في الوقت الذي تعيد فيه القوى الإقليمية والدولية رسم خرائط نفوذها في قلب آسيا، تتجه أنظار السعودية نحو منطقة لطالما ظلت خارج نطاق الاهتمام العربي؛ آسيا الوسطى، تلك المنطقة التي تتقاطع فيها الجغرافيا الإسلامية مع المصالح الاقتصادية والمنافسات الجيوسياسية مع القوى الإقليمية والدولية، والتي أصبحت في السنوات الأخيرة ساحة واعدة لاختبار نماذج جديدة من الحضور السعودي، فلم تعد السياسة الخارجية للمملكة محصورة في دوائرها التقليدية، بل امتدت لتشمل فضاءات جديدة، من بينها الجمهوريات الخمس، التي تمتلك مقومات إستراتيجية بالغة الأهمية، من حيث الموقع والثروات والعمق الإسلامي، ما يطرح تساؤلات عن سلسة المحفزات وراء الانخراط السعودي في تلك المنطقة، والأدوات التي انتهجتها الرياض لترسيخ هذا الانخراط، والمكاسب التي تجنيها المملكة من ترسيخ علاقاتها بدول المنطقة، ومستقبل تلك العلاقات على المدى المنظور، إذ إن دلالات التقارب السعودي مع دول آسيا الوسطى تتجاوز البعد الثنائي التقليدي لتُعبر عن نقلة نوعية في فهم المملكة لدورها الإقليمي والدولي.
تعود جذور العلاقات بين السعودية والجمهوريات الخمس إلى أوائل التسعينيات بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، لكن مرحلة التحول الحقيقي بدأت بعد عام 2016، في ظل توجه السعودية إلى إعادة صياغة سياستها الخارجية على أسس متعددة المحاور، ومن هذا تبرز أهم دوافع المملكة نحو التقارب مع دول آسيا الوسطى في:
تمتلك المملكة العربية السعودية حزمة متنوعة من الأدوات الناعمة والصلبة التي توظفها لتوسيع نفوذها في دول آسيا الوسطى، وتُشكل هذه الأدوات مزيجًا من القوة الاقتصادية والدبلوماسية والدينية والثقافية، يُستخدم وفق خصوصية كل دولة وظرفها السياسي، ويتضح هذا فيما يلي:
يشكل التقارب المتنامي بين المملكة ودول آسيا الوسطى تحولًا إستراتيجيًّا مهمًّا في بنية السياسة الخارجية السعودية، ويعكس توجهًا أوسع نحو تنويع الشراكات الإقليمية والدولية بما يخدم طموحات المملكة في تعزيز استقلالها الإستراتيجي، وزيادة حضورها في مناطق النفوذ غير التقليدية، فمن خلال انخراطها النشط في آسيا الوسطى، تسعى السعودية إلى إعادة تموضعها بوصفها قوة إقليمية ذات امتداد أوسع من نطاقها الجغرافي في الخليج والشرق الأوسط.
فمن منظور جيوسياسي، يمثل التوغل السعودي في آسيا الوسطى خطوة نحو توسيع الحضور السعودي في قلب أوراسيا، حيث تلتقي مصالح قوى كبرى، مثل روسيا والصين وتركيا وإيران، إذ تعزز المملكة من موقعها بوصفها لاعبًا مؤثرًا في بيئة إستراتيجية شديدة الحيوية، خاصةً أن هذه المنطقة تُمثل حلقة وصل جغرافية بين أوروبا وشرق آسيا والعالم الإسلامي، كما أن القرب الجغرافي من أفغانستان وإيران يمنح هذا الحضور السعودي أبعادًا أمنية واضحة، تتصل مباشرة بمصالح الأمن القومي للمملكة، حيث تنظر السعودية إلى آسيا الوسطى بوصفها حزامًا أمنيًّا استباقيًّا في ظل تقاربها الجغرافي والفكري مع مناطق الهشاشة الأمنية، بما ينعكس إيجابًا على أمن المملكة.
وتنتهج السعودية على المستوى الثقافي والديني مقاربة أكثر توازنًا وواقعية في تعاملها مع الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى، بعيدًا عن الأطر العَقَدية الضيقة، فبدلًا من تصدير نموذج ديني محدد، تركز المملكة على البعد الحضاري والإنساني للإسلام، من خلال تقديم الدعم للمؤسسات الدينية والتعليمية، مع احترام السياقات المحلية العلمانية لهذه الدول، وتدل هذه المقاربة على تحول في توظيف المملكة لثقلها الديني بوصفه أداة ناعمة لتعزيز الشرعية والقبول الإقليمي، لا أداة أيديولوجية صدامية.
