تقدير موقف

روسيا وأوكرانيا: صراع لا تدفعه الحاجة إلى الأرض

هل حقًا تحتاج روسيا إلى أراضٍ جديدة من أوكرانيا؟


  • 6 يونيو 2025

شارك الموضوع

تَهدف الحرب الروسية، في جوهرها، إلى تحويل أوكرانيا إلى فضاء روسي، حتى لو استدعى ذلك “استعادة” أراضيها لاحقًا، بصيغة يمكن التوافق عليها في المستقبل. فروسيا لا ترى أي قيمة استراتيجية حقيقية في الأراضي الأوكرانية بحد ذاتها؛ فهي لا تعاني من نقص في المساحة أو الموارد، كما لا تملك كثافة سكانية تكفي لإنشاء مستوطنات روسية تضمن استقرار هذه الأراضي وتبعيتها.

المسألة ليست جغرافية بقدر ما هي جيواستراتيجية؛ فأوكرانيا تمثل بوابة روسيا إلى أوروبا. وإذا أصبحت جزءًا من المنظومة الأوروبية الأطلسية، ستفقد روسيا ميزتها كدولة أوراسية، وتتحول تدريجيًا إلى دولة آسيوية أكثر منها أوروبية. وفي حال تعرضت روسيا لحالة ضعف ناتجة عن أي أزمة انتقال للسلطة، قد تدخل في فوضى داخلية—ولو مؤقتة—وتتحول أوكرانيا إلى منصة دعم لوجستي للحركات الانفصالية في شمال القوقاز وحوض الفولغا، وهو سيناريو تكرر مرارًا في التاريخ الروسي، وشكل الدافع الأساسي للقيصر إيفان الرهيب لغزو منطقة الفولغا، وللإمبراطور نيكولاي الأول لغزو القوقاز.

الخطر الحقيقي على وحدة الأراضي الروسية ينبع من الغرب، وتحديدًا من خاصرتها الرخوة: أوكرانيا وجورجيا. ولهذا، يُعتبر البلدان ركيزتين في استراتيجية الأمن القومي الروسي. فالناتو، منذ عام 2004، يحاصر روسيا من أوروبا الشرقية وبحر البلطيق، ولم تشعر روسيا بالتهديد نتيجة لذلك، وهو ما يختلف عن الحالتين المذكورتين. وإن تعذّر تحويل أوكرانيا وجورجيا إلى نموذج “بيلاروسي” تحكمه قيادات موالية لروسيا (Satellite)، فإن الحل المؤقت يكمن في اقتطاع أراضٍ لتحويلها إلى مناطق عازلة، كما حدث في جورجيا عبر السيطرة على أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، أو قطع الصلة بين أوكرانيا ومولدوفا عبر ترانسنيستريا، لمنع أي وحدة قومية بين مولدوفا ورومانيا.

ما يحدث الآن في شرق وجنوب أوكرانيا، من استحواذ على بحري آزوف والأسود، يدخل في هذا السياق. الرهان الروسي يقوم على ملل أوروبا من إطالة أمد الحرب والصراع، بينما تمتلك روسيا سلاح الصبر الاستراتيجي الطويل، وتُعوّل على تصدّع التحالف الأطلسي، ووصول قادة جدد إلى الحكم في جورجيا وأوكرانيا يمكن التفاهم معهم على استعادة وحدة أراضيهم، مقابل قبولهم بهيمنة المصالح الروسية في مناطق ترى موسكو أنها تابعة لها تاريخيًا، وهي من ساهمت في صنعها ونهضتها.

حينها، تُغلق معضلة الملف الأمني في الغرب، وتُفتح الطريق نحو أوروبا، مع احتكار طرق التجارة بين الصين وأوروبا، وهو ما يسمح بخلق موقف جيوسياسي وجيواقتصادي قوي، يعالج نقاط الضعف الروسية الاقتصادية والعسكرية، مقارنة بجاريها الأوروبي والصيني.

المرحلة التالية، بحسب هذا التصور، هي التوجه شرقًا؛ نحو الاستثمار في الشرق الأقصى، حيث يكمن مستقبل روسيا الاقتصادي، وتحويلها إلى قوة عظمى تملك الموارد والمعادن النادرة، وتفتح السوق أمام الاستثمارات الأوروبية، والأمريكية، والكورية الجنوبية، واليابانية. الهدف هو كبح التمدد الصيني، بحيث تصبح روسيا “سيدة اللعبة” بين الشرق والغرب، من موقع مستقل، لا تابع، وخارج هيمنة رأس المال الغربي أو الصيني.

هكذا تحقق روسيا امتيازها الكامل بوصفها قوة أوراسية، قلب العالم، ومركز تحديد ملامح السيطرة العالمية المقبلة.

هكذا يفكر بوتين. وتلك هي استراتيجيته التي يرى أن أي تضحيات—مهما بلغت—تظل بسيطة ومقبولة لتحقيق هذه الأهداف السامية، من وجهة نظره، إذا أردنا فهم دوافع ومبررات الحرب الحالية، بغض النظر عن نجاحه في تحقيقها من عدمه.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع