توطئة
على النقيض من جيرانها في بلدان القوقاز، أولتأذربيجان أهمية كبيرة للشرق الأوسط؛ إذ أدركت أهميةتعزيز العلاقات القوية مع دول المنطقة. ومع إدارة جديدةللبيت الأبيض بقيادة دونالد ترمب، صاحب الطموح الواسعفي رسم ملامح شرق أوسط جديد الأولية فيه لأمنإسرائيل، تبرز أذربيجان شريكًا أساسيًّا في الخطةالأمريكية بصفتها الداعم الأكبر لإسرائيل بعد الولاياتالمتحدة، إذ تحمل العلاقة بين باكو وتل أبيب خصوصيةفريدة للتعاون بين دولتين لا تشتركان في حدود مشتركة أوخلفية عرقية أو دينية؛ ومن ثم تمثل أذربيجان رقمًا مؤثرًافي معادلة الشرق الأوسط، لا سيما في ظل التحولاتالسريعة والتحالفات الجديدة في المنطقة.
منذ أكثر من ثلاثة عقود نسجت إسرائيل وأذربيجان علاقةخاصة قائمة على المصالح المشتركة رغم التباينات العرقيةوالدينية واللغوية، فبينما كانت تل أبيب بحاجة إلى مصدرمستقر وموثوق به للنفط، كانت باكو تسعى إلى الحصولعلى أنظمة الدفاع العسكرية الإسرائيلية، وبذلك أصبحتأذربيجان ثاني أقرب صديق لإسرائيل بعد الولاياتالمتحدة، ومع افتتاح المكتب التجاري الأذربيجاني فيإسرائيل عام 2021، والسفارة الأذربيجانية في تل أبيب عام 2023، وصلت العلاقات الإستراتيجية بين أذربيجانوإسرائيل إلى مستوى جديد، حيث تغطي الشراكة بينالدولتين مجموعة كبيرة من المجالات الحيوية، منها الطاقة، والدفاع، والأمن، والنقل، والزراعة، والبيئة، وموارد المياه، والثقافة، والتكنولوجيا المتقدمة، وازدادت أهمية أذربيجانمن كونها الدولة الوحيدة ذات الأغلبية المسلمة التي وقفتبثبات إلى جانب إسرائيل خلال الحرب الأخيرة ضد حماسوحزب الله، حتى تحت ضغوط كبيرة من دول إسلاميةأخرى، على رأسها إيران.
كما أثبتت باكو أيضًا أنها ذات قيمة لا تقدر بثمنلإسرائيل، ليس فقط على صعيد التعاون السياسيوالاقتصادي والعسكري، بل على الصعيد الدبلوماسي؛ إذكانت وسيطًا بين تل أبيب وأنقرة، فالشعبان التركيوالأذربيجاني يعدّان أنفسهما أمة واحدة تعيش في بلدين؛ لذا فإن العلاقات الوثيقة التي تربط أذربيجان بكل منإسرائيل وتركيا تجعلها الوسيط المثالي بين هذين البلدين، وفي هذا السياق توسط الرئيس إلهام علييف بين إسرائيلوتركيا عدة مرات على مدى السنوات القليلة الماضية؛ فبينعامي 2008 و2010، عمل علييف على استعادة الحواربين البلدين، وفي عام 2018، استأنف علييف جهودهلتسهيل التواصل بين إسرائيل وتركيا، وقد تكون قدرةأذربيجان على سد الفجوة بين إسرائيل وتركيا ذات قيمةبالغة في الفترة المقبلة، خاصة بعد سقوط نظام بشارالأسد في سوريا، وصعود القيادة الجديدة تحت قيادةأحمد الشرع المدعوم من تركيا.
ولعل أهمية أذربيجان الجيوسياسية تمتد إلى ما هو أبعدمن علاقاتها الثنائية مع إسرائيل، فبالإضافة إلى تقاسمهاالحدود مع إيران وروسيا، فإن دور أذربيجان بوصفهاموردًا رئيسًا للطاقة إلى أوروبا يشكل أهمية بالغة في الحدمن الاعتماد على الطاقة الروسية، وكانت هذه الأهميةالإستراتيجية واضحة في سياق تأكيد إدارة ترمب –فيولايته الأولى– توسيع نطاق اتفاقيات إبراهيم، ومن خلالتوظيف نقاط القوة في أذربيجان، تتاح للولايات المتحدةوإسرائيل فرصة لبناء شرق أوسط جديد في مواجهة النفوذالإيراني، وبغية تأمين موارد الطاقة الإقليمية، لكن تلكالخطة قد تُرجأ إلى حين إنهاء توتر العلاقات بين الولاياتالمتحدة وأذربيجان على خلفية وقف أعمال الوكالة الأمريكيةللتنمية الدولية، ودعم ترمب وإدارته للمسيحين الأرمن فيأذربيجان، وانتقاد وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيوللحملة التي شنتها إدارة علييف على المعارضين السياسيينفي الداخل.
