تقدير موقف

أرض الصومال.. إقليم يسعى إلى دور في صراع القوى الكبرى


  • 6 يناير 2024

شارك الموضوع

اتخذت إثيوبيا، الدولة الحبيسة غير الساحلية، خطوات أولية نحو الوصول إلى البحر الأحمر، وذلك بعدما وقّع رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، مذكرة تفاهم مع رئيس صوماليلاند (أرض الصومال)، موسى بيهي عبدي، لتأجير قطعة أرض بطول 20 كيلومترًا على الساحل من أجل إقامة قاعدة بحرية، وانفصلت صوماليلاند عن دولة الصومال قبل أكثر من 30 عامًا، لكن الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة لم يعترفا بها دولةً مستقلة، ولا تزال الحكومة الصومالية تعدّها جزءًا من أراضيها، مما يُنبئ بانفجار بؤرة توتر جديدة في منطقة القرن الإفريقي.

أتى الاتفاق بين إثيوبيا وصوماليلاند في وقت عادت فيه المحادثات بين الصومال وأرض الصومال بعد 11 عامًا، واجتمعت حكومتا جيبوتي، والرئيس الصومالي حسن شيخ محمود، ورئيس أرض الصومال موسى بيهي عبدي، ووصل فريق برئاسة الرئيس بيهي إلى جيبوتي للقاء الرئيس الصومالي، بحسب بيان صادر عن المكتب الرئاسي لأرض الصومال. وبحسب البيان، فإن الهدف من هذه الزيارة الرسمية هو مواصلة المفاوضات على المستوى الرئاسي بين أرض الصومال والصومال. وقال وزير الإعلام داود عويس- في بيان- إن زيارة الرئيس حسن تهدف إلى “استئناف المحادثات بين الطرفين، وسيتحدث الرؤساء في مجموعة واسعة من الموضوعات، منها: تخفيف عبء الديون، وإدارة المشروعات الوطنية، وتخصيص الموارد، والأزمات، والتوترات الأخيرة في البحر الأحمر”. وهذا يتزامن مع سعي صوماليلاند إلى الحصول على اعتراف الولايات المتحدة؛ لأنها تقدم نفسها كثقل موازن للنفوذ الصيني في القرن الإفريقي. وكانت هناك دعوات متزايدة لواشنطن لإنشاء مكتب تمثيلي في أرض الصومال، التي رحبت بوفد من موظفي الكونجرس إلى عاصمتها هرجيسا أواخر 2022.

تاريخ الصومال- اسم واحد وشبه بلدان كثيرة

تشكلت الصومال عام 1960 بعد توحيد الشمال المُستعمَر من بريطانيا مع الجنوب المُستعمَر من إيطاليا، ولكن لم تضم هذه الدولة الأمة الصومالية بكاملها، تاركة أعدادًا كبيرة من الصوماليين داخل جيبوتي الفرنسية، وإثيوبيا، وكينيا. كان توحيد كل الصوماليين تحت دولة واحدة طموحًا قويًّا للحكومة الصومالية بين ستينيات القرن العشرين وثمانينياته، ووُصفت الأراضي الصومالية الأوسع بأنها جزء من “الصومال الكبير”، واستخدمت هذه التسمية للإشارة إلى أنها أرض جميع الصوماليين داخل الدولة الصومالية وخارجها، في ظل حكم الجنرال محمد سياد بري (1969- 1991) الذي حاول تعزيز الحُكم المركزي للدولة.

خلال السبعينيات، دخل الصومال فترة من التحديث والتطور السريع، وأُطلقت مبادرات واسعة النطاق للتعليم ومكافحة الفساد، إلى جانب مشروعات الإنتاج الزراعي وتصدير الماشية التي تقودها الدولة. ركز الجنرال بري على تحييد الهياكل العشائرية، وقد قسم الصومال إلى (15) منطقة، وأعاد تسميتها لاستبعاد أسماء العشائر، ومع ذلك، أعطى- بشكل غير قانوني- حقوق الأرض والمياه لعشائر محددة دعمت حكمه. وبغض النظر، وجد الصومال نفسه في مسار تحول اجتماعي واقتصادي كبير.

بين عامي 1975 و1976، نشطت حركات تمرد موالية للصومال في منطقة أوغادين في إثيوبيا، وقد دعمها الجنرال بري لكن التدخل الواسع النطاق من جانب الاتحاد السوفيتي، وليبيا، واليمن الجنوبي، وكوبا، مكّن الإثيوبيين من هزيمة القوات الصومالية، وأدى ذلك إلى تدفق أعداد كبيرة من لاجئي أوغادين إلى منطقتي وادي جوبا في جنوب الصومال، على الحدود مع كينيا، التي أصبحت فيما بعد جوبالاند، وكانت هذه الهزيمة بداية النهاية للتنمية في الصومال ونظام الجنرال بري.

