
في الشبكة المعقّدة للسياسة الخارجية الإيرانية، يهيمن تحدّيان مزمنان: العلاقة المتوترة مع الولايات المتحدة، والمأزق النووي الممتد منذ سنوات. ويلقي هذان العاملان بظلال ثقيلة على ديناميات الإقليم، حيث غالبًا ما تتوقف تطورات الشرق الأوسط عليهما، وإن كانت العلاقات الدولية، بطبيعتها، لا تخضع لتقسيمات صلبة بين متغيرات مستقلة وأخرى تابعة، بل تتكشف من خلال دورات من التأثير المتبادل. وفي هذا السياق، يتعيّن أخذ جملة من العوامل في الحسبان، من بينها المناورات الإستراتيجية للنظام الإسرائيلي، وأدوار الفاعلين الإقليميين الآخرين، ومسارات نقل الطاقة -لا سيما تلك المزوِّدة للصين- وأمن الممرات المائية الحيوية، مثل الخليج الفارسي، وبحر عُمان. ويُضاف إلى ذلك الأجندات التنموية الطموحة لدول جنوب الخليج الفارسي، التي تتطلب موازنة دقيقة بين متطلبات النمو وضمانات الاستقرار.
وتتصدر المسألة النووية المشهد بوصفها عنق زجاجة حادًّا وفوريًّا في علاقة إيران بالغرب، ولا سيما بالولايات المتحدة. وأي تحليل استشرافي جادّ لا بد أن يتناول سُبل إخراج الأطراف من حالة الجمود الراهنة، التي باتت اليوم أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى في ظل سياسات أمريكية حديثة خلال عهد الرئيس ترمب، شملت ضربات عسكرية استمرت 12 يومًا، واستهدفت مواقع نووية إيرانية، فضلًا عن فتح نقاط احتكاك جديدة.
وتزيد المواقف المتصلبة من تعقيد المشهد: إنكار الولايات المتحدة القاطع لحق التخصيب، في مقابل إصرار إيران على اعتباره حقًّا غير قابل للمساومة، ومكفولًا بنصوص قانونية واضحة. كما يفاقم الوضعَ تحوّلُ أوروبا التدريجي نحو فك الارتباط مع طهران، مدفوعًا بالحرب في أوكرانيا، إلى جانب إصرار إسرائيل على تقويض أي انفتاح دبلوماسي إيراني، بما يرفع منسوب الخطر، ويحدّ من هوامش المناورة.
إن اجتياز هذا المستنقع المركّب يتطلب تصاميم فكرية تتجاوز الأرثوذكسيات الحكومية الجامدة، وهنا يبرز دور مراكز الفكر المستقلة عالميًا بوصفها فاعلًا محوريًا مكلّفًا بالابتكار المحايد، أي بصياغة حلول تفكّ العقدة على نحو يحفظ الكرامة السياسية لجميع الأطراف، من دون إكراه أو تحيّز.
وفكرة الاتحاد النووي ليست جديدة؛ إذ تعود جذورها إلى عقود مضت، لكنها تعثرت باستمرار أمام عوائق بنيوية وسياسية جسيمة. ومن أبرز المقترحات في هذا الإطار نموذج إقليمي تقدّمي طرحه في كتابات أكاديمية الدكتور جواد ظريف، وزير الخارجية الإيراني السابق، إلى جانب مقاربة تعاونية قدّمها سيد حسين موسويان، الدبلوماسي الإيراني المخضرم، مع عدد من زملائه. غير أن التركيز هنا لا ينصب على تفكيك تلك المقترحات في ذاتها، بل على تقييم فكرة الاتحاد من حيث مزاياها البنيوية في مقابل العوائق المتكررة التي واجهتها.