تنطلق العلاقة الإستراتيجية بين أذربيجانوإسرائيل من المصلحة المشتركة التي تتعددجوانبها وتتضح فيما يلي:
مع أن التراث الإسلامي المشترك بين أذربيجان ودولالشرق الأوسط يقدم فرصًا مهمة للتعاون بين باكووالعواصم الإسلامية، فإنه يخلق أيضًا بعض التحدياتالمرتبطة بتصدير الأيديولوجيا الدينية المتطرفة في المنطقة، وفي هذا السياق برزت العلاقة الشائكة بين باكو وطهرانمنذ تسعينيات القرن العشرين، إذ كانت أذربيجانالعلمانية قلقة بشأن تصدير الثورة الإسلامية، وكانت إيرانقلقة من العلاقات العسكرية بين إسرائيل والولايات المتحدةوأذربيجان. ومع ذلك، في العقد الماضي –وخاصة منذ توليالرئيس حسن روحاني السلطة– تحسنت العلاقات كثيرًا، خاصةً فيما يتعلق بالقضايا الاقتصادية والتجارية، إذيستضيف البلدان –بانتظام– منتديات اقتصادية، ويشاركان في مشروعات البنية التحتية والاستثمارالمشتركة، وأرسلت أذربيجان إشارات واضحة بأنها لا تنويتوفير أراضيها للأنشطة العسكرية المناهضة لإيران. وفيالمقابل، سعت إيران إلى نفي دعمها للجماعات الإسلاميةالمتطرفة داخل أذربيجان، ومع ذلك، فإن قضية الحقوقالثقافية لأكثر من 30 مليون أذربيجاني عرقي في شمالإيران، وعلاقات أذربيجان الوثيقة بإسرائيل، فضلًا عن دعمإيران المستمر لأرمينيا، لا تزال تؤثر في العلاقات الثنائية.
ومنذ الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، استهدفت إيرانخط أنابيب النفط باكو– تبليسي–وجيهان؛ مما وضعأذربيجان تحت ضغط لقطع إمدادات النفط الخام الرئيسةإلى إسرائيل؛ ومن ثم الإضرار بأساس السياسة الخارجيةلأذربيجان، واستمر التوتر بين طهران وباكو خلال الأشهرالماضية، لكن يبدو أن طهران غيّرت مسارها الآن بعدتولي مسعود بزشيكيان رئاسة البلاد، والخسائر التيتكبدتها طهران في إثر الحرب الإسرائيلية على المنطقة، وهي تسعى علنًا إلى إقامة علاقات أفضل مع باكو، بمافي ذلك تحسين الروابط بين السكك الحديدية والطرقالسريعة، ومن المرجح أن يكون هذا مرتبطًا بحاجة طهرانإلى تعزيز علاقاتها الدبلوماسية مع الدول الإقليمية بعدخسارتها حلفاءها، وعلى رأسهم حزب الله، ونظام الأسد.
وفي مقابل العلاقة المتوترة بين إيران وأذربيجان، مثلتتركيا الحليف الإقليمي الرئيس لأذربيجان وشريكهاالإستراتيجي منذ الاستقلال، إذ يعزز هذا التعاونالعلاقات اللغوية والثقافية القوية، ومشروعات الطاقةالإقليمية، مثل خطوط أنابيب النفط والغاز، والسككالحديدية الإقليمية الجديدة، ومشروعات الاتصال، والتعاونالعسكري والإنساني، فضلًا عن الاستثمارات الثنائية فيالقطاع غير النفطي، وقد طور زعماء البلدين فهمًا قويًّالأولويات كل منهما، وفي ظل النكسات التي تعانيها إيرانفي سوريا ولبنان، تنظر أذربيجان إلى تركيا بوصفهاتوازنًا إستراتيجيًّا في إدارة التهديدات المحتملة منالوضع الجديد للمنطقة، إذ تعمل الدولتان على تكثيفجهودهما لتأمين أهدافهما الإستراتيجية من خلال مشروعممر زانجيزور الذي كانت طهران تعرقله، والذي من شأنهأن يربط أذربيجان بمنطقة نخجوان المتمتعة بالحكم الذاتيعلى الحدود مع تركيا، إذ يعد الممر الذي يمر عبر الأراضيالأرمينية جزءًا من رؤية تركية أذربيجانية لتطوير طريقتجاري بين الصين وأوروبا.
لقد نجحت أذربيجان –حتى الآن– في تحقيق التوازن فيعلاقاتها مع بلدان الشرق الأوسط، متجنبة –في كثير منالأحيان– التوترات بشأن قضايا حساسة مثل العلاقات معإسرائيل، أو الحرب في سوريا، أو مشروعات الطاقةالإقليمية المتنافسة، ولكن مع سقوط نظام بشار الأسد فيسوريا، يبدو أن إسرائيل وتركيا ألحقتا هزيمة إستراتيجيةبإيران، ونظرًا إلى الطبيعة المتوترة للعلاقات التركيةالإسرائيلية، بسبب دعم الرئيس التركي رجب طيب أردوغانللقضية الفلسطينية؛ فمن مصلحة إسرائيل وتركيا عدمالاصطدام في سوريا، وإدارة المخاطر، وهو ما قد يبرزأهمية أذربيجان في الفترة المقبلة في اضطلاعها بدوررئيس في تنسيق المصالح الإسرائيلية والتركية، والتوفيقبينها لتجنب المواجهة في سوريا، أو على الأقل الحد منالتوترات بينهما، فمن المرجح أن تستأنف باكو الصيغةالإقليمية الثلاثية للتعاون الإستراتيجي بين أذربيجانوإسرائيل وتركيا التي بدأتها قبل أن تؤدي الحربالإسرائيلية على قطاع غزة إلى إفساد العلاقاتالإسرائيلية التركية الهشة مع انحياز أردوغان إلى حماس.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.