تضطلع الأقليات العرقية بدور محوري في تحديد “سيد البيت الأبيض”؛ لأن السكان البيض لا تتجاوز نسبتهم اليوم 59% من إجمالي عدد سكان الولايات المتحدة، الذين يبلغ عددهم نحو 350 مليون نسبة، وتزيد حالة الاستقطاب السياسي الحاد بين الجمهوريين والديمقراطيين أهمية كل صوت وناخب، وهنا يأتي دور السكان من أصول لاتينية، وإفريقية، وآسيوية عربية إسلامية، فالسكان من أصل لاتيني يشكلون نحو 18% من السكان، والناخبون من أصول إفريقية يصل عددهم إلى نحو 13%، والناخبون من أصل آسيوي يصل عددهم إلى نحو 6%، في حين لا يشكل العرب والمسلمون إلا 1% فقط في جداول الانتخابات الأمريكية. ووفق تحليل لمؤشرات الانتخابات خلال 10 انتخابات سابقة، فإن نسبة الحضور أمام صناديق الانتخاب من البيض تفوق نظيرتها لدى اللاتينيين، والسود، والآسيويين، والعرب، والمسلمين. ومع أن البيض يشكلون الأغلبية الآن بنحو 59% فإن هناك توقعات بأن تعاني الولايات المتحدة عام 2045 ظاهرة “الأغلبية الأقلية”؛ بمعنى أن البيض سيكونون حينئذ أقل من 50%، كما أن باقي المكونات العرقية لن يتجاوز أي منها نسبة 50% من السكان.
ويغازل كل من المرشح الجمهوري دونالد ترمب، والمرشحة الديمقراطية كاملا هاريس هذه الأقليات على مدار الساعة، سواء من خلال الخطاب المباشر، واللقاءات مع زعماء هذه الأقليات، أو من خلال الدعاية المتخصصة، والبرامج، والدعاية الموجهة إلى كل أقلية من هذه الأقليات. وبينما يركز خطاب ترمب على الأبعاد الأمنية والاقتصادية، يهتم فريق كامالا هاريس ببناء الثقة مع هذه الأقليات، عن طريق التعهد بحزم سخية من الخدمات الصحية، والإعانات الاجتماعي؛ إدراكًا لأهمية هذه الأقليات، خاصة في “الولايات المتأرجحة”.
وما يزيد أهمية كسب عقل كل ناخب في “الأقليات العرقية” وقلبه وصوته، هو التقارب الكبير بين مرشحي الحزبين الجمهوري والديمقراطي، خاصة في “الولايات المتأرجحة”، التي يمكن لبضعة آلاف فقط من الأصوات أن تحسم كل أصوات هذه الولاية في “المجمع الانتخابي” لصالح هذا المرشح أو ذاك، فما القيمة النسبية “للأقليات العرقية” في الانتخابات الأمريكية؟ وما القضايا التي تشكل الأولوية القصوى لتلك الأقليات؟
أولًا: اللاتينيون
يوجد نحو 61 مليونًا من أصول لاتينية يشكلون نحو 19% من الشعب الأمريكي، ويشكلون العرقية الثانية بعد البيض، وتتفق غالبية استطلاعات الرأي أن نحو “ثلثي الناخبين” من أصول لاتينية يؤيدون كامالا هاريس؛ لأن الغالبية منهم يرفضون سياسة ترمب بشأن الهجرة، وتعهده بطرد نحو 20 مليون مهاجر غير شرعي، في حين يؤيد الثلث الآخر ترمب؛ لأنهم يخشون تطبيق السياسات اليسارية للحزب الديمقراطي، وعانى هؤلاء في بلدانهم الأصلية فشل “السياسات اليسارية” التي دفعتهم إلى الهجرة إلى الولايات المتحدة، ويرتفع باستمرار عدد اللاتينيين في الولايات الأمريكية كافة، سواء بسبب الإنجاب أو الهجرة. ويشكل اللاتينيون نحو 33% من سكان ولاية أريزونا، ونحو 26% من سكان ولاية فلوريدا، يمثل الكوبيون ثلثهم، ويصوت غالبية الكوبيين لصالح الجمهوريون، في حين يصوت غالبية الذين من أصول مكسيكية، أو من جنوب أمريكا اللاتينية، لصالح الحزب الديمقراطي.
ثانيًا: الأصول الإفريقية
تاريخيًّا، كانت الأقليات من أصول إفريقية تصوت للحزب الجمهوري منذ عام 1865، في عهد الرئيس الجمهوري إبراهام لينكولن، الذي خاض الحرب الأهلية من أجل “إلغاء العبودية”، وعارض الحزب الديمقراطي منح السود حقوقهم لمدة 100 عام بعد نهاية الحرب الأهلية الأمريكية، ولم يسمح للسود بالمشاركة في المؤتمر العام للحزب الديمقراطي إلا عام 1924، لكن بداية من ستينيات القرن الماضي، بدأ التحول الكبير في تصويت السود ناحية الحزب الديمقراطي، خاصة في عهد الرئيسين جون كينيدي، ومن بعده الرئيس ليندون جونسون؛ بسبب ما حققاه في مجال الحقوق المدنية لصالح السود؛ ولهذا حصل الرئيس جونسون على 94% من أصوات السود في انتخابات 1964، وحصلت هيلاري كلينتون على 88% من أصوات أصحاب البشرة السمراء، في حين حصل دونالد ترمب على 8% فقط عام 2016، ويعد تصويت السود “غير حاسم” لأي من المرشحين فيما يسمى بولايات “الحزام الإنجيلي” التي تصوت بكثافة لصالح الجمهوريين، مثل ولايات لويزيانا، والمسيسيبي، وألاباما، لكن دور السود كبير ومؤثر جدًّا في “الولايات المتأرجحة” وغير المحسومة، وتختلف نسبة وجود السود من ولاية إلى أخرى؛ ففي ولايات مثل مونتانا، وإيداهو، لا تزيد نسبتهم على 1%، في حين لهم وجود قوي في “الولايات المتأرجحة”، حيث تصل نسبتهم إلى 22% في كارولينا الشمالية، و17% في ولاية فلوريدا، و14% في ميتشغان، و12% في بنسلفانيا، وحسابيًّا لا يمكن لأي مرشح جمهوري دخول البيت الأبيض دون الفوز بولايتين -على الأقل- من هذه الولايات الأربع.
ويعمل ترمب بقوة للحصول على جزء كبير من أصوات السود، رغم “الصورة النمطية” السلبية عنه، التي تصوره بأنه منحاز فقط إلى البيض، وهناك من يعتقد أن ترمب أضاع فرصة كبيرة للحصول على أصوات كثيرة من السود عندما لم يعين “نائبًا” أسود، أو امرأة سوداء نائبة معه، ويركز ترمب في دعايته للسود على المشكلات الاقتصادية، وارتفاع التضخم، وارتفاع الفائدة الذي قاد إلى ارتفاع غير مسبوق في الحصول على السكن؛ لأن مجتمع السود من أكثر المجتمعات الأمريكية التي تعاني مشكلات “الرهن العقاري”، وجميع استطلاعات الرأي تقول إن ترمب في انتخابات 2024 سوف يحصل على شريحة من أصوات السود أكبر من تلك التي حصل عليها عام 2020؛ اعتمادًا على أن بايدن ونائبته كامالا هاريس لم يقدما ما انتظره الناخب الأسود في السنوات الأربع الماضية، وتشير غالبية استطلاعات الرأى أن ترمب قد يحصل على 24% من أصوات ذوي الأصول الإفريقية، وحينيذ ستكون أعلى نسبة للجمهوريين منذ أيام ريتشارد نيكسون عام 1960، في حين أن انتماء كامالا هاريس إلى السود سيعطيها أفضلية على ترمب الذي ينظر إليه على أنه مرشح البيض. وبينما يشكل البيض “الكتلة الصلبة” الداعمة لترمب، تأمل هاريس الحصول على 95% من أصوات السود، كما حدث مع باراك أوباما في انتخابات 2008.
ثالثًا: الآسيويون
يبلغ عدد الذين من أصول آسيوية في الولايات المتحدة نحو 20 مليونًا، بنسبة تصل بهم إلى نسبة 6% من الشعب الأمريكي. وتعتبر كامالا هاريس نفسها من أصول آسيوية؛ لأن أمها من أصول هندية، كما أن نيكي هايلي، التي زاحمت الرئيس دونالد ترمب حتى آخر يوم في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري، من أصول آسيوية أيضًا، لكن في الوقت نفسه، تشير تقارير الشرطة الأمريكية أن الآسيويين يتعرضون لمشكلات وضرب وقتل يفوق ما يتعرض له السود. ورغم انتشار الآسيويين في غالبية الولايات، فإنهم يتركزون في ولايات تصوت عادة للديمقراطيين، مثل كاليفورنيا، ونيويورك، وواشنطن، وهاواي، ويبلغ متوسط وجود الآسيويين في الولايات المتأرجحة نحو 3.5%، وهو معدل يكفي لفوز مرشح على حساب مرشح آخر. وقبل انسحاب جو بايدن من الانتخابات، دعم 55% من الآسيويين الحزب الديمقراطي، في حين دعم ترمب نحو 29%، وظل 16% لم يحددوا موقفهم، وهناك اعتقاد أن نسبة دعم الآسيويين للحزب الديمقراطي سوف تزيد مع ترشح كامالا هاريس. ويأخذ وجود الآسيويين أهمية كبيرة في “الولايات المتأرجحة”، حيث يوجد نحو 600 ألف من أصول آسيوية في فلوريدا، و250 ألف في ولاية بنسفانيا ، ونحو 400 ألف في ولاية جورجيا.
رابعًا: العرب والمسلمون
مع أن عدد العرب والمسلمين لا يزيد على 3.7 مليون أمريكي بنسبة 1% فقط، فإن أصوات العرب والمسلمين يمكن أن تكون حاسمة في الانتخابات القادمة، خاصة في “الولايات المتأرجحة”، مثل ولاية ميتشغان، فالمعروف أن العرب والمسلمين الذي صوتوا بكثافة للرئيس الحالي جو بايدن كانوا وراء فوز الديمقراطيين في انتخابات 2020، وسوف تؤدي الأحداث الحالية في الشرق الأوسط، خاصة ما يتعلق منها بالحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ولبنان، دورًا كبيرًا في توجهات الناخبين العرب والمسلمين في انتخابات 5 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل. وفي استطلاع للرأي جرى في مايو (أيار) الماضي، قال 75% من العرب والمسلمين في ولاية ميتشغان إن ما يجري في غزة سيكون الأولوية الأولى لهم عند اختيار المرشح في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، وقد تسهم “حركة غير ملتزم” داخل الحزب الديمقراطي في خسارة كامالا هاريس “للولايات المتأرجحة” التي بها عدد كبير من العرب والمسلمين، فهذه الحركة نجحت في حرمان بايدن من نحو 100 ألف صوت في أثناء الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، وهو ما يكشف حجم الغضب والإحباط لدى العرب والمسلمين من سياسات الديمقراطيين. ورغم عدم تصويتهم لترمب فإن غالبية المؤشرات واستطلاعات الرأي تقول إن النسبة الغالبة من أصوات العرب والمسلمين سوف تذهب إلى مرشحة حزب الخضر “جيل شتاين”، وما يؤكد أهمية صوت العرب والمسلمين في الانتخابات المقبلة أن المرشح الجمهوري دونالد ترمب سبق له الفوز بولاية ميتشغان بفارق 10 آلاف صوت فقط على هيلاري كلينتون عام 2016، في حين فاز بايدن في الولاية نفسها بفارق ليس كبيرًا، ولا يزيد على 140 ألف صوت عام 2020.
هناك مجموعة من العوامل والأسباب والقضايا التي تحدد موقف الأقليات من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وأبرز هذه القضايا والملفات هي:
أولًا: الهجرة
تشكل قضية الهجرة عاملًا حاسمًا للأقليات، خاصة اللاتينيين، والسود، والآسيويين؛ لأن غالبية اللاتينيين قدموا إلى الولايات المتحدة عبر الحدود المكسيكية الأمريكية، وخلال العقدين الماضيين وصل إلى الولايات المتحدة نحو 60 مليون مهاجر، منهم 20 مليون فقط بطرائق شرعية، مثل إعادة الشمل، أو الدراسة، في حين قدم نحو 40 مليون بطرائق غير شرعية، منهم نحو 20 مليون لم يوفقوا أوضاعهم القانونية حتى الآن، وهؤلاء هم من تعهد ترمب بطردهم وترحيلهم من الأراضي الأمريكية، وهؤلاء يتهمهم ترمب بأنهم إرهابيون ومجرمون، وأنهم سوف يدمرون النسيج الاجتماعي الأمريكي، لكن على العكس من ترمب، تطرح كامالا هاريس معادلة تقوم على “التوازن” بين “حفظ الأمن” على الحدود الأمريكية المكسيكية و”المعاملة الإنسانية” مع اللاجئين.
ثانيًا: الإجهاض
تهتم نساء الأقليات -على نحو خاص- بقضية الإجهاض، ولا يريدن أن يكون هناك قيود على هذه القضية الحساسة في الأسرة الأمريكية. ورغم تراجع الرفض الكامل للإجهاض في خطاب دونالد ترمب فإن غالبية الأقليات تنظر بسلبية إلى موقف الحزب الجمهوري من قضية الإجهاض التي يرفضها الجمهوريون وترمب على أساس ديني وأخلاقي، في حين يوافق عليها الديمقراطيون لأسباب اجتماعية، وتعهدت المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس بالتوقيع على مشروع قانون يعيد الحماية التي كانت توفرها قضية “رو ضد ويد”. ومع أن المحكمة العليا رفضت السماح بالإجهاض، فإن الديمقراطيين يصرون على ضرورة السماح به؛ لأن 40% من نساء الأقليات يعشن في ولايات تحظر الإجهاض.
ثالثًا: الاقتصاد وتكاليف المعيشة
حين يأتي الحديث عن الاقتصاد يكون ترمب في وضع أفضل؛ لأن الناخب الأمريكي يقارن بين سنوات ترمب في الولاية الأولى، وسنوات بايدن وهاريس التي ارتفعت فيها أسعار كل شيء، خاصة الطاقة، والسكن، والبقالة، وتحاول هاريس اللحاق بترمب في الملف الاقتصادي من خلال طرح ما تسميه “اقتصاد الفرص”، وتخفيض الضرائب، ودعم الطبقات الوسطى.
الثابت أن المعركة الانتخابية سوف تكون على أصوات الأقليات العرقية، خاصة في الولايات المتأرجحة التي سيكون لأصوات الأقليات فيها الكلمة الفاصلة، والحاسمة.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير