
في العاشر من ديسمبر (كانون الأول)، وافق مجلس النواب الأمريكي على مشروع قانون دفاعي ضخم يُعرف باسم “قانون تفويض الدفاع الوطني”، يجيز إنفاقًا عسكريًا سنويًا قياسيًا بقيمة 901 مليار دولار. ويتضمن القانون أيضًا إلغاء “قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا” لعام 2019، في إشارة إلى تحول كبير في السياسة الأمريكية تجاه سوريا؛ ما أثار موجة واسعة من الترقب في الأوساط السياسية والاقتصادية السورية.
إن إلغاء قانون قيصر -الذي يُعد من أشد الإجراءات التي فُرضت على السوريين سنوات طويلة- أثار تفاؤلًا ملحوظًا في سوريا، إذ كبّل هذا القانون التعافي الاقتصادي، وقيّد الانخراط الدولي فترة طويلة. ويحمل الإلغاء تداعيات بعيدة المدى على مستقبل إعادة الإعمار في سوريا، وبيئة الاستثمار، وإعادة الاندماج في الاقتصاد العالمي.
كان قانون قيصر من أكثر الإجراءات تأثيرًا التي فرضتها واشنطن على النظام السوري السابق وحلفائه، ولا سيما بسبب عقوباته الثانوية التي سمحت للولايات المتحدة بمعاقبة الأفراد والمؤسسات الأجنبية التي تتعامل مع جهات سورية خاضعة أصلًا للعقوبات الأمريكية.
في مايو (أيار)، وخلال اجتماع في المملكة العربية السعودية مع الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترمب نيته رفع جميع العقوبات المفروضة على سوريا. ومع أن إدارته علّقت مؤقتًا بعض القيود، فإن الإلغاء الدائم لقانون قيصر كان يتطلب تشريعًا من الكونغرس.
ومن المتوقع أن يحظى قانون تفويض الدفاع الوطني بالموافقة النهائية قبل نهاية العام عقب تصويت مجلس الشيوخ الأمريكي، على أن يوقعه الرئيس ترمب ليصبح قانونًا نافذًا. وبالتوازي، قُدّم إلى الكونغرس في نوفمبر (تشرين الثاني) 2025 مشروع قانون آخر يقترح إلغاء “قانون محاسبة سوريا واستعادة سيادة لبنان” لعام 2003، و”قانون حقوق الإنسان السوري” لعام 2012، ومن المتوقع مناقشتهما مطلع العام المقبل.
تقدّم مجلس النواب مؤخرًا بتصويت حاسم لإلغاء قانون قيصر، في خطوة مفصلية طال انتظارها لإزالة أحد أكبر العوائق أمام إنعاش الاقتصاد السوري. ويؤكد خبراء أن هذا الإلغاء يضع الأساس للتعافي الاقتصادي، ويفتح الباب أمام مرحلة جديدة من إعادة الإعمار.
يجيز “قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا” لعام 2019 فرض عقوبات على أي حكومة أو كيان خاص يقدّم دعمًا للنظام السوري السابق، أو للجهات المرتبطة به، أو يسهم في إعادة إعمار سوريا.
ويمنح القانون الرئيس الأمريكي صلاحية فرض عقوبات على أي شركة أو فرد يستثمر في قطاعات الطاقة، أو الطيران، أو البناء، أو الهندسة في سوريا، وكذلك على الجهات التي تقدّم قروضًا للنظام السابق (المادة 102).
كما فتح الباب لاستهداف مصرف سوريا المركزي، رهنًا بتقرير من وزارة الخزانة الأمريكية يحدد ما إذا كانت هناك “أسباب معقولة” للاعتقاد بأن المصرف متورط أساسًا في عمليات غسل أموال (المادة 101). وفي ديسمبر (كانون الأول) 2020، صنّف مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأمريكية مصرف سوريا المركزي رسميًا، مع أنه كان عمليًا مقيدًا بموجب الأمر التنفيذي رقم 13582.
كانت عقوبات قانون قيصر هي الأشد التي واجهتها سوريا؛ إذ منعت المصارف السورية من التعامل مع المؤسسات المالية الدولية، وعطلت عمليات الاستيراد والتصدير، وفرضت قيودًا واسعة على النشاط الاقتصادي المرتبط بسوريا.
لطالما شدد خبراء وناشطون على أن السوريين العاديين كانوا الأكثر تضررًا، إذ حدّت العقوبات من الوصول إلى السلع الأساسية، وردعت كبرى الشركات الدولية عن دخول السوق السورية. ويُعد رفع القانون نقطة تحول حاسمة، ويوفر الأساس الاقتصادي لإعادة الإعمار، وعودة الشركات العالمية.
وصف مسؤولون سوريون وخبراء اقتصاديون موافقة مجلس النواب على الإلغاء بأنها محطة رئيسة على طريق التعافي الاقتصادي وإعادة الاندماج في النظام المالي العالمي.
وأشار اقتصاديون إلى أن آثار إلغاء قانون قيصر يُتوقع أن تصبح ملموسة على المدى المتوسط، لتنعكس على مستويات الدخل، وأسعار الصرف، والتجارة، وظروف المعيشة عمومًا.
وعقب الإعلان، ارتفعت قيمة الليرة السورية بنحو 6 في المئة مقابل الدولار الأمريكي، في مؤشر على التفاؤل في أسواق العملات. ويتوقع خبراء انخفاضًا متوازيًا في أسعار السلع الأساسية؛ ما قد يحفّز النشاط التجاري.
شدد باحثون اقتصاديون على أن العوامل النفسية سترجح كفتها على التحسن الهيكلي الفعلي في المدى القصير. ووصف بعضهم الإلغاء بأنه إشارة سياسية أكثر منه تحولًا اقتصاديًا فوريًا.
وقد يؤدي تراجع الخوف المرتبط بالعقوبات إلى تقليص طلب الأفراد والمؤسسات على العملات الأجنبية؛ ما يسهم في مكاسب قصيرة الأجل لسعر الصرف. غير أن هذا التفاؤل يبقى مؤقتًا، لكونه غير مدعوم بعد بزيادة الإنتاج، أو تحسن الأسس الاقتصادية.
يمكن لإلغاء قانون قيصر أن يفتح الباب أمام استثمارات واسعة النطاق من دول الخليج والولايات المتحدة وأوروبا والصين. وكانت شركات النفط والغاز العالمية والمؤسسات الخليجية الكبرى قد أحجمت سابقًا عن دخول سوريا بسبب العقوبات، لكنها قد تعود الآن بقوة.
ويشير خبراء الطاقة إلى توقعات بإحراز تقدم في إعادة بناء البنية التحتية، وتوسيع عمليات استكشاف النفط والغاز في شرق المتوسط والمناطق الداخلية السورية فور رفع القيود.
كما يتوقع خبراء اقتصاديون زيادة في الواردات تعزز المنافسة، وتخلق فائضًا في العرض، وتخفض أسعار بعض السلع الاستهلاكية، إلى جانب نمو الصادرات والمعاملات المالية، وفرص العمل.
سيسمح رفع العقوبات للمؤسسات المالية السورية بإعادة الاتصال بالأنظمة المصرفية الدولية مثل “سويفت”، واستعادة المعاملات العابرة للحدود، كما يمكن لشركات الدفع الدولية، مثل “فيزا”، استئناف عملياتها في سوريا.
ويؤكد خبراء الاقتصاد والمصارف أن إعادة ربط المصارف السورية بالشبكات المالية العالمية ستسهّل عمليات الاستيراد والتصدير وتدفقات رأس المال. غير أن ذلك يتطلب من المصارف السورية تحديث أنظمتها الداخلية، وتعزيز الشفافية، والالتزام بالمعايير الدولية لمكافحة غسل الأموال، وتمويل الإرهاب.
ويتفق الخبراء على أن من أبرز فوائد إلغاء قانون قيصر خفض تكاليف التأمين والامتثال، والمخاطر القانونية التي كانت تثني الشركات عن العمل في سوريا. وقد يشجع ذلك على تنفيذ مشروعات متوسطة الحجم في مجالات الطاقة المتجددة، والخدمات، والبنية التحتية الخفيفة.
من المرجح أن تتجلى آثار رفع العقوبات خلال فترة تتراوح بين عام وعامين، عن طريق تحسن القدرة الشرائية، واستقرار سعر الصرف، وتراجع التضخم. ويمكن لمشروعات إعادة الإعمار والاستثمارات الجديدة أن توفر آلاف فرص العمل في قطاعات البناء والصناعة والخدمات.
ويُعد إلغاء قانون قيصر محطة مفصلية في التاريخ الاقتصادي لسوريا، إذ يضع الأساس لإعادة إعمار شاملة، وإعادة بناء مؤسسات الدولة والمجتمع.
عمل الرئيس الأمريكي دونالد ترمب -على نحو وثيق- مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، للضغط على الكونغرس من أجل إلغاء العقوبات، مقدمًا الخطوة بوصفها ضرورة اقتصادية وإنسانية في آن واحد.
يمثل رفع قانون قيصر بارقة أمل للسوريين، واعدًا باستثمارات متجددة، وخلق فرص عمل، وارتفاع الأجور، ووضع حد لعقود من العزلة الاقتصادية. ورغم استمرار التحديات، فإن الإلغاء يشكل بداية لعملية تدريجية، لكنها قد تكون تحولية، لإعادة اندماج سوريا في المنظومتين الاقتصادية الإقليمية والعالمية.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير