الولايات المتحدة على حافة “الحرب الأهلية الثانية”، هذا هو رأى المفكر الكندي الكبير “ستيفن مارش”، الذي عاش غالبية حياته في الولايات المتحدة، وكتب كتابه الشهير “الحرب الأهلية الأمريكية التالية”، عام 2022.
ومع أن مارش انطلق في رؤيته للحرب الأهلية الأمريكية الجديدة من الشعور بالمرارة الشديدة لدى أنصار الرئيس السابق دونالد ترمب بسرقة الانتخابات الرئاسية الأمريكية في 5 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2020، وما جاء بعد هذه الانتخابات من انقسام سياسي غير مسبوق في صفوف الأمريكيين، فإن المشهد الأمريكي خلال الأيام والشهور المقبلة يقول إن خلفاء جورج واشنطن، وتوماس جيفرسون، وبنجامين فرانكلين، يستحيل عليهم المحافظة على “وديعة الاتحاد” التي تركها لهم الآباء، في ظل ما يجري من صراع يبدو في عنوانه “انتخابيًّا”، لكنه في حقيقته صراع سياسي واقتصادي وثقافي، وها هي الولايات المتحدة تعاني من “تشظٍ” حاد، حيث يعاني نحو 350 مليون أمريكي تفاوتًا اقتصاديًّا غير مسبوق في بلد بلغ ناتجه القومي العام الماضي نحو 27 تريليون دولار، وهو ما يجعلها الدولة ذات الاقتصاد الأكبر في العالم على مدار نحو 154 عامًا، عندما أصبحت أكبر اقتصاد عالمي عام 1870. وفي الوقت الحالي، يرفع الجميع “الحسابات الصفرية” التي تريد إلغاء الآخر وإقصاءه من الوجود، فالرئيس جو بايدن، وأنصاره الديمقراطيون، يصورون المرشح الجمهوري دونالد ترمب وأنصاره بأنهم “الخطر الأكبر” على الأمة والديمقراطية الأمريكية، وأن الولايات المتحدة سوف تكون أفضل حالًا لو اختفى ترمب ونحو 75 مليون ناخب أيدوه في انتخابات عام 2020، في حين لا يرى الجمهوريون في منافسيهم الديمقراطيين إلا أنهم دعاة للمثلية الجنسية، والانحلال الأخلاقي، وأنهم “بيدق لإضعاف” الولايات المتحدة في الداخل والخارج.
ليس هذا فقط، فقد تحول التنافس والسجال السياسي الأمريكي إلى دعوات “للحفاظ على الذات” ضد محاولات الإلغاء والتهميش من الآخر، فالجهوريون، وخاصة “البيض”، يقولون: “علينا أن نشتري السلاح والذخيرة من الآن للدفاع عن مصالحنا وهويتنا”، وينظرون إلى كل مهاجر لاتيني، أو إفريقي، أو حتى آسيوى وشرق أوسطي، على أنه يهدد “الأمة” التي كانت بيضاء بعد أن بدأ الملونيون من جميع العرقيات يستحوذون على المال والسلطة، ليس فقط في الولايات الجنوبية؛ بل حتى في الشمال الشرقي، والشمال الغربي، وعلى المستوى الوطني، كما هي الحال عندما فاز باراك حسين أوباما ذو الأصول الإفريقية، وكما هي الحال الآن في تولي امرأة من أصول آسيوية (كامالا هاريس) منصب نائب الرئيس.
الشعور بالاستهداف، وضياع الهوية، ليس فقط لدى البيض الذين ينظرون إلى دونالد ترمب على أنه “الفرصة الأخيرة” للحفاظ على مكتسباتهم التي حصلوا عليها منذ الرعيل الأول للبيض الذي جاء إلى أمريكا قبل نحو 500 عام، بل هناك شعور بالازدراء لدى الجميع؛ فالسود وحركة “حياة السود مهمة” ترى الجمهوريين المحافظين بقيادة ترمب “تهديدًا وجوديًّا” لهم، وأن بايدن يجب أن يفوز مهما كانت التكلفة، وهي تكلفة يقول أنصار ترمب- على الجانب الآخر- أنهم مستعدون لحمل السلاح والتضحية بالنفس حتى لا تُسرق الانتخابات من جديد في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.
الشعور نفسه يتعلق بالأقليات الأخرى، مثل الآسيويين الذي تعرضوا في العامين الماضيين لأعلى معدلات الاستهداف والقتل، وزاد معدل استهداف الآسيويين وقتلهم إلى نحو 300 % في عام 2023، وسبق لهذا المعدل أن زاد بنسبة 570 % عام 2022 عن عام 2021، وهو ما يعني أن هناك 6 من كل 10 آسيويين يتعرضون للمضايقة والكراهية التي قد تصل إلى القتل في كثير من الأحيان، فهل الولايات المتحدة مقبلة على “حرب أهلية جديدة”؟ وما المحفزات التي تسرع بنشوب تلك الحرب في بلد يملك أقوى جيوش الأرض، وينفق عليه سنويًّا نحو 886 مليار دولار؟ وما أوجه التشابه بين ما تمر به الآن الولايات المتحدة الأمريكية، والظروف التي قادت إلى الحرب الأهلية الأولى في منتصف القرن التاسع عشر؟
التنافس السياسي الحاد، والخلافات التي لا تنتهي بين النخب السياسية، هي أبرز العناصر المشتركة بين ما يجري اليوم، وما جرى ليلة الحرب الأهلية الأمريكية الأولى، التي اندلعت في 12 أبريل (نيسان) 1861، واستمرت حتى 22 يونيو (حزيران) 1865، وقتل فيها من 650 إلى 750 ألف قتيل، وهو أكبر من كل القتلى الأمريكيين في كل من الحربين العالميتين الأولى والثانية. وكان السبب الرئيس للحرب الأهلية الأمريكية يكمن في رغبة الولايات الجنوبية (الكونفيدرالية) في الإبقاء على العبودية، في حين كانت الولايات الشمالية، بقيادة الرئيس أبراهام لينكولن، مع إلغاء العبودية، وهو سجال يتشابه مع السجال الأمريكي الحالي بشأن حق المواطنين في شراء السلاح وامتلاكه، وإغلاق الحدود الأمريكية المكسيكية أو فتحها، وتقسيم الدوائر الانتخابية، وعجز مجلس النواب عن اتخاذ قرار بشأن إرسال مزيد من السلاح والذخيرة إلى أوكرانيا، وإسرائيل، وتايوان. ونتيجة لهذا الصراع، بات هناك “اصطفاف” جمهوري ضد “الاصطفاف الديمقراطي”؛ فكما اصطفت 13 ولاية جنوبية ضد الشمال في الحرب الأهلية الأولى عام 1861، ها هو ترمب يطالب 25 ولاية يحكمها جمهوريون بدعم ولاية تكساس الجمهورية للحفاظ على الحدود مع المكسيك، وعدم الانصياع للقوات الفيدرالية الأمريكية، وهو أمر هدد باندلاع حرب حقيقية بين قوات ولاية تكساس والقوات الفيدرالية، وكل هذا لا ينفصل عن “المشاهد الخطيرة” الأخرى التي يتظاهر فيها أنصار ترمب أمام المحاكم؛ رفضًا لمحاكمته، ووصف هذه المحاكمات بأنها سياسية، وهي مشاعر من السهل أن تتحول إلى سلوك عنيف، كما حدث من أحد أنصار ترمب الذي حاول قتل رئيسة مجلس النواب الأمريكي السابقة نانسي بيلوسي، وعندما لم يجدها حاول قتل زوجها بول بيلوسي.
هناك سلسلة من المؤشرات والمحفزات التي يمكن أن تعجل وتسرّع نشوب الحرب الأهلية الأمريكية الثانية، وأبرز تلك المحفزات هي:
أولًا: انفلات السلاح
ففي الولايات المتحدة أكبر ترسانة من الأسلحة الشخصية، التي تصل إلى نحو 400 مليون قطعة سلاح، وأكثر من 5 تريليونات قطعة ذخيرة، وهو ما يجعل الولايات المتحدة أعلى دولة في العالم في انتشار السلاح بين المواطنين، وهذا الأمر تسبب في وقوع مآسٍ بحق المدنيين، حيث شهد عام 2022 زيادة غير مسبوقة في قتل المواطنين الأمريكيين، إذ ينص الدستور الأمريكي على حق كل أمريكي في شراء السلاح وتملُّكه، ويزيد مأسوية المشهد أن كل السلاح الذي لدى الأمريكيين ليس كله من نوعية الأسلحة الفردية البسيطة؛ فوفق آخر دراسة لنقابة بائعي الأسلحة في الولايات المتحدة، فإن الأسلحة الآلية ونصف الآلية، بالإضافة إلى الـ”آر بي جي”، وغيرها من الأسلحة المتوسطة، تشكل نحو 35 % من الأسلحة التي يملكها مواطنون أمريكيون.
ثانيًا: الحسابات الصفرية
التدقيق في حقيقة المجتمع الأمريكي يقول أن كلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي يتمسك “بالحسابات الصفرية” التي تقوم على التمسك بكل شىء، وعدم وجود أي رغبة في التنازل للحزب الآخر. كما أن المجتمع الأمريكي يعاني انقسامًا شديدًا؛ ففي الوقت الذي يسيطر فيه الديمقراطيون على البيت الأبيض ومجلس الشيوخ، يسيطر الجمهوريون على مجلس النواب، كما تقسم الولايات بنسبة 50 % لكل حزب، حيث يحكم الجمهوريون 25 ولاية، في حين يحكم الديمقراطيون 25 ولاية أخرى، وكثيرًا ما يقول حكام الولايات الديمقراطية إنهم لن ينفذوا أي قرار إذا فاز المرشح الجمهوري دونالد ترمب، وكلها أجواء تذكر “بالأجواء الصفرية” التي كانت سائدة ليلة اندلاع الحرب الأهلية في أبريل (نيسان)1861.
ثالثًا: غياب الخيار الثالث
“الثنائية الحادة” التي يعانيها المجتمع الأمريكي، وغياب “الخيار الثالث” الذي يمكن أن يكون “مساحة مشتركة” بين الفرقاء الأمريكيين، يزيدان الاندفاع نحو “الحرب الأهلية الأمريكية” الثانية، خاصة في ظل غياب “السمو السياسي” لدى قادة الحزبين، وهذا يفسره التصويت في مجلسي الشيوخ والنواب على المستويين الوطني والمحلي، حيث تؤكد كل بيانات التصويت أنه “تصويت حزبي أناني”، وغابت عنه المصلحة الوطنية، والمساحات المشتركة.
تقول حالة “عدم اليقين” السياسي والأمني، التي تمر بها الولايات المتحدة الآن، إن سيناريو هجوم “القوات الكونفيدرالية” على فورت سمتر في تشارلسون، في ولاية ساوث كارولينا، ليلة 22 أبريل (نيسان) 1861، يمكن أن يتكرر في حال وقوع 3 سيناريوهات، وهي:
الأول: تزوير الانتخابات
وهذا السيناريو يمكن أن يحدث حال وصول قناعة لدى أنصار ترمب بأنه هو الرابح للانتخابات، لكن أُعلن فوز بايدن، أو أي مرشح للحزب الديمقراطي؛ لأن هناك تعبئة سياسية لدى الجمهوريين تقول إنهم لن يتسامحوا هذه المرة في “سرقة الانتخابات” كما يعتقدون، ومشهد 6 يناير (كانون الثاني) 2021، لاقتحام الكونغرس لمنع التصديق على فوز جو بايدن، يمكن أن يتكرر ويتوسع إلى حرب أهلية شاملة، أو استقلال الولايات الجمهورية بعيدًا عن الولايات المتحدة.
الثاني: اغتيال ترمب
هناك آلاف الميليشيات العسكرية في الولايات المتحدة، وجزء لا يستهان به من هذه الميليشيات يدعم الديمقراطيين، ويرى في وجود ترمب عقبة أمام مصالحه، ومصالح من يحميهم، واغتيال ترمب في المحكمة، أو في التجمعات الانتخابية، يمكن أن يؤدي إلى رد فعل عنيف من الجمهوريين المدججين بالسلاح؛ ومن ثم إلى فوضى تؤدي في النهاية إلى حرب أهلية أمريكية.
ثالثًا: تمرد الجيش
وهذا السيناريو يحدث حال فوز ترمب، واندلاع مظاهرات ضخمة ضده، كما جرى عندما تولى الحكم في يناير (كانون الثاني) 2017، وإذا ما دعا ترمب الجيش الأمريكي إلى مواجهة المتظاهرين وسلوكهم العنيف، فإن هذا يمكن أن يؤدي إلى تمرد في الجيش على قرارات ترمب، وحينذاك يمكن للولايات الديمقراطية، مثل كاليفورنيا، ونيويورك، أن ترفض البقاء ضمن الدولة الاتحادية الأمريكية، وهذا ليس سيناريو بعيدًا، أو تشاؤميًّا؛ ففي 6 يناير (كانون الثاني) 2021، عندما اقتُحِمَ الكونغرس، قال الجيش الأمريكي آنذاك إنه كافح من أجل أن يكون على الحياد، وألا يتدخل في الشؤون السياسية للبلاد.
الواضح أن الولايات المتحدة الأمريكية تعيش حالة من “السيولة السياسية”، والانقسام المجتمعي غير المسبوق، وهو ما يوفر “بيئة مثالية” لاندلاع الحرب الأهلية الثانية، فكما قال ستيفن مارش: “اندلاع الحرب الأهلية الأمريكية للمرة الأولى يؤكد أن اندلاعها للمرة الثانية احتمال لا يمكن التشكيك فيه”.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.