بحلول عام 1989، كانت “المعارضة المسلحة” ضد نظام الجنرال بري تنتشر وتكتسب طابعًا وطنيًّا، لكن الانقسامات العشائرية منعتهم من تبني قضية مشتركة. وبدأت الأطراف المُتصارعة على السُلطة بتبني جيوشها الخاصة بناءً على المناطقية والهوية؛ مما أدى إلى تحطيم الدولة المركزية الصومالية، لتظهر جُغرافيا العشائر بدلًا منها، ويندلع عنف أهلي، وصراع سلطوي يستمر حتى يومنا هذا.

لذا يحمل اسم “الصومال” و”الصومال الكبير” دلالات سياسية ليس فقط لدى البلدان المجاورة، ولكن أيضًا للأقاليم الداخلية، مثل صوماليلاند، وبونتلاند، وجالمودوج، وجوبالاند، التي يطالب بعضها الآن بالاعتراف بها دولًا مُستقلة، عقب نهاية النموذج المركزي لدولة الصومال في التسعينيات. ولم يعترف المجتمع الدولي اليوم بأي من تلك الأقاليم، مع أن كلًا منها أنشأ حكومته الخاصة، ويمكن وصفها بأنها “أشباه دول”، لا سيما صوماليلاند (أرض الصومال) التي أصبحت أكثر الأقاليم نشاطًا وتطورًا، وتقيم علاقات دبلوماسية واقتصادية مع كثير مِن بلدان العالم، مثل تايوان، والإمارات العربية المتحدة، وأخيرًا إثيوبيا. وتُصنَّف صوماليلاند وبونتلاند، إلى جانب جنوب وسط الصومال (التي تعد موطنًا للحكومة الفيدرالية الصومالية في مقديشو)، رسميًّا على أنها ثلاثة “أقاليم” منفصلة، وتحاول جوبالاند المدعومة مِن إثيوبيا وكينيا أن تتحول إلى إقليم مُستقل ذاتيًّا.

صوماليلاند (أرض الصومال)- إقليم التمرد الدائم

على الرغم من موافقة صوماليلاند (أرض الصومال) على الاتحاد مع الجنوب عام 1960 لتأمين استقلالها عن بريطانيا، لكنها تطورت وفقًا لنموذج سياسي مختلف جذريًّا عن جنوب وسط البلاد، مع الحد الأدنى من التدخل الاستعماري يسمح بالحفاظ على تماسك الحكم العشائري، وهياكل الوساطة في النزاعات. وأثبتت أنظمة الإدارة الذاتية الراسخة في أرض الصومال أنه من الصعب على حكومات مقديشو المتعاقبة السيطرة عليها بين عامي 1960 و1991، ووفرت آليات للتنظيم الاجتماعي ضد الاستبداد المتزايد في عهد الجنرال بري، وقد اشتبكت العشائر مع سلطة مقديشو المركزية.

وإدراكًا للتهديد القادم من صوماليلاند، قمع نظام بري الإقليم بوحشية عندما وصل إلى السلطة، وأدى ذلك إلى إنشاء حركة أرض الصومال الوطنية (SNM)، التي حاربت من أجل استعادة استقلال الإقليم، وبدأت الاشتباكات بين الحركة الوطنية الصومالية ونظام بري بعد استيعاب أرض الصومال للاجئي أوجادين عام 1981، وبلغت ذروة الصراع في حملة قصف وحشية على عاصمة أرض الصومال، هرجيسا، من جانب القوات الجوية الصومالية عام 1988، وتحول معظم المراكز الحضرية في هرجيسا وبوراو، وغيرهما من المراكز الحضرية في أرض الصومال، إلى أنقاض. وقد أشار بعض المراقبين إلى هذه الحوادث على أنها تطهير عشائري؛ ففي عام 1988 وحده، مات ما يقدر بنحو (50.000) إلى (60.000) صومالي، وفي عام 2014، اكتُشفَت (266) مقبرة جماعية.