من جانب آخر، يعكس هذا التقارب رغبة سعودية واضحة في منافسة المشروعات الإقليمية الكبرى في آسيا الوسطى، سواء مبادرة الحزام والطريق الصينية، أو الطموحات التركية ذات الطابع العثماني الثقافي، أو الامتدادات الإيرانية التاريخية، لكن المملكة تطرح نفسها بديلًا يقوم على الشراكة الاقتصادية، والاستثمار في التنمية، وتمويل البنية التحتية، ويمنحها هذا النموذج ميزة تنافسية كبيرة في أعين النخب الحاكمة في آسيا الوسطى، التي تفضل شركاء يحترمون السيادة، ولا يتدخلون في الشأن الداخلي.
وفي هذا السياق، أسهمت أدوات النفوذ السعودية في مأسسة العلاقات الثنائية من خلال أدوات النفوذ التنموية والدينية، حيث تحولت العلاقات الثنائية بين السعودية ودول آسيا الوسطى من نمط مجاملات دبلوماسية إلى علاقات مؤسسية منتظمة؛ فعن طريق الصندوق السعودي للتنمية، ومركز الملك سلمان للإغاثة، دخلت المملكة إلى عمق المجتمعات المحلية في طاجيكستان وقرغيزستان وأوزبكستان، وهذا الحضور خلق روابط مادية مباشرة على الأرض، وأنتج تقاربًا ملموسًا بين المؤسسات الرسمية للطرفين. كما أسهمت المنح التعليمية في تكوين شبكة من خريجي الجامعات السعودية، الذين يعملون اليوم في قطاعات التعليم والدين والإدارة، ويشكلون جسورًا بشرية وثقافية تربط تلك الدول بالسعودية، وتُسهم في تعزيز التفاهم السياسي والثقافي.
وبفضل استخدام أدوات النفوذ الثقافي والتنموي، تمكنت المملكة من توسيع دائرة القبول الشعبي والثقافي للمملكة في آسيا الوسطى بوصفها دولة إسلامية معتدلة، ذات رؤية حضارية غير تصادمية، بعيدة عن الأنماط النمطية السلبية أو المخاوف من الاختراق الأيديولوجي. هذا القبول الشعبي أضفى غطاءً مجتمعيًّا على العلاقات الرسمية، وأدى إلى اتساع نطاق التعاون، ودخول الساحة الآسيوية دون إثارة حساسيات الأنظمة، من خلال اعتمادها على أدوات ناعمة غير أيديولوجية، وأدى نجاح أدوات النفوذ السعودية الناعمة إلى تهيئة الأرضية النفسية والمؤسسية لتعزيز مجالات التعاون الاقتصادي والسياسي، فالثقة المتبادلة التي بُنيت من خلال المسار الثقافي والديني، سمحت بإبرام اتفاقيات استثمارية وتجارية غير مسبوقة بين السعودية والجمهوريات الخمس قد تؤدي دورًا محوريًّا في ترسيخ التوغل السعودي في داخل دول المنطقة.
شهدت العلاقات بين المملكة ودول آسيا الوسطى تطورًا ملحوظًا خلال السنوات الأخيرة، لا سيما بعد أن بدأت المملكة في تفعيل أدوات قوتها الناعمة، وتوسيع نفوذها الاقتصادي والديني والثقافي في تلك المنطقة الحيوية، ومع تصاعد الحضور السعودي في الجمهوريات الخمس تزداد أهمية استشراف مستقبل هذه العلاقات في ضوء التغيرات الجيوسياسية العالمية، وتحديد ما يطرحه هذا الحضور من فرص إستراتيجية في مقابل تحديات محتملة قد تقيد التوسع أو تؤثر على استدامته.
تتمثل أولى الفرص الكبرى في قدرة المملكة على التمدد الجيوسياسي باتجاه عمق آسيا الوسطى، وهي منطقة لطالما خضعت لتوازنات معقدة بين روسيا والصين وتركيا، حيث يمنح التقارب السعودي من هذه الجمهوريات المملكة موطئ قدم جديدًا في منطقة حيوية تربط بين الخليج والقوقاز وآسيا الشرقية، وتتيح لها الانخراط في ملفات إستراتيجية تتجاوز المجال العربي التقليدي، هذا التمدد يعزز طموحات رؤية السعودية 2030 الرامية إلى بناء علاقات متوازنة مع أقاليم متنوعة اقتصاديًّا وجغرافيًّا. كذلك توفر مشروعات الربط اللوجستي بين الخليج وآسيا الوسطى فرصة إستراتيجية أخرى للسعودية، إذ تسعى المملكة أن تتحول إلى مركز عبور عالمي يربط بين ثلاث قارات، وتتيح مشروعات الممرات البرية والسككية والبحرية -خاصة عبر بحر قزوين أو الأراضي الإيرانية- للسعودية تعزيز مكانتها بوصفها مركزًا لوجستيًّا للطاقة والسلع والبضائع نحو أوروبا والصين، بما يخدم مصالح آسيا الوسطى ويُحررها نسبيًّا من الاعتماد على روسيا.
أما على المستوى الاقتصادي، فتفتح مشروعات الطاقة والبنية التحتية آفاقًا واسعة أمام المملكة لتعميق شراكاتها مع دول تمتلك ثروات طبيعية ضخمة، لكنها بحاجة إلى رؤوس أموال وخبرة فنية، وتقدم السعودية نفسها بوصفها شريكًا تنمويًّا فعالًا في مشروعات الطاقة المتجددة والنقل والزراعة، خاصةً في أوزبكستان وكازاخستان، ويعزز هذا الانخراط فرص التكامل الاقتصادي، ويفتح أمام المملكة أسواقًا جديدة. فضلًا عن هذا، تمثل آسيا الوسطى بيئة خصبة لنموذج القوة الناعمة السعودية، حيث تتوق شعوبها إلى استعادة هويتها الإسلامية بعد عقود من التهميش في الحقبة السوفيتية، ويمنح هذا المملكة فرصة لتأدية دور الراعي الروحي المعتدل الذي يُسهم في إحياء الإسلام الوسطي، دون الاصطدام بحساسية الأنظمة العلمانية؛ ومن ثم تستطيع السعودية عبر التعليم والمنح والأنشطة الثقافية أن تؤسس لقاعدة شعبية ونخبوية مستدامة تُسهل التواصل الرسمي، وتُرسخ علاقات طويلة الأمد.
لكن في مقابل هذه الفرص، تواجه العلاقات السعودية مع الجمهوريات الخمس جُملة من التحديات المعقدة، أبرزها التغلغل الصيني المتزايد في اقتصادات تلك الدول، حيث تملك الصين تأثيرًا عميقًا في البنية التحتية والديون وسلاسل الإمداد، ما قد يحد من هامش المناورة السعودي اقتصاديًّا. كما أن النفوذ الروسي الأمني التقليدي -عبر منظمة معاهدة الأمن الجماعي- لا يزال يشكل حائط صد خفيًّا، خاصة حين يتعلق الأمر بالملفات الأمنية أو الدينية. إلى جانب ذلك، تبقى هناك حساسية سياسية في بعض جمهوريات آسيا الوسطى تجاه أي نفوذ ديني خارجي، وإن بدا معتدلًا، إذ تتخوف السلطات من عودة الإسلام السياسي أو التطرف الديني، وهو ما قد يدفعها إلى تقييد النشاط السعودي الثقافي أو الديني في بعض الأوقات، ولو بطرائق غير مباشرة، وتتطلب هذه البيئة الحذرة إدارة دقيقة من جانب المملكة، لتجنب أي سوء فهم أو توتر غير مبرر.
كما تمثل هشاشة البنى السياسية في بعض تلك الدول تحديًا آخر، إذ تعاني بعضها ضعفًا في المؤسسات، ومحدودية في الحريات، وتقلبات داخلية يمكن أن تؤثر في استقرار الاتفاقيات، أو استمرار التعاون الاستثماري؛ ومن ثم فإن أي إستراتيجية سعودية في آسيا الوسطى يجب أن تُبنى على مبدأ التنويع، وعدم الاعتماد المفرط على طرف واحد، أو قطاع واحد. إضافةً إلى ما سبق، لا يمكن تجاهل المنافسة الإقليمية الخفية مع تركيا أو إيران، فكلتاهما تسعى إلى توسيع نفوذها في آسيا الوسطى، الأولى من خلال الرابطة التركية، والثانية من خلال الثقافة الشيعية انطلاقًا من طاجيكستان، وهو ما يتطلب من السعودية قدرًا عاليًا من الحذر الإستراتيجي والتكيف مع ديناميات الداخل الآسيوي المعقد.
محصلة القول أن التقارب السعودي مع دول آسيا الوسطى يمثل تطورًا إستراتيجيًّا مدروسًا يعكس تحولات أوسع في السياسة الخارجية السعودية. وقد تراكمت شواهد هذا التقارب لتؤسس لعلاقة متعددة الأبعاد، ومرشحة لمزيد من التوسع في ظل تشابك المصالح الاقتصادية والأمنية والدينية؛ ما يجعل من المرجح خلال المدى المنظور بروز آسيا الوسطى بوصفها أحد المحاور المهمة في الرؤية الإقليمية السعودية، خاصة في ظل التنافس الدولي على أوراسيا، وسعي المملكة إلى قيادة مشهد جيوسياسي جديد أكثر تنوعًا واستقلالية، وإذا نجحت الرياض في استثمار الفرص المتاحة وتقويض التهديدات المحتملة، فإن آسيا الوسطى يمكن أن تمثل في العقد المقبل عمقًا إستراتيجيًّا غير تقليدي للسياسة الخارجية السعودية، ونموذجًا سعوديًّا قابلًا للتكرار في مناطق أخرى، مثل شرق إفريقيا، أو جنوب آسيا.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.