وما يرفع الاتحاد إلى مستوى الجسر العملي بين المطالب القصوى هو إرساؤه وصاية إقليمية مشتركة على الأنشطة النووية السلمية المدنية. ويشكّل ذلك، في الوقت نفسه، ردًّا غير مباشر على الغموض الذي يكتنف الترسانة النووية الكبيرة وغير المعلنة للنظام الإسرائيلي. أما المجتمع الدولي -الغرب، والصين، وروسيا على حد سواء- فتُعدّ الضمانة أساسية بأن تتجه الخبرة النووية الإقليمية المتقدمة لدى إيران بعيدًا عن العسكرة، بما يمنع سباق تسلح خطير في الخليج الفارسي وغرب آسيا على نطاق أوسع. وفي المقابل، ترفض إيران والسعودية والدول المجاورة غير النووية الإقصاء عن أفق الطاقة النووية، لما قد يترتب عليه تآكل ميزاتها التنافسية في قطاع الطاقة مع مرور الوقت. وتسعى هذه الدول إلى اندماج فعلي في مسارات المعرفة والتكنولوجيا والتنظيم والبحث والتطوير في هذا المجال، الذي يتجاوز البعد العسكري، كما تُظهر تجارب دول مثل اليابان، وكوريا الجنوبية، والأرجنتين.
وقد حصلت دول مثل الإمارات العربية المتحدة على مفاعلات نووية عن طريق الاستيراد، غير أن غياب الخبرة المحلية المتراكمة يجعل هذه الخطوة قاصرة عن تحقيق طموحات تكنولوجية أوسع، وهنا تبرز الأفضلية التكنولوجية الواضحة لإيران كعامل جذب قوي للشركاء الإقليميين. ومن شأن هذا التعاون أن يبدّد المخاوف الآنية، ويخفض أخطار التصعيد، ويوفّر بيئة أكثر أمانًا للاستثمار، وهو أمر بالغ الأهمية للاقتصادات العربية.
ومن المفارقات أن الضربات الأمريكية القاسية التي استهدفت المنشآت الإيرانية، مقرونة بتأكيدات ترمب غير المتنازع عليها بتدميرها، قد تفتح نافذة جديدة لقبول أوسع بمقاربات تعاونية، إذ يمكن للمشاركين تقديم انخراطهم في الاتحاد بوصفه خيارًا نابعًا من مصلحة إستراتيجية، لا استجابةً لضغوط أو إكراه. وقد تصوغ إيران هذا المسار على أنه إعادة بناء لبرنامجها النووي ضمن أطر تعاونية، مع إعادة توظيف الخبرات، والسير في مسار تنموي منسجم مع مقتضيات وطنية أصيلة تشمل الكرامة والسيادة. كما يمكن لدول الجوار، مثل تركيا والسعودية، أن تكتسب بسرعة قدرات كانت تفتقر إليها، بما يحيّد الشكوك المحتملة بشأن أنشطة إيران المستقبلية. وفي المقابل، تستطيع واشنطن إعلان تحقيق أهدافها الأمنية؛ ما يجعل أي أعمال عدائية أو عقوبات إضافية غير مبررة. أما أوروبا، فبوسعها -مع التمسك بمبادئها في ظل إدارة أمريكية على شاكلة ترمب- أن تعيد تدريجيًا إحياء مسارات التجارة والانخراط السياسي مع طهران. وقد يغدو هذا الترتيب أكثر جاذبية لقوى دولية مثل الصين وروسيا والهند، بوصفه نموذجًا لتماسك غرب آسيا يَحسب الفضل لجميع الأطراف المشاركة.
ومع ذلك، تبقى العقبات قائمة، وعلى رأسها نفور إسرائيل البنيوي من أي هياكل إقليمية منسجمة، لا سيما تلك التي تقودها دول إسلامية، إذ تنظر إليها بوصفها تهديدًا يعمّق عزلتها الإستراتيجية. فمنذ منتصف التسعينيات، انتهجت تل أبيب سياسة تأطير الأنشطة النووية الإيرانية -وموضع إيران الإقليمي عمومًا- بوصفها أخطارًا أمنية وجودية، بما يسمح بتحويل بوصلة العداء الإقليمي نحو طهران وإبعادها عن نفسها. ومن شأن أي مسار لتطبيع برنامج إيران أو دبلوماسيتها أن يستجلب محاولات تعطيل م نسّقة.
ولا يزال موقع منشآت التخصيب إحدى أكثر نقاط الخلاف حساسية في العلاقة الأمريكية- الإيرانية. إن استبعاد دورة الوقود الكاملة من الأراضي الإيرانية قد يتيح فرض ضمانات إضافية عند مفاصل أساسية، بما يهدّئ المخاوف المشروعة. ويعزّز هذا المسار إشرافٌ اتحادي شامل على جميع المنشآت، إلى جانب آليات تحقق صارمة من الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وإرادة جماعية لتهميش الخلافات الثانوية. وقد تبرز خيارات توطين المنشآت الجديدة على الأطراف الجنوبية لإيران أو في جزر الخليج الفارسي كحل وسط عملي. ولا ينبغي للمنشآت القائمة أن تُملي الشروط؛ إذ يمكن التكيّف بمرونة من خلال المشاركة، أو الإغلاق، أو التوسعة، مع إنشاء مواقع جديدة غير مثقلة بقيود الماضي.
ومن المرجّح أن تسعى طهران، في هذا السياق، إلى رفع العقوبات، وشطب ملفها النووي من هيئات محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ومجلس الأمن الدولي، وغيرها، مع تثبيت ذلك بتعهدات واضحة من الدول الغربية. ومن شأن هذا المسار أن يضفي بعدًا كراميًّا على تطبيع العلاقات السياسية والاقتصادية لإيران. كما يمكن لإيران أن تؤكد -على نحو أحادي- حقها السيادي في التخصيب، مع تعليق ممارسته بما يتوافق مع أولوياتها الوطنية.
ومع الأسف، كان كثير مما شاب السردية النووية الإيرانية قابلًا للتفادي، غير أن الدبلوماسية تزدهر دومًا في حيّز الممكن ضمن الشروط القائمة. إن اتحادًا يضم دولًا غير حائزة للسلاح النووي، مثل إيران، والسعودية، وتركيا، إلى جانب قوى كبرى تشمل الولايات المتحدة، والدول الأوروبية الثلاث، وروسيا، والصين، يمكنه إعادة صياغة المعضلة النووية بوصفها محفزًا لشراكات دائمة وخاضعة للمساءلة. ويقوم هذا الاتحاد على توزيع الأدوار وفق مبدأ الميزة النسبية، بما قد يحول دون تَشكّل مقدمات الحرب.
هذه المقاربة المتوازنة، التي تبدو الحصن الواقعي الوحيد في مواجهة تجدد الأعمال العدائية، هُمِّشت بفعل مرارات الحرب والانقسامات السياسية. غير أن ذلك الصراع -كما أظهرت الوقائع- لم يُفرز منتصرًا حاسمًا؛ فقد تكبّدت إيران أضرارًا جسيمة، لكن الإكراه العسكري أثبت عجزه عن تغيير موقفها الإستراتيجي. وحدها الدبلوماسية قادرة على التوفيق بين جميع الأطراف وتوجيه إيران نحو غايات سلمية مستدامة، فالدور الحقيقي للوسطاء لا يقتصر على نقل الرسائل؛ بل يتمثل في تبنّي أفكار مكتملة وقابلة للتطبيق تُقنع من دون فرض تنازلات أيديولوجية، وتغلق الملف النووي على نحو نهائي. أما اتفاق على شاكلة خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA)، فيتجاوز اليوم حدود القدرة السياسية والفاعلين المتاحين، فيما تظل الحلول الجزئية والمعزولة عرضة للالتفاف عليها. والمتشددون، في جميع الأطراف، سيبقون دائمًا في موقع الرفض.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير