مقالات المركز

هل تبدأ الحرب الروسية الأوروبية من “كالينينغراد”؟


  • 31 أكتوبر 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: lemonde

منذ بداية الحرب في أوكرانيا في 24 فبراير (شباط) 2022، كانت كل المخاوف التي تتعلق بتوسع الحرب إلى باقي الدول الأوروبية تنطلق إلى الجوار الأوكراني. بعبارة أخرى، كل المخاوف كانت تبدأ وتنتهي بامتداد الحرب من أوكرانيا إلى “مولدوفا”، أو بولندا، أو دول بحر البلطيق الثلاث “ليتوانيا، ولاتفيا، وإستونيا”، باعتبار أن كل هذه الدول هي التي تجاور أوكرانيا مباشرة.

لكن بعد ما يقرب من 3 سنوات على هذه الحرب، وتغير كثير من الحسابات والمعادلات السياسية والميدانية، وبعد انضمام كل من السويد وفنلندا إلى حلف “الناتو”، فإننا أمام واقع جديد ومختلف تمامًا، حيث يشير تحليل خطط ومناورات حلف دول شمال الأطلسي (الناتو) خلال العامين الماضيين إلى أن “الناتو” يرى في مقاطعة “كالينينغراد” الروسية “منطقة رخوة” عسكريًّا، يمكن أن يهاجمها ويسيطر عليها، أو يمنع الجيش الروسي من استخدام قواعده هناك من مهاجمة أوروبا في حال اندلاع أي صراع بين روسيا وأوروبا. ومن يراجع مناورات “الحلف الأطلسي” سوف يتأكد أنها جميعها -سواء أكانت مناورات لاستخدام أسلحة تقليدية أم نووية- تركز على تدمير خط الدفاع الأول للجيش الروسي في مقاطعة كالينينغراد على بحر البلطيق، وخير شاهد على هذه الإستراتيجية هي مناورات “ستيدفاست نون 2025 Steadfast Noon 2025″ التي جرت خلال الأيام الماضية.

وتنطلق المعادلات الجديدة لحلف “الناتو” من أن كالينينغراد، التي تصل مساحتها إلى نحو 225 كيلو مترًا مربعًا، ويسكنها نحو مليون من السكان، باتت “محاصرة” أكثر، ليس فقط بسبب وضعها الجيوسياسي “المنفصل” عن الأراضي الروسية، وتحيط بها دول في “الأطلسي” من 3 جهات؛ بل لأن انضمام السويد وفنلندا إلى “حلف الناتو” بات يضغط أكثر على أسطول بحر البلطيق الروسي الذي يتخذ من “كالينينغراد” مقرًا له، وأن تمركز قوات الأطلسي في “قاعدة غوتلاند” السويدية القريبة جدًّا من كالينينغراد يحرم روسيا من “الموقع الإستراتيجي” لكالينينغراد، التي كانت توصف على الدوام بأنها “ورقة روسيا الإستراتيجية في قلب أوروبا”. وتنظر روسيا إلى كالينينغراد