يجسد الانقسام بين السنة والشيعة إحدى السمات المركزية التي تشكل الديناميكيات السياسية والدينية في الشرق الأوسط، وتؤدي المنافسة على الزعامة في العالم الإسلامي إلى تفاقم التوترات؛ إذ ترى تركيا نفسها القائد التاريخي للمسلمين السنة، في حين تروج إيران لأيديولوجيتها الشيعية، من خلال تدشين “هلال شيعي” يشمل العراق وسوريا ولبنان والحوثيين في اليمن، ولكن انهيار الاستثمار الإيراني الضخم في دعم نظام بشار الأسد العلوي في سوريا أسفر عن خلق معادلة جديدة في الشرق الأوسط، وإحياء الآمال بشأن عودة الإسلام السياسي في المنطقة.
فالآن نحن أمام محور سني جديد يتشكل على يد هيئة تحرير الشام، وتمتد آثاره إلى دول الشرق الأوسط بدعم مع تركيا، في مقابل المحور الشيعي الذي تقوده إيران في المنطقة. ولكي نفهم الإشكالات التي تفكك الصراع السني الشيعي، فمن الأهمية بمكان أن ندرس السياق التاريخي للعلاقات بين هاتين الطائفتين، وخريطة الصراع الحالي في بلدان الشرق الأوسط، وأخيرًا وضع مؤشرات لمستقبل الإسلام السياسي في المنطقة، ارتباطًا بالمتغيرات الإقليمية والدولية.
نشأ الإسلام السني والشيعي من انقسام بشأن الزعامة بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في القرن السابع الميلادي، ومع أن هذا الانقسام استمر قرونًا، فإنه لم يكن دائمًا مصدرًا للصراع العنيف؛ إذ تعايش السنة والشيعة بسلام نسبي في مجتمعات واحدة، وتقاسموا الممارسات الثقافية، وفي كثير من بلدان الشرق الأوسط، كانت الفوارق الدينية بين السنة والشيعة ثانوية مقارنة بهويات أخرى، مثل العرق، أو القبيلة، أو الطبقة، وعلى مر التاريخ، كان الحكام -سواء من السنة أو الشيعة- يحكمون في كثير من الأحيان مجموعات سكانية متنوعة، ولم تكن الطائفية المحرك الأساسي لسياسة الدولة.
لكن منذ قيام الثورة الإيرانية عام 1979، التي أسست جمهورية إيران الإسلامية تحت قيادة رجال الدين الشيعة، تحولت هذه الاختلافات الأيديولوجية إلى صراعات سياسية واسعة النطاق، حيث اعتُبر صعود إيران كقوة إقليمية تهديدًا للدول ذات الأغلبية السنية، خاصةً السعودية، وبدلًا من فهم الثورة في سياقها السياسي والأيديولوجي، بدأ تأطير النظام الإيراني الجديد بوصفه مركزًا لـ “الهلال الشيعي“، وهو ما وظفته قوى إقليمية مثل تركيا لتوسيع نفوذها؛ مما أدى إلى تأجيج الصراعات بين الطائفتين، حيث يتنافس كل جانب على الهيمنة على الدول الرئيسية في المنطقة، ثم أدى الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003 إلى تفاقم التوترات الطائفية في المنطقة؛ إذ أصبح العراق، وهو بلد ذو أغلبية شيعية، ولكن تاريخيًّا تحكمه النخب السنية، بؤرة للعنف الطائفي في أعقاب سقوط صدام حسين، وعمل الاحتلال الذي قادته الولايات المتحدة على تفكيك النظام البعثي، وتأسيس نظام سياسي جديد مكّن الفصائل السياسية الشيعية، ومع تدهور الوضع الأمني، تمردت الفصائل السنية على هذا الوضع، غير أن الدول الغربية روجت للصراع على أنه معركة بين السنة والشيعة، بدلًا من الاعتراف بدور التدخل الأجنبي في الانهيار الاقتصادي، وتدمير مؤسسات الدولة.
مهدت مزاعم شن حرب أمريكية على العراق بوصفها صراعًا طائفيًّا الطريق لمزيد من الانقسامات، فمن خلال تأطير الصراعات في الشرق الأوسط على أنها حروب دينية، استطاعت القوى الدولية التنصل من مسؤوليتها عن زعزعة استقرار المنطقة، في حين تنافست القوى الإقليمية، مثل السعودية وإيران وتركيا، على النفوذ، وأصبحت الطائفية أداة في صراع جيوسياسي أوسع نطاقًا، من خلال سياسات متعمدة من الجهات الفاعلة الإقليمية والخارجية، التي اضطلعت بدور جوهري في تأجيج تلك التوترات.
وعلى نحو مماثل في اليمن، صُوِّر الصراع على أنه جزء من الانقسام السني الشيعي الأوسع بين حركة الحوثيين -التي يغلب عليها الشيعة الزيديون، وتدعمها إيران بالسلاح- والحكومة السنية المدعومة من السعودية، وفي حين استخدم كلا الجانبين الخطاب الطائفي، فإن جذور الصراع اليمني أكثر تعقيدًا؛ ارتباطًا بالقوة السياسية، والاستقلال الإقليمي، والمظالم الاقتصادية، والتحالفات الخارجية، في حين يختلف الوضع في فلسطين ذات الأغلبية السنية، حيث يجد الفلسطينيون أنفسهم في كثير من الأحيان عالقين في خضم هذا الصراع، فرغم تلقي حركة حماس -الحركة الإسلامية المهيمنة في غزة- أسلحة ودعمًا دبلوماسيًّا من إيران، فإن حزب الله اللبناني امتنع عن الانضمام إلى هجومها على إسرائيل في السابع من أكتوبر 2023، فيما قدمت تركيا نفسها بوصفها حليفًا ثابتًا للفلسطينيين، وخاصة حركة حماس؛ من خلال انتقاد الرئيس التركي الدائم لسياسات إسرائيل، غير أن مشاركة تركيا كانت محدودة نسبيًّا مقارنة بانخراط إيران في الحرب.
فيما اعتُبرت الحرب الأهلية السورية، التي اندلعت في عام 2011، المثال الأبرز على استغلال الانقسام السني الشيعي في الصراعات، فمع أن الحرب بدأت بانتفاضة شعبية ضد النظام الاستبدادي لبشار الأسد، فإنها سرعان ما اكتسبت طابعًا طائفيًّا مع انخراط القوى الإقليمية؛ فقد دعمت إيران وحلفاؤها -خاصة حزب الله- نظام الأسد، الذي يهيمن عليه العلويون -الطائفة ذات الجذور الشيعية- حيث قدمت طهران مساعدات عسكرية ولوجستية ومالية للأسد وقواته الشيعية؛ لذا شكل انهيار نظام الأسد ضربة قاسية لإيران، حيث كانت سوريا تمثل جزءًا محوريًّا من الهلال الشيعي، وتوفر لها نفوذًا إقليميًّا، وبسقوط النظام البعثي فقد قُطع الجسر البري بين إيران وسوريا وحزب الله في لبنان.
وفي المقابل، قدمت دول ذات أغلبية سنية، مثل السعودية وتركيا وقطر، الدعم لفصائل المعارضة، ومعظمها من الجماعات السنية، وتحت قيادة رجب طيب أردوغان، نجحت أنقرة في ترسيخ مكانتها بوصفها قوة سنية رائدة. ومع أن العنصر الطائفي في الصراع السوري لا يمكن إنكاره، فإنه من المهم إدراك أن الحرب الأهلية لم تكن مجرد صراع ديني بين السنة والشيعة؛ بل إنها صراع متعدد الأوجه، مدفوع بمصالح جيوسياسية، وعوامل اقتصادية، وإرث استعماري، في صراع تتشابك فيه الأيديولوجية الدينية مع المصالح السياسية والاقتصادية.
تمثل سوريا منعطفًا حاسمًا للإسلام السياسي في الشرق الأوسط، لأن هناك قضايا رئيسة ستواجهه، مثل إدراج المسيحيين والعلويين والدروز والشركس والأكراد في خريطة البلاد الجديدة، وفي هذا السياق سيبرز العلويون الذين لم يُعترف بهم رسميًّا مسلمين حتى عام 1932، ولم تتحسن ظروفهم الاجتماعية إلا مع صعود حزب البعث في عام 1963، وخاصة بعد تولي حافظ الأسد السلطة في عام 1970، وتعيينهم في مناصب رئيسة في الجيش وأجهزة الاستخبارات ووزارات الدولة، ومن خلال القضاء على زعماء القبائل الذين تمردوا على سلطته، حوّل الأسد الطائفة العلوية إلى كتلة واحدة، واستخدم النظام العلويين لتنفيذ حملات القمع؛ لذا فإن عناصر القيادة السنية الجديدة في دمشق وأتباعها يحملون إرثًا من العداء الديني والاجتماعي تجاه العلويين عامةً؛ من ثم قد تواجه الطائفة خطر العقاب الجماعي، بما في ذلك حتى أولئك العلويون الذين عارضوا الأسد.
والأمر الأكثر أهمية هو أن التحول في سوريا قد يعيد تعريف الإسلام السياسي، ويشكل تهديدًا لدول مثل إسرائيل، والإمارات، ومصر، والأردن، فقد حاربت هذه الدول الإسلام السياسي مدة طويلة؛ ما يجعلها تشعر بقلق عميق إزاء احتمال عودته، خاصة أن سوريا لا يمكن إعادة بنائها بسهولة، ولا يمكن أن تشبه المشهد السياسي في تركيا بقيادة حزب العدالة والتنمية، وعلى الرغم من النفوذ المتزايد لأنقرة في سوريا، فإنها لن تتمكن من نقل تجربتها المعقدة إلى دمشق.
لذا فإن الجدل بشأن مستقبل الإسلام السياسي في سوريا سيؤثر في شكل الشرق الأوسط في السنوات المقبلة، خاصة بعد دخول دونالد ترمب البيت الأبيض؛ ما يمثل بداية حقبة جديدة في سياسة الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط؛ فعلى عكس سلفه جو بايدن، يطمح ترمب إلى اتباع نهج أكثر إيجابية تجاه إسرائيل، ودعم سياساتها الإقليمية، وفي مقدمتها توسيع اتفاقيات إبراهيم لتعميق العلاقات بين إسرائيل والدول العربية ذات التوجه السني، التي تتقاسم مصالح مشتركة فيما يتعلق بإيران وفصائلها الشيعية.
إحدى أكثر السرديات التي يروج لها حاليًا هي الحرب السنية الشيعية في منطقة الشرق الأوسط، وهذا يشير إلى أن الاضطرابات في المنطقة هي -في المقام الأول- نتيجة لصراع قديم ومستعصٍ بين أكبر طائفتين إسلاميتين، غير أن هذا السرد الاختزالي يحجب الأسباب الحقيقية لفوضى المنطقة، ويشوه شبكة معقدة من العوامل الجيوسياسية والاقتصادية والاجتماعية المؤثرة؛ فرواية الانقسام السني الشيعي استغلتها القوى الخارجية لتبرير السياسات التي أدت إلى زعزعة استقرار المنطقة.
ومن هذا يمكن القول إن الصراع السني الشيعي في الشرق الأوسط يتجاوز الدين، ويمثل صراعًا بين المصالح المتشابكة بين القوى الإقليمية والدولية في إطار الصراع على بسط النفوذ؛ ومن ثم فإن سوريا هي الساحة الحالية لاختبار مستقبل استقرار المنطقة، حيث إن مفتاح إنهاء العنف في الشرق الأوسط لا يكمن في استدامة السرديات بشأن الحرب الشيعية السنية؛ بل في معالجة المظالم المادية الحقيقية التي تعانيها شعوب المنطقة، وتفكيك تحالفاتهم الخارجية.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.