عام 1991، من أجل وقف الحرب على أرض الصومال، تحالف شيوخ العشائر للتوصل إلى اتفاق سلام طارئ بواسطة مجلس حُكماء، وعقدوا سلسلة من مؤتمرات الوساطة في الصراع، وقد سهّلت الحركة الوطنية الصومالية جهودهم، بعد أن عززت قبضتها على أجزاء كبيرة من الشمال. وكان صعود حكومة صوماليلاند المستقلة محاطًا بالتحديات، حيث واجه أول رئيس للإقليم، عبد الرحمن أحمد علي تور (1991- 1993)، اضطرابات أمنية صعبة عندما شنت الفصائل العسكرية المتشددة في الحركة الوطنية الصومالية حربًا ضد حُكمه، وقد دخل الرئيس اللاحق محمد حاج إبراهيم عقال (الذي تولى السلطة في أرض الصومال بين عامي 1994 و2002) في حرب شاملة ضد هذه الفصائل، وقُتل ما يصل إلى (4000) شخص، ونزح نحو (180000) إلى إثيوبيا، وانتهت الحرب عام 1996 من خلال إنشاء لجنة سلام جديدة لأرض الصومال بمساعدة إثيوبيا، وحُلَّت الحركة الوطنية الصومالية ودُمِجَت في ولاية أرض الصومال، وساعدت فترة الصراع هذه على تعزيز آليات الحُكم الذاتي في إقليم أرض الصومال.

ومع أن انتقال أرض الصومال من الصراع إلى السلام كان بعيدًا عن الكمال، فإنه كان سريعًا ومثيرًا للإعجاب، ويُعزى ذلك إلى التأثير المستقر الذي تمارسه عشائر أرض الصومال. وتعتمد حكومة أرض الصومال الآن على نظام ديمقراطي هجين، يضم مكتبًا رئاسيًّا منتخبًا، ومجلس نواب منتخبًا، فضلًا عن مجلس غير منتخب، يشار إليه الآن باسم مجلس الحكماء. نجح الإقليم في إجراء انتخابات محلية ورئاسية وبرلمانية منتظمة، لكن الحكومة الصومالية، والمجتمع الدولي، والأمم المتحدة، لم تعترف باستقلاله بعد. وبصرف النظر عن الاعتراف بصوماليلاند، موّلت الإدارة القائمة مؤتمرات المصالحة العشائرية الخاصة بها، بالرغم من قلة المساعدة الخارجية، وقد تزايدت شعبية النزعة الانفصالية على مر السنين، لا سيما في ضوء العنف المستمر في جنوب وسط البلاد، والاستقرار النسبي في أرض الصومال.

صوماليلاند- بؤرة صراع تبحث عن اعتراف

يُنظر إلى أرض الصومال- إلى حد كبير- باعتبارها فقاعة سلام وسط الفوضى والاضطرابات الواسعة في الصومال. ومع ذلك، فإن دولة أرض الصومال غير المعترف بها لا تزال تتأثر بالتوترات بين العشائر وداخلها، حيث يمارس نظام العشائر تأثيرًا معززًا ومزعزعًا للاستقرار على أمن أرض الصومال، فهناك كثير من التشرذم داخليًّا، لكن وجود شيوخ العشائر التقليدية الذين يتمتعون بسلطة عليا، والحفاظ على التفاهمات السياسية بين العشائر، يدعمان مبادرات الحفاظ على السلام.

كان التوازن دائمًا هو المفتاح لاستقرار أرض الصومال، لكن الإقليم يواجه الآن اختبارًا صعبًا، فهو يشهد منافسة دولية (أمريكية- صينية) وإقليمية على المواني والنفوذ الجيو- إستراتيجي في البحر الأحمر. وعدم الاستقرار في الأراضي الصومالية له تأثير شديد في الأمن الإقليمي في منطقة القرن الإفريقي. ومن أبرز هذه التأثيرات تمدد الحركات المسلحة الصومالية إلى الأراضي المجاورة، وخاصة حركة الشباب، وأنشطة القرصنة في مياه خليج عدن والبحر الأحمر. كما يمكن للتهديدات الأمنية زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط، وخاصة من خلال ظهور الإرهاب، أو تعطيل طرق الملاحة عبر قناة السويس.

عام 2020، افتتحت أرض الصومال وتايوان مكاتب تمثيلية مُتبادلة، وأدى هذا إلى اعتراض الصين، واستحسان الولايات المتحدة، خاصةً أن الأخيرة ترى أن توسع نفوذ بكين في إفريقيا يُفقد تايوان أي دعم إفريقي. كما رفضت أرض الصومال أي مساعدات صينية بعد أن دمر حريق أكبر سوق في العاصمة هرجيسا، كما لم تستقبل سفير الصين لدى الصومال فاي شنغ تشاو، وهذا بالتزامن مع نشاط كبير للتحالف مع الولايات المتحدة، وقام رئيس أرض الصومال، موسى بيهي عبدي، برحلة إلى واشنطن، حيث التقى مسؤولي إدارة بايدن؛ في محاولة للحصول على الاعتراف بأرض الصومال، وتعميق العلاقات بين الولايات المتحدة وأرض الصومال، وعرضت حكومة أرض الصومال السماح للجيش الأمريكي بالوصول إلى ميناء ومطار بربرة، ذي الموقع الجغرافي الإستراتيجي في خليج عدن، ويشكل عُقدة سيطرة على طرق التجارة البحرية الحيوية.

وأدت حالة عدم الاستقرار التي طال أمدها في اليمن والصومال إلى تهديدات أمنية عابرة للحدود الوطنية؛ مما يؤثر في سلامة منطقة خليج عدن، مثل تزايد الهجمات ضد السفن التجارية في المضايق البحرية للبحر الأحمر، التي تشنها جماعة أنصار الله (الحوثي) اليمنية. ويمكن ربط بعض هذه الهجمات بتسلل الجماعات المسلحة العابرة للحدود الوطنية والمحلية إلى اليمن والصومال، التي تستخدم الفوضى وتضاؤل قدرة الدولة لشن هجماتها. وتشمل هذه الجماعات شبكات الجريمة المنظمة، والإرهاب. وأدت تركيبة من الحكم الضعيف وغير الفعّال إلى ترسيخ فرع تنظيم القاعدة الإقليمي- تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية- في اليمن، ونظيره في الصومال- حركة الشباب- وشن هجمات محلية، وإقليمية، وعالمية.

ولقد خلق عدم الاستقرار في الصومال على مر السنين أزمة نزوح واسعة النطاق لم يمكن احتواؤها في منطقة خليج عدن. تشير تقديرات عام 2014 إلى أن نحو (1.4) مليون صومالي نزحوا داخليًّا بسبب النزاع والكوارث الطبيعية، بالإضافة إلى (1.1) مليون صومالي في جميع أنحاء العالم يعيشون في أوضاع شبيهة باللاجئين. ونظرًا إلى صعوبة السفر خارج الصومال، فإن الطلب المتزايد على الهجرة يولد شبكة من الجريمة المنظمة لتسهيل الهجرة غير النظامية، وهذا يمثل مصدر قلق أمني عابر للحدود الوطنية.

يعد الأمن العابر للحدود الوطنية في منطقة خليج عدن غير مستقر إلى حد كبير، ويتأثر بعدد من العوامل الاجتماعية، والاقتصادية، والداخلية، والخارجية، والقوى السياسية. وتُهدد هذه العوامل أسعار السلع الأساسية، ومعدلات تخصيص المساعدات الدولية، والمنظمات الإجرامية المتعددة المناطق الضالعة في الاتجار وتهريب الأشخاص والبضائع، وكلها تؤدي إلى موجات من الهجرة غير الشرعية عبر اليمن، والصومال، وجيبوتي. وتسهم هذه العوامل في هشاشة الدولة وفشلها؛ من خلال ممارسة الضغوط المالية على هياكل الحُكم فيها، إما عن طريق زيادة التدهور الاقتصادي في البلدان المتضررة، وإما عن طريق السماح للجماعات الإجرامية بالتسلل داخلها؛ لذا فهناك ترابط أساسي بين هذه القضايا وظهور مجموعة من التهديدات الإقليمية الأخرى التي تشمل الإرهاب، والقرصنة، وحركات التمرد الوطنية والمحلية التي يصعب احتواؤها. ولا تؤدي هذه التهديدات إلى زيادة زعزعة استقرار الصومال فحسب؛ بل تؤدي أيضًا إلى إلحاق ضرر مباشر بجيرانهما المباشرين، إثيوبيا، وجيبوتي، وكينيا، وعمان، والمملكة العربية السعودية، ومصر.

أخيرًا، في ضوء ما سبق، تظهر أهمية استثنائية لأرض الصومال في منطقة خليج عدن، ولكن حتى الآن ليس مِن الواضح أن الإدارة الأمريكية تخطط للاعتراف بها دولةً مستقلة. ويشعر المسؤولون الأمريكيون بالقلق من أن الاعتراف بأرض الصومال من شأنه أن يعرض علاقات واشنطن مع مقديشو للخطر؛ مما يقوض الجهود المبذولة لمحاربة حركة الشباب الإرهابية، ومكافحة القرصنة. لكن مع زيادة وجود الصين في القرن الإفريقي- وخاصة في جيبوتي، حيث تُموِّل بكين وتبني المواني ومناطق التجارة الحرة، فضلًا عن إنشاء أول قاعدة بحرية خارجية لها، ومع تزايد التهديدات الأمنية والإرهابية في مضايق البحر الأحمر، يمكن لواشنطن تغيير إستراتيجيتها والاعتراف بأرض الصومال؛ للبُعد عن جيبوتي، وعدم الإفراط في الاعتماد عليها والتعاون معها.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع