لأكثر من ثلاثين عامًا، كانت النزاعات الحدودية بين طاجيكستان وقرغيزستان وأوزبكستان مصدرًا للتوتر في آسيا الوسطى منذ تفكك الاتحاد السوفيتي. وعلى مدى عقود من الزمن، أدت عمليات ترسيم الحدود غير المحسومة إلى صراعات متفرقة، وخلافات دبلوماسية جلية، وفي هذا السياق، يدخل الصراع الحدودي بشأن وادي فرغانة بين البلدان الثلاثة في دائرة الصراعات الممتدة والمتجددة، التي يصعب الوصول فيها إلى تسوية شاملة.
لكن بينما كان العالم يراقب المحادثات الرامية إلى إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية التي دخلت عامها الرابع، كانت دول آسيا الوسطى تعمل بهدوء على وضع النزاع الحدودي الطويل الأمد، والدموي في بعض الأحيان، في طي الماضي، لترسم القمة الثلاثية بين زعماء قرغيزستان وطاجكستان وأوزبكستان في مدينة خوجاند الطاجيكية ملامح فصل جديد لمستقبل آسيا الوسطى، يحمل في أطوائه انتصارًا دبلوماسيًّا للدول المعنية من أجل تحقيق الاستقرار في المنطقة، في ظل الديناميكيات الإقليمية والعالمية المتغيرة.
تعد منطقة وادي فرغانة، حيث تلتقي حدود قرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان، محل خلاف حدودي تاريخي بين بلدان آسيا الوسطى منذ استقلالها عن الاتحاد السوفيتي، مدفوعًا بمطامع للاستيلاء على المياه؛ نظرًا إلى كونها منطقة خصبة تتمتع بظروف ممتازة للزراعة؛ لذا يشكل الوادي مُنتِجًا رئيسًا للقطن والقمح والحرير الخام والفواكه الطازجة والمجففة، وتحيط به جبال تيان شان المهيبة، ويتغذى على مياه نهري سيرداريا ونارين، التي تجعل أراضيه الخصبة موقعًا مثاليًّا للزراعة وتربية الحيوانات، في حين تتميز مدنه بتاريخها الغني، وتراثها المعماري، وتقع في شمال شرق الوادي، أنديجان التي تعد منذ القرن التاسع قبل الميلاد نقطة حيوية على طرق القوافل القديمة التي تربط الصين بآسيا الوسطى، وتتجلى هذه الأهمية التاريخية اليوم في دورها بوصفها جزءًا من طريق الحرير، حيث تعد مركزًا صناعيًّا رئيسًا.
كل ما سبق جعل منطقة وادي فرغانة الأكثر كثافة سكانية في آسيا الوسطى؛ مما يُؤدي إلى صراعات متكررة على الوصول إلى الأراضي الزراعية الثمينة، وموارد المياه، وحفّز حدة النزاع الحدودي أن المنطقة تزخر بتاريخ فريد من الجماعات العرقية واللغوية المتنوعة التي يعيش بعضها على مقربة من بعض، ومع فترات عدم الاستقرار، تكتسب الحدود التي ترسخت في التسعينيات أهمية جديدة، وتنشط العمليات الإرهابية، وتتنامى الفوضى. ومع أن المناوشات على الأراضي أو الموارد المائية في تلك المنطقة كانت متكررة فإن أكبر الصراعات العنيفة اندلعت في عامي 2021 و2022 عندما انخرطت قرغيزستان وطاجيكستان في اشتباكات مسلحة واسعة النطاق، وقد أدت هذه الاشتباكات إلى خسائر كبيرة، وتوترات سياسية واقتصادية بين الدول الثلاث.
على مدار العقود الماضية، سعت أوزبكستان وقرغيزستان وطاجيكستان إلى حل النزاعات المستمرة الناجمة عن حدود الحقبة السوفيتية في منطقة وادي فرغانة، وبدأت المفاوضات لتحديد نقطة التقاء ثلاثية بين بلدان آسيا الوسطى تتخذ منحى جادًّا منذ عام 2002، حيث وُقِّعَت معاهدة بشأن الحدود الأوزبكية الطاجيكية تغطي مسافة 1104 كيلومترات، ومع ذلك توقفت المفاوضات بشأن أجزاء معينة من الحدود الأوزبكية الطاجيكية بعد عام 2002، في حين أسفرت المناقشات مع قرغيزستان (2000- 2016) عن نتائج محدودة.
لكن بعد تولي الرئيس شوكت ميرضيائيف حكم أوزبكستان، حدث تحول كبير في الدبلوماسية الإقليمية مع إعطاء الأولوية للحوار المفتوح، وتعزيز الثقة مع الدول المجاورة، حيث تضمنت إستراتيجية تنمية أوزبكستان 2017- 2021 إضفاء الطابع الرسمي على القوانين المتعلقة بالحدود الدولية كهدف رئيس للبلاد؛ ونتيجة لهذا وقُعت معاهدة حدودية بين أوزبكستان وقرغيزستان عام 2017 تغطي 1170 كيلومترًا، تلتها اتفاقية إضافية في عام 2022، لإكمال ترسيم الحدود عبر 1476 كيلومترًا، في حين أدت المفاوضات المتجددة بين أوزبكستان وطاجيكستان في عام 2016 إلى حل 192.3 كيلومتر من الأقسام غير المحدودة، التي توجت بمعاهدة في 2018.
ولعل التقدم الأبرز في مسار المفاوضات الحدودية بين أوزبكستان وقرغيزستان وطاجيكستان بدأ منذ اتفاق قرغيزستان وأوزبكستان في عام 2023، وفي (ديسمبر كانون الأول) 2024، خلال اجتماع رفيع المستوى في سانت بطرسبورغ، تم التوصل إلى اتفاقيات لإتمام المفاوضات. وفي 8 يناير (كانون الثاني) المنصرم، اجتمع ممثلو الحكومات من الدول الثلاث عند تقاطع الحدود المقترح لتقييم اقتراح أوزبكستان بشأن لوحة الصداقة، الذي اعتُمِدَ بالإجماع، وهو ما أسفر عن توقيع معاهدة حدودية ثنائية في منتصف مارس (آذار) الماضي بين قرغيزستان وطاجيكستان، تضمنت اتفاقيات بشأن البنية التحتية للمياه والطاقة والنقل، وأعيد فتح معبرين حدوديين يربطان بين البلدين للمرة الأولى منذ ما يقرب من أربع سنوات، وتوجت الجهود السالفة الذكر بقمة ثلاثية تاريخية في مدينة خوجاند في نهاية الشهر نفسه، ليكمن حجم الإنجاز في حقيقة أن ما يقرب من نصف الحدود كان موضع نزاع قبل ثلاث سنوات فقط، مع وقوع أسوأ الاشتباكات بين قيرغيزستان وطاجيكستان في عامي 2021 و2022.
لطالما كانت آسيا الوسطى واحدة من أقل المناطق تكاملًا على مستوى العالم، وتفتقر إلى مؤسسة بقيادة إقليمية، وغالبًا ما كان التعاون الإقليمي مدفوعًا بقوى خارجية، مثل روسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين، بدلًا من المبادرات الداخلية؛ لذا مثلت الجهود الثلاثية لأوزبكستان وقرغيزستان وطاجيكستان في السنوات القليلة الماضية، إلى جانب زيادة المشاركة بين جميع دول آسيا الوسطى الخمس، تحولًا مهمًّا نحو التكامل الإقليمي، إذ تشير هذه الجهود إلى أن الإرادة السياسية الحقيقية، والتصميم على إنشاء منطقة أكثر استقرارًا وازدهارًا، قد بدأت ملامحهما تتجلى أخيرًا.
في 31 مارس (آذار) الماضي، استضافت مدينة خوجاند (لينين آباد سابقًا) في طاجيكستان قمة ثلاثية بحضور الرئيس شوكت ميرضيائيف رئيس أوزبكستان، والرئيس صدير جباروف رئيس قرغيزستان، والرئيس إمام علي رحمان رئيس طاجيكستان، وقد مثلت هذه القمة التاريخية تتويجًا لعملية ترسيم الحدود بين الدول الثلاث بعد عقود من النزاع، ما يمكن اعتباره علامة محورية في الجغرافيا السياسية في آسيا الوسطى.
ونجحت القمة في الاتفاق رسميًّا على النقطة الحدودية في وادي فرغانة، ولإحياء ذكرى هذا الإنجاز، اتفق الزعماء على تدشين “نصب الصداقة” عند نقطة التقاء حدود الدول الثلاث، بمنطقة فرغانة في أوزبكستان، ومنطقة باتكن في قيرغيزستان، ومنطقة إسفارا في طاجيكستان، كرمز لأواصر الصداقة الدائمة، وحسن الجوار والتفاهم المتبادل بين أوزبكستان وقرغيزستان وطاجيكستان، ورافقت أعمال القمة فعاليات ثقافية، أبرزت الحرف التقليدية، والمأكولات الوطنية، والأزياء الشعبية، وأقيم حفل موسيقي تضمن عروضًا لفنانين من الدول الثلاث احتفالًا بهذه المناسبة التاريخية.
وبناءً على هذا، قدم إعلان خوجاند، والاتفاقيات الإقليمية الأخرى، فرصًا لحل النزاعات الإقليمية الطويلة الأمد، وتعزيز التعاون الإقليمي، ومعالجة المظالم التاريخية ودالتي غذت عدم الاستقرار في تلك المنطقة عقودًا؛ من أجل التركيز على الهدف الأوسع المتمثل في التكامل الاقتصادي الإقليمي والبنيوي بين جمهوريات آسيا الوسطى، من خلال المشروعات الحيوية، وفي مقدمتها مشروع الطاقة “كاسا- 1000″، الذي يربط بين طاجيكستان وقرغيزستان وأفغانستان وباكستان، من أجل تعزيز التجارة والاستثمار عبر الحدود.
وبهذه القمة التاريخية، تجاوز زعماء جمهوريات آسيا الوسطى الرمزية الدبلوماسية من خلال إعلان التزامهم بتعزيز علاقات الجوار، والتعاون في مجموعة متنوعة من المجالات، من النقل إلى البنية التحتية والاستثمار التجاري، مؤكدين أن أهم شرط مسبق للتعاون والتواصل هو ضمان السلام المستدام، وتعزيز التكامل الإقليمي، وأن تُحل جميع القضايا بينهم من خلال الحوار السلمي.
تمثل الاتفاقيات السالفة الذكر بين دول آسيا الوسطى الثلاث نقطة تحول رئيسة في السياسة الإقليمية، إذ تكشف استعداد جمهوريات المنطقة المتزايد لتسوية نزاعاتها السابقة بمفردها، ويُظهر مجمع الصداقة الذي بُني عند المعبر الحدودي التزامًا بالتعاون الدائم والاحترام المتبادل لسيادة كل دولة، فمع تسوية الحدود نهائيًّا، يمكن أن تتوسع التجارة الإقليمية بين دول المنطقة، لا سيما مع تنامي حجم التجارة البينية بين تلك البلدان، حيث تجاوز حجم التجارة بين قرغيزستان وأوزبكستان مليار دولار، في حين بلغ حجم التجارة بين طاجيكستان وأوزبكستان 500 مليون دولار، في حين تطمح قرغيزستان وطاجيكستان إلى زيادة حجم التجارة بينهما إلى 500 مليون دولار بحلول عام 2030.
وفي نهاية العام الماضي، بدأ العمل على خط سكك حديدية يربط الصين بأوزبكستان عبر قرغيزستان، سيُحسن تدفق البضائع بين الدول الثلاث، ويربط -في نهاية المطاف- الصين وقرغيزستان بجنوب آسيا، فيما بدأت أوزبكستان مؤخرًا العمل على إنشاء خطوط سكك حديدية جديدة مع أفغانستان، ومنها إلى باكستان وموانيها على بحر العرب. وعلى الرغم من هذه التطورات الإيجابية، فإن رياحها المعاكسة تظهر في عدة تحديات، في مقدمتها:
المعارضة الشعبية: يتباين الانطباع العام عن الاتفاقيات الحدودية الأخيرة بين البلدان الثلاثة ارتباطًا بمخاوف الشعوب بشأن التنازلات الإقليمية وإدارة الموارد، ما يرجح مواجهة تلك الاتفاقيات مقاومة من السكان المحليين، لا سيما في المناطق التي لا تزال تعاني مظالم تاريخية، وإذا تصاعدت المعارضة فقد تُقوض جهود التنفيذ.
النزاع على موارد المياه: لا تزال ندرة المياه في آسيا الوسطى تُمثل مشكلةً حرجةً، لا سيما في وادي فرغانة، حيث تسيطر طاجيكستان وقرغيزستان على موارد المنبع، في حين تعتمد أوزبكستان على الوصول إلى المصب؛ ومن ثم فقد تُؤجج النزاعات التاريخية بشأن الحقوق المائية التوترات بين البلدان الثلاثة، وتُهدد تنفيذ مبادئ إعلان خوجاند.
تصاعد حدة التنافس الخارجي: قد تسعى القوى الإقليمية والدولية الطامعة في ثروات المنطقة، مثل الصين وروسيا والولايات المتحدة، وكذلك تركيا وإيران والاتحاد الأوروبي ودول الخليج، إلى التأثير في الاتفاقيات الحدودية بين بلدان آسيا الوسطى الثلاثة لتحقيق مكاسب إستراتيجية؛ ما يدفعها إلى ممارسة ضغوط سياسية أو اقتصادية أو عسكرية على الجمهوريات الخمس لحماية مصالحها في تلك المنطقة، وهو ما قد يُعقد عملية صنع القرار الإقليمي، وتنفيذ التزامات دول آسيا الوسطى ببنود تلك المعاهدات على أرض الواقع.
البيئة الأمنية المضطربة: تعاني المناطق الحدودية بين دول آسيا الوسطى، وخاصة في وادي فرغانة، تهديدات أمنية كثيرة؛ بسبب تنامي التطرف والعمليات الإرهابية، والجريمة المنظمة، والتهريب عبر الحدود، ويؤدي ضعف الحوكمة والتفاوتات الاقتصادية إلى تفاقم تلك الأخطار الأمنية.
تحديات التنفيذ: رغم توقيع الأطراف الثلاثة على اتفاقيات تضمن حدودهم ومصالحهم في المنطقة المتنازع عليها تاريخيًّا، فإن التنفيذ العملي لبنود تلك الاتفاقيات يتطلب إرادة سياسية، وتنسيقًا مستمرًا، إذ يعتمد التأثير الطويل الأمد لهذه الاتفاقيات على التنفيذ الفعال، والتعاون الاقتصادي، والالتزام السياسي المستدام؛ لأن أي انتكاسات قد تُشعل فتيل التوترات الإقليمية من جديد.
يُشكل حل أحد أكثر النزاعات الإقليمية تعقيدًا في منطقة آسيا الوسطى بداية حقبة جديدة من التعاون والاستقرار بين طاجيكستان وقرغيزستان وأوزبكستان، ويُجسد إعلان خوجاند -إلى جانب المعبر الحدودي المتفق عليه- إنجازًا تاريخيًّا في دبلوماسية آسيا الوسطى، يهدف إلى تعزيز العلاقات السياسية، وآفاق التكامل الاقتصادي. ورغم ذلك، لا تزال هناك تحديات قائمة ترتبط بقضايا الأمن عبر الحدود، مثل الاتجار بالبشر، ونشاط الجماعات الإرهابية، والهجرة غير النظامية، فضلًا عن قضايا تغير المناخ، والأضرار البيئية، وإدارة موارد المياه؛ ومن ثم يُعد الاتفاق الأخير في قمة خاجند على ترسيم الحدود المتنازع عليها منذ عقود، خطوة جوهرية في مسار تعزيز الأمن الإقليمي في آسيا الوسطى، لكنها تتطلب في المقابل صياغة سياسة حذرة لضمان تنفيذ تلك الوعود، ومنع تجدد التوترات، ومن هذا يمكن القول إن مستقبل آسيا الوسطى يتوقف على مدى قدرة حكومات آسيا الوسطى الثلاث على تنفيذ اتفاقيات الحدود، وفعالية المشروعات الاقتصادية، واستدامة آليات حل النزاعات. ومع أن الجهود الدبلوماسية لدول آسيا الوسطى تهدف إلى ضمان الأمن والاستقرار الإقليميين، فإن القوى الخارجية ستواصل التأثير في المنطقة، مستغلةً ليس فقط الصراع؛ بل قد توظف السلام المنتظر لتحقيق أهدافها.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.