وظفت تركيا في عام 2024 موقعها الإستراتيجي من أجل تعزيز مكانتها المتوسعة كمركز للطاقة. وبفضل مشروعات، مثل بورصة الطاقة في إسطنبول، والمشاركة النشطة في مجلس الطاقة العالمي، والتقدم الكبير في مجال استكشاف الغاز الطبيعي، وخريطة التحالفات المطّردة في بلدان إفريقيا وآسيا وأوروبا، برزت تركيا لاعبًا رئيسًا في السوق العالمية للطاقة، غير أن هذا الدور انطوى على أخطار مرتبطة بالتقلبات في الأسواق العالمية، والمستجدات السياسية والأمنية في البيئة الإقليمية والدولية، خاصة مع الطموح التركي في تشكيل مستقبل أمن الطاقة في المنطقة، مرتكزةً على سوريا بعد الإطاحة بنظام الأسد، وبروز قيادة سورية موالية للرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
أرست خطة العمل الوطنية الأولية لكفاءة الطاقة (2017- 2023) الأساس لأهداف الاستدامة التركية، وجذبت في هذه المرحلة 8.5 مليار دولار من الاستثمارات، واستطاعت توفير الطاقة بنسبة 4.5٪ في عام 2023، وهو أعلى بكثير من المتوسط العالمي البالغ 1٪. واستكمالًا لهذا النهج، تستعد تركيا في خطة (2024- 2030) لتخصيص أكثر من 20 مليار دولار لتدابير كفاءة الطاقة على مدى السنوات المقبلة في الاستثمارات بقطاعات مختلفة، منها البنية الأساسية السكنية، والتجارية، والصناعية.
وفي هذا السياق، سجلت تركيا أسرع نمو في الطلب على الطاقة بين دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية خلال العقدين الماضيين، واحتلت تركيا المرتبة الثانية بعد الصين من حيث زيادة الطلب على الكهرباء والغاز الطبيعي في العالم، وأصبحت واحدة من أكبر أسواق الغاز الطبيعي والكهرباء في المنطقة؛ ومن ثم فإن أحد الأهداف الرئيسة لإستراتيجية الطاقة في تركيا هو تنويع الطرق والموارد لتعزيز أمن إمدادات الطاقة؛ إذ تهدف تركيا إلى المساهمة في أمن الطاقة الإقليمي والعالمي، والتحول إلى مركز تجاري إقليمي في مجال الطاقة.
وانطلاقًا من هذا، أعلنت عام 2024 عام “الطاقة المتجددة”، كخطوة مهمة في التحول إلى طاقة مستدامة، حيث تجاوزت القدرة الشمسية 10 آلاف ميغاوات، وهو ما جسد اهتمام الدولة بتوسيع مواردها من الطاقة المتجددة، لتختتم عامًا من التطورات الكبرى والتعاون في مجالات المواد الأرضية النادرة والنفط والغاز الطبيعي، وحددت عام 2025 باعتباره عامًا حاسمًا لطموحاتها في مجال الطاقة النووية، حيث ترسم الحكومة التركية مسارًا طموحًا نحو الاستدامة من خلال خطط الاستثمار في مبادرات كفاءة الطاقة بحلول عام 2030.
برزت أنقرة لاعبًا رئيسًا في قطاع الطاقة العالمي، خاصة في الأعوام القليلة الماضية، من خلال عدد من الآليات، يتمثل أبرزها فيما يلي:
ومع أن عام 2024 عكس طموح تركيا في مجال الطاقة، فإن آفاق عام 2025 تعكس الفرص والمخاطر أمام أنقرة في هذا المجال؛ إذ إن اعتماد تركيا الكبير على الطاقة المتجددة، ومساعيها لتوفير 75٪ من إنتاجها من الكهرباء من مصادر متجددة بسعة شمسية تزيد على 50000 ميغاوات، وسعة رياح تزيد على 30000 ميغاوات، تدعمه استثمارات التخزين الإلكتروني والشبكة الذكية لدمج كميات كبيرة من مصادر الطاقة المتجددة، في ظل أهداف إزالة الكربون العالمية، حيث ضمنت وكالة تمويل الصادرات البريطانية ووكالة ائتمان الصادرات البولندية -على نحو مشترك- قرضًا بقيمة 249 مليون يورو من بنك ستاندرد تشارترد لشركة الاستثمار التركية في الطاقة المتجددة كاليون إنرجي؛ مما يتيح بناء ثاني أكبر مشروع للطاقة الشمسية في تركيا؛ ما يضع تركيا في طليعة صادرات الطاقة الخضراء عالميًّا.
غير أن هذا الهدف الطموح في ريادة سوق الطاقة المتجددة تواجهه عقبات تمويلية وتنظيمية تصعب من تنفيذه، فضلًا عن تعارضه مع نشاط أنقرة المتزايد في الوقود الأحفوري، ومشروعاتها في مسار الطاقة النووية؛ مما يجعل تركيا عُرضة لتقلبات أسعار الطاقة العالمية، ومن شأن هذا الوضع أن يشكل تهديدًا لخطط أنقرة في مجال الطاقة والمناخ، ما يوجب على حكومة العدالة والتنمية تبني سياسة طاقة متوازنة تتبع مزيجًا من الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة، ومخرجات الغاز الطبيعي والطاقة النووية، لا سيما أنه من المتوقع عمل محطة أكويو للطاقة النووية بحلول أواخر عشرينيات القرن الحادي والعشرين، وسوف تضمن توليد الكهرباء المستقرة المنخفضة الكربون، وخفض واردات الغاز بنسبة 30% من خلال زيادة الإنتاج المحلي، والبنية الأساسية لخطوط الأنابيب الإقليمية.
محصلة القول أن تركيا ستحتاج إلى الحفاظ على التوازن بين الأولويات المحلية والضرورات الدولية، خاصة أن دورها الجغرافي بوصفها منطقة حدودية بين الشرق والغرب يقدم مزايا فريدة من نوعها، ولكنه في المقابل يشكل تهديدات جيوسياسية تفرض على أنقرة مزيدًا من التعاون الإقليمي، وتوسيع محفظة الطاقة الخاصة بها من خلال تبني مصادر الطاقة المتجددة، وزيادة دبلوماسية الطاقة لخفض المخاطر المتوقعة، وأخيرًا الجمع بين الطاقة الخضراء وتقنيات الذكاء الاصطناعي للحفاظ على القدرة التنافسية في السوق العالمية للطاقة التي لا تشكلها المحددات الاقتصادية فحسب، بل قد يكون للعوامل السياسية والأمنية الدور الأهم، فقد تقضي الخلافات الإقليمية في شرق المتوسط والبيئة الأمنية المضطربة من جرّاء الحروب الدائرة في الإقليم، وحالة اللايقين المحيطة بالمشهد السوري، على الحلم التركي بريادة السوق العالمية للطاقة.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.