوبي، فبعكس منطق “المحصلة الصفرية” الذي طبع التفكير في الحرب الباردة، تدعو بكين إلى استعادة السلام عبر الدبلوماسية. ولكثير من الاقتصادات الناشئة، فإن هذا الطرح لا يعكس جاذبية فقط؛ بل يمثل أولوياتها الفعلية: التنمية، والسيادة، والمشاركة في صنع القرار، لا مجرّد تحمّل نتائجه.
لقد تحوّلت أزمة أوكرانيا إلى ما هو أبعد من كونها صراعًا أوروبيًّا. إنها مرآة تُظهر تناقضات النظام الدولي، وتكشف حدوده، وتشير إلى مستقبل تتشكل فيه نتائج العالم بيد التعددية القطبية التي لم تعد وليدة، بل صارت واقعًا يفرض حضوره. أولئك المتمسكون بالسرديات سيتوارون، وأولئك الذين يتكيّفون مع الحقائق الجديدة -من خلال الاستقلال الإستراتيجي والبراغماتية الدبلوماسية- هم من سيصوغون ملامح العالم القادم.
المصدر: صحيفة الصين اليومية (China Daily) الصينية
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.