يأتي استعداد أذربيجان لتسلُّم الدفعة الأولى من طائرات “JF-17C Block-III” المقاتلة من باكستان خطوة بارزة في سياق التطورات السياسية والعسكرية التي تشهدها منطقة جنوب آسيا والقوقاز، إذ تُمثل هذه الصفقة، التي تُقدر قيمتها بـ(1.6) مليار دولار أمريكي، نقطة تحول في التعاون الدفاعي بين البلدين، لتبرز أذربيجان، التي يبلغ عدد سكانها (10.2) مليون نسمة، واقتصادها (70) مليار دولار، لاعبًا إقليميًّا يسعى إلى تعزيز قدراته الدفاعية من خلال شراكات إستراتيجية مع دول صديقة، أبرزها باكستان. وتسعى باكو إلى تعزيز قواتها الجوية في ظل التحديات الأمنية المستمرة مع أرمينيا وإيران، في حين تريد إسلام آباد أن تُقدم نفسها شريكًا إستراتيجيًّا يمتلك خبرة عسكرية متقدمة، خاصة في مجال تصنيع الطائرات المقاتلة، بالتعاون مع الصين.
تتمتع أذربيجان وباكستان بعلاقات ثنائية عميقة تمتد جذورها منذ انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، وتحول أذربيجان إلى دولة مستقلة. وكانت باكستان من أوائل الدول التي اعترفت باستقلال باكو، بعد تركيا مباشرة؛ مما وضع الأساس لشراكة إستراتيجية طويلة الأمد. وجاء هذا الاعتراف المبكر مدفوعًا بروابط ثقافية ودينية مشتركة، إذ يشترك البلدان في الهوية الإسلامية، مع أغلبية شيعية في أذربيجان (65% من 10.2 مليون نسمة)، وأقلية شيعية كبيرة في باكستان (20% من 240 مليون نسمة)؛ مما عزز التعاون بينهما.
خلال الصراع الأول على ناغورنو- كراباخ (1988- 1994)، الذي كلف أذربيجان نحو (20) مليار دولار من الخسائر الاقتصادية والبشرية، قدمت باكستان دعمًا سياسيًّا ودبلوماسيًّا كبيرًا لأذربيجان، رافضةً الاعتراف بأرمينيا كدولة حتى اليوم بسبب دعمها للانفصاليين في المنطقة. وأنفقت إسلام آباد نحو (10) ملايين دولار على مساعدات إنسانية ودعم دبلوماسي خلال هذا الصراع؛ مما عزز الثقة المتبادلة بين البلدين. في المقابل، دعمت أذربيجان موقف باكستان في قضية كشمير، هذا الصراع الذي كلف الهند وباكستان أكثر من (100) مليار دولار خسائر منذ 1947؛ مما يعكس تضامنًا سياسيًّا متبادلًا.
في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بدأ التعاون العسكري يتبلور، إذ وقّعت الدولتان اتفاقية تعاون عسكري عام 2003 أتاحت تدريب نحو (100) ضابط أذربيجاني في باكستان بتكلفة تقديرية (5) ملايين دولار، وتطور هذا التعاون لاحقًا إلى صفقات أسلحة، إذ اشترت أذربيجان طائرات تدريب من طراز “Super Mushshak” بقيمة (20) مليون دولار عام 2016؛ مما مهد الطريق لصفقة (JF-17C Block-III) عام 2025، التي تُعد الأكبر في تاريخ التعاون الدفاعي بين البلدين، إذ دفعت أذربيجان (1.6) مليار دولار.
تتعدد الأسباب التي دفعت أذربيجان إلى شراء طائرات “JF-17C Block-III” من باكستان، وهي مزيج من الدوافع الدفاعية والاقتصادية والسياسية التي تعكس التحديات الأمنية التي تواجهها البلاد، فقد أنفقت باكو (3.8) مليار دولار على ميزانيتها الدفاعية عام 2024، والآن تسعى إلى تحديث قواتها الجوية التي تعتمد على أسطول قديم من طائرات “ميغ-21″، و”ميغ- 29″، و”سو- 25″، يعود تاريخها إلى الحقبة السوفيتية، بمتوسط عمر (30) عامًا، وقيمة تجهيزاتها نحو (500) مليون دولار.
أنفقت أرمينيا، بعد حرب ناغورنو- كراباخ الثانية عام 2020، (1.2) مليار دولار على تسليحها عام 2024، مع شراء أنظمة دفاع جوي، مثل “آكاش”، ومدافع “بيناكا”، من الهند بتكلفة (500) مليون دولار، وكبدت الحرب أذربيجان نحو ملياري دولار من الخسائر، وهذا دفع باكو إلى إدراك ضرورة تعزيز قوتها الجوية لمواجهة الطائرات السو-30 الأرمينية المحدثة؛ مما دفعها إلى الاستثمار في طائرات “JF-17C Block-III” التي تُكلف نحو (50) مليون دولار للطائرة الواحدة، مع قدرات متقدمة تشمل رادارًا من طراز “AESA”، وصواريخ بعيدة المدى لمواجهة أي تهديد أمني أرميني مُحتمل، بالإضافة إلى تصاعد التوتر مع إيران، التي تمتلك حدودًا مشتركة مع أذربيجان تمتد إلى (765) كيلومترًا، وجيشًا يضم (500,000) جندي بميزانية (20) مليار دولار. وقد أنفقت طهران (200) مليون دولار عام 2024 على دعم الميليشيات الشيعية في أفغانستان؛ مما يُثير مخاوف باكو من التدخل الإيراني في شؤونها الداخلية، خاصة مع وجود أقلية شيعية كبيرة؛ لذا تؤدي الطائرات “JF-17C”، التي تُنتجها باكستان بالتعاون مع الصين، دورًا في تعزيز قدرة أذربيجان على الردع.
قدمت الطائرات الباكستانية ميزة تفضيلية من حيث السعر لأذربيجان مقارنة ببدائل غربية، مثل “F-16” الأمريكية (100 مليون دولار للوحدة)، أو المقاتلات الروسية مثل “سو-35” (80 مليون دولار). في المقابل، تسعى باكو إلى الاستفادة من باكستان شريكًا اقتصاديًّا بديلًا في ظل العقوبات على روسيا، التي كانت تُزودها بـ(70%) من تسليحها بقيمة ملياري دولار في الفترة من عام 2010 إلى عام 2020. وتضمنت استعدادات أذربيجان لتسلّم الدفعة الأولى التي تشمل 8 طائرات بتكلفة أولية 400 مليون دولار، عدة جوانب عسكرية ولوجستية ودبلوماسية.
تُعزز الصفقة مكانة باكستان بوصفها مُصدّرًا للأسلحة في جنوب آسيا، إذ تُعد أكبر صفقة تصدير في تاريخها (1.6 مليار دولار)، مع مكاسب اقتصادية وسياسية (400 مليون دولار دفعة أولى)؛ مما يُعطيها ميزة على الهند التي أنفقت (4) مليارات دولار على صفقات دفاعية مع الولايات المتحدة عام 2025. وتستفيد باكستان من تعزيز التعاون مع الصين، الذي بلغ (62) مليار دولار؛ مما يُثير قلق الهند والولايات المتحدة، لا سيما أن الأخيرة استثمرت (60) مليار دولار مع نيودلهي، كما ستكون الأسلحة الباكستانية (بتكنولوجيا صينية) مُنافسًا للأسلحة الغربية في القوقاز، خاصةً الفرنسية التي تعتمد عليها أرمينيا في ترسانتها العسكرية. وبهذه الصفقة فتحت باكو الباب للاعبين آخرين في الإقليم، مثل تُركيا، حيث عُزِّز التحالف بين الطرفين بصفقة عسكرية قيمتها مليار دولار في مشروع طائرات “Kaan”، لتُصبح قوة جوية رئيسة في المنطقة، وهذا قد يُعيد تشكيل التوازنات في جنوب آسيا والقوقاز، ويُعيد ترتيب الأولويات الإقليمية؛ مما يجعله نقطة تحول في السياسة الدولية.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.