تقدير موقف

أخطار ثورة ملونة في بنغلاديش


  • 20 يوليو 2024

شارك الموضوع

أعلنت بنغلاديش فرض حظر التجوال، ونشر القوات العسكرية بعد فشل الشرطة في مواجهة الاضطرابات التي انتشرت في جميع أنحاء البلاد، وقد أدت الاشتباكات بين الطلاب المتظاهرين والشرطة إلى مقتل (105) أشخاص على الأقل، وفقًا لإحصاء وكالة فرانس برس للضحايا الذين أبلغت عنهم المستشفيات، ولم تصدر أي جهة حكومية حصيلة للضحايا، وقد اقتحم طلاب متظاهرون سجنًا في منطقة نارسينجدي بوسط بنغلاديش، وأطلقوا سراح نزلائه قبل أن يضرموا النار في المنشأة، ولا يُعرف عدد السجناء، لكنه ربما يكون بالمئات كما أفادت الوكالة الفرنسية.

وقد اندلعت الاحتجاجات في البداية بسبب غضب الطلاب من قرار خصص (30 %) من الوظائف الحكومية لأسر المحاربين القدامى الذين قاتلوا من أجل الاستقلال عن باكستان عام 1971، وتزايدت الاضطرابات بسبب ارتفاع معدلات البطالة بين الشباب، الذين يشكلون ما يقرب من خُمس سكان البلاد البالغ عددهم (170) مليون نسمة، بالإضافة إلى مشكلات اقتصادية، مثل ارتفاع التضخم، وتقلص احتياطيات النقد الأجنبي، قبل أن تتحول التظاهرات إلى دعوة إلى “استقالة الشيخة حسينة فورًا”.

وتتهم جماعات حقوق الإنسان حكومة السيدة حسينة بإساءة استخدام مؤسسات الدولة لتعزيز قبضتها على السلطة، وقمع المعارضة، بما في ذلك القتل خارج نطاق القضاء لنشطاء المعارضة، وأن نظام الحصص الذي يخصص أكثر من نصف وظائف الخدمة المدنية لمجموعات محددة، منهم أطفال المحاربين القدامى ضد باكستان، يستهدف رضا الجماعات المؤيدة للحكومة التي تدعم الشيخة حسينة، التي حكمت البلاد منذ عام 2009، وفازت بالانتخابات الرابعة على التوالي في يناير (كانون الثاني) 2024 بعد تصويت دون معارضة حقيقية، مما يشكل تحديًا كبيرًا لحكومة رئيسة الوزراء الشيخة حسينة التي انتُخبت مؤخرًا.

​​ ومنذ بداية القرن الحادي والعشرين، استمر اقتصاد بنغلاديش في التطور، وأصبح أحد أسرع اقتصادات البلدان نموًا في العالم. ويمكن أن تُعزى الإنجازات المهمة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية في بنغلاديش إلى ثلاثة عوامل رئيسة؛ أولًا: الاستقرار السياسي: على الرغم من الصراعات الحزبية المكثفة، توصلت جميع الأحزاب السياسية إلى توافق في الآراء بشأن التنمية الاقتصادية. ثانيًا: بفضل ميزتها النسبية في العمالة، أصبحت بنغلاديش ثاني أكبر مصدر للملابس في العالم بعد الصين. ثالثًا: من حيث الدبلوماسية، تنتهج حكومة حسينة سياسة موازنة القوى الكبرى، لكن نظرًا إلى بنيتها الاقتصادية الفريدة نسبيًّا، وضعف مرونتها، تأثرت التنمية الاقتصادية في بنغلاديش في السنوات القليلة الماضية بعوامل مختلفة، منها جائحة كوفيد- 19، وارتفاع أسعار الفائدة في بنك الاحتياطي الفيدرالي، والصراع بين روسيا وأوكرانيا. إن الوضع الاقتصادي المتدهور، واتساع فجوة الثروة نتيجة للتوزيع غير المتكافئ يشكلان عاملين مهمين يؤثران في الاستقرار الاجتماعي والوضع السياسي في بنغلاديش.

الآن، تأتي هذه اللحظة العصيبة في تاريخ بنغلاديش بعد زيارة تاريخية للشيخة حسينة إلى الصين لكي تُعزز من العلاقات بين دكا- بكين، وقد أعربت رئيسة الوزراء حسينة عن استعداد بنغلاديش لتعزيز التعاون مع الصين في عملية بناء “بنغلاديش الذهبية”، والمشاركة بنشاط في مبادرة الحزام والطريق، وتعزيز تنمية بنغلاديش. وخلال عام 2023، كانت الصين تنفذ (21) جسرًا، و(27) مشروعًا للطاقة في بنغلاديش. أثار التعاون الاقتصادي الوثيق بين الصين وبنغلاديش الاستياء من الهند والولايات المتحدة.

ومع ذلك، واصلت الولايات المتحدة تنمية علاقات وثيقة مع بنغلاديش في عهد حسينة بسبب دور البلاد المتنامي بوصفها مركزًا عالميًّا للنسيج، وموقعها الجيو- إستراتيجي في خليج البنغال. وفيما يتعلق بالأمر الأخير، فهو المسؤول عن التنافس الشرس بين الصين والهند على النفوذ هناك كجزء من التنافس المتزايد بسرعة عبر منطقة آسيا والمحيطين الهادئ والهندي. وقد نجحت بنغلاديش حتى الآن في تحقيق التوازن بين هذه الدول الثلاث وروسيا جيدًا، ولكن كل شيء قد ينهار في حالة زعزعة استقرار البلاد.

خلال عام 2023، اتهمت الشيخة حسينة الولايات المتحدة بالسعي إلى تغيير النظام ضد حزب رابطة عوامي الحاكم، الذي تنافس تاريخيًّا على زعامة البلاد مع الحزب الوطني البنغلاديشي. وأضافت حسينة: “الأمريكيون قادرون على الإطاحة بحكومة أي دولة. وعلى وجه الخصوص، تمر الدول الإسلامية بظروف صعبة”، لا سيما أن واشنطن تضغط لإجبار جميع الدول إما على الوقوف إلى جانبها في الحرب الباردة الجديدة ضد الصين، وإما المخاطرة بأن تصبح الهدف التالي لحملات الضغط المتعددة الأبعاد. ولقد عادت بنغلاديش إلى رادار أمريكا بسبب التنافس الصيني الهندي المتفاقم، والصراع المستمر في ميانمار.

تزامن هذا مع تحذير المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، خلال مؤتمر صحفي، من أن الولايات المتحدة قد تؤجج ثورة ملونة في بنغلاديش. وكشفت أن السفير الأمريكي التقى مؤخرًا بعضو رفيع المستوى في المعارضة، ووعدهم “بالدعم الإعلامي” إذا اشتبكت جماعتهم مع الشرطة خلال أي احتجاجات مقبلة، وأشارت إلى أن بنغلاديش قد تشهد قريبا “ميدانها الأوروبي”. وسبق هذا دعوة للرئيس الصيني شي جين بينغ لدول آسيا إلى العمل معًا لمنع “القوى الخارجية” من الترويج لما أسماه “الثورات الملونة”، وعرض شي تدريب (2000) ضابط شرطة لإنشاء مركز إقليمي للتدريب على مكافحة الإرهاب، و”تعزيز بناء قدرات إنفاذ القانون” لدعم الجهود التي تبذلها كل دولة لحماية مصالحها الأمنية والتنموية، والعمل على منع “الغرباء” من إثارة ثورة ملونة.

وسبق انتخابات يناير (كانون الثاني) 2024 في بنغلاديش تدخل هندي مباشر من خلال القنوات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة لمنع واشنطن من الضغط على حزب رابطة عوامي الحاكم، بعدما علمت نيودلهي برغبة واشنطن في تقليص مساحة المناورة المتاحة لرئيسة الوزراء الشيخة حسينة، وتشجيع المعارضين السياسيين، وخاصة الجماعات الإسلامية الأصولية، وقد أعلنت إدارة جو بايدن مجموعات عقوبات للحد مما سمّته “التراجع الديمقراطي” في بنغلاديش. بالإضافة إلى التهديد بفرض عقوبات على تأشيرات الدخول ضد أي شخص يشارك في تزوير الانتخابات، فرضت وزارة الخارجية الأمريكية عقوبات على عدد من المسؤولين العاملين والمتقاعدين في كتيبة التدخل السريع (RAB)، وهي قوة شبه عسكرية اتُّهمت بمساعدة حزب الشيخة حسينة، رابطة عوامي، في الفوز بالانتخابات الماضية. اتُّهمت الشيخة حسينة، رئيسة الوزراء منذ عام 2009، بالتلاعب بالانتخابات، وترهيب المعارضين السياسيين لتمهيد الطريق لسلطتها التي لا جدال فيها، وانتصاراتها المتتالية التي جعلتها الزعيمة الأطول حُكمًا للبلاد.

لن تنظر الصين فقط بقلق إلى ما يحدث في بنغلاديش، ولكن الهند أيضًا، لا سيما أن حكومة الشيخة حسينة هي أقرب شريك موثوق به لنيودلهي في منطقة تعج بالمشاعر المعادية، والولاءات المتغيرة. على مدى عقد من الزمان، نجح رئيس الوزراء ناريندرا مودي والشيخة حسينة في بناء علاقة قوية قائمة على الثقة، وهو ما خدم مصالح البلدين والمنطقة على نحو جيد. ولقد نجحت الشيخة حسينة في التعامل بذكاء مع المشاعر المعادية للمسلمين من جانب زعماء حزب بهاراتيا جاناتا، التي كانت موجهة في كثير من الأحيان إلى بنغلاديش؛ ما ضمن بقاء العلاقات الثنائية قوية.

اضطلعت الهند بدور محوري في حرب التحرير التي أدت إلى إنشاء بنغلاديش عام 1971، ولكن على مدار العقود، تلاشى كثير من هذا اللمعان في العلاقات الثنائية، وشجعت سلسلة من الأنظمة في بنغلاديش- بنشاط- القوى المناهضة للهند على استخدام الأراضي البنغلاديشية لشن حربها على نيودلهي، لكن بعد وصول الشيخة حسينة إلى السلطة، استقرت العلاقة، وطردت العناصر المناهضة للهند من البلاد.؛ لذا تخشى نيودلهي ودكا أن تؤدي التحركات الأخيرة لإدارة بايدن ضد بنغلاديش إلى تعريض العلاقة للخطر.

وعلى الصعيد الجيوسياسي، رفضت الشيخة حسينة الانحياز إلى أي طرف في الصراع الدائر على السلطة بين القوى الرائدة للسيطرة على المحيط الهندي- تقع بنغلاديش على قمة خليج البنغال، وهو جزء من المحيط الهندي- وهي منطقة عبور مهمة يمر عبرها ما يقدر بنحو (80 %) من التجارة البحرية العالمية. وتدعو سياسة بنغلاديش في منطقة المحيطين الهندي والهادئ إلى إنشاء “أنظمة متعددة الأطراف قائمة على القواعد” لتعزيز “التنمية العادلة والمستدامة”، مع الحفاظ على مسافة متساوية من الولايات المتحدة والصين. ولكن في السنوات الأخيرة، برزت بنغلاديش ساحةَ معركة بين الهند والصين، حيث تسعى كل منهما إلى ترسيخ نفوذها في البلاد. كما أدت التوترات السائدة على خط السيطرة الفعلية إلى ترسيخ مواقفهما ترسيخًا أكبر. وقد أدى تدخل الولايات المتحدة لتأكيد نفسها إلى تعقيد هذا الوضع تعقيدًا أكبر، حيث ألقت المنافسة بين الولايات المتحدة والصين بظلالها الطويلة على بنغلاديش.

لقد سمح التوتر في العلاقات بين بنغلاديش والولايات المتحدة للصين بالاقتراب من الشيخة حسينة، لكن الوضع الناشئ بين دكا- بكين يُنظر إليه على أنه ضربة مزدوجة للهند، فقد أدى تقارب نيودلهي المتزايد مع الولايات المتحدة إلى زيادة التوقعات بأنها ستتدخل لدى إدارة بايدن نيابة عن الشيخة حسينة. كما أن قرار الصين الوقوف إلى جانب دكا جعل من الضروري الآن أن تستخدم نيودلهي نفوذها لدى واشنطن لإنقاذ الشيخة حسينة. وإذا فشلت الولايات المتحدة في الاستجابة، فسوف تكون الخسارة من نصيب الهند.

وتخشى الهند أن تواجه نظامًا معاديًا في بنغلاديش إذا ما ذهبت الشيخة حسينة عن السلطة، ولكن الصين حافظت على علاقات وثيقة مع الحزب الوطني البنغلاديشي، الذي تربط قيادته علاقات وثيقة أيضًا بباكستان؛ ومن ثم فإن فرص تعرض مصالح الصين في بنغلاديش للخطر ضئيلة إذا ما وصل الحزب الوطني البنغلاديشي إلى السلطة. وقد تزايدت البصمة الاقتصادية للصين في بنغلاديش منذ عام 2013، وخاصة بعد زيارة الرئيس شي جين بينج للبلاد في عام 2016. ومنذ انضمامها إلى مبادرة الحزام والطريق الصينية، حصلت بنغلاديش على أكثر من (38) مليار دولار من الاستثمارات من الصين. كما تعد الصين أكبر شريك تجاري لها، حيث تبلغ قيمة التجارة الثنائية بين الصين وبنغلاديش حاليًا (25) مليار دولار. وبالمقارنة، تبلغ تجارة بنغلاديش مع الولايات المتحدة نحو (10) مليارات دولار، ومع الهند نحو (18) مليار دولار.

بيد أن الركيزة الأساسية للعلاقات الثنائية بين الصين وبنغلاديش تقوم على الشراكة الدفاعية. وقد بدأت هذه الشراكة في ثمانينيات القرن العشرين، ونمت نموًّا كبيرًا في السنوات اللاحقة. واليوم، تشكل الصين (72 %) من إمدادات الدفاع في بنغلاديش. كما تعد دكا ثاني أكبر وجهة لصادرات الأسلحة الصينية بعد باكستان. إن الوجود الصيني المتزايد في قطاع الدفاع في بنغلاديش يشكل سببًا رئيسًا للقلق للولايات المتحدة والهند. وقد افتتحت الشيخة حسينة أول قاعدة للغواصات في بنغلاديش، بيكوا، بالقرب من قناة كوتوبديا في خليج البنغال، بتكلفة 1.21 مليار دولار، وسوف تكون مقرًا لغواصتين صينيتين مجددتين اشترتهما بنغلاديش عام (2016). ومع أن الخبراء الصينيين سوف يدربون أفرادًا من بنغلاديش على تشغيل القاعدة والغواصات، فقد حرصت دكا على توضيح أن القاعدة ليست مخصصة لاستخدام البحرية الصينية. ومنذ عام 2010، اشترت دكا أسلحة بقيمة (2.37) مليار دولار من الصين، ولكنها اشترت أسلحة بقيمة (123) مليون دولار فقط من الولايات المتحدة.

وتحرص الولايات المتحدة على تطوير علاقات دفاعية أقوى مع بنغلاديش بسبب موقعها الجغرافي، وقد زودت دكا بفرقاطات وطائرات نقل عسكرية. وتريد الولايات المتحدة من الحكومة أن توقع اتفاقيتين أساسيتين- اتفاقية الأمن العام للأسلحة، واتفاقية الاستحواذ والخدمات المتبادلة- من شأنهما أن تعززا التعاون الدفاعي المتبادل. ومع ذلك، ماطلت الشيخة حسينة ولم تُبدِ رغبة في صياغة علاقات دفاعية أقوى، وتوسيع فرص التجارة المتعلقة بالدفاع وتبادل المعلومات، والتعاون العسكري مع الولايات المتحدة؛ ما دفع واشنطن إلى ترويج أن استبداد الشيخة حسينة جعل بنغلاديش أكثر عرضة لتدخلات الصين المتواصلة في البلاد، وتعتقد الإدارة الأمريكية أن الحزب الوطني البنغلاديشي سيكون قادرًا على احتواء النفوذ الصيني. والفكرة ليست تقليص وجود بكين بالكامل؛ بل الحد منه، لكن لا توجد ضمانات إذا غادرت الشيخة حسينة السلطة أن تُحقق بنغلاديش استقرارًا سياسيًّا واقتصاديًّا، وربما تتحول مرة أخرى إلى مرتع للقوى الإرهابية والأصولية، وسوف يشكل رحيل رابطة عوامي مصدر قلق ليس فقط للهند، بل للمنطقة بأسرها، إذا ما أدى إلى موجة أخرى من الاضطرابات والعنف في جنوب آسيا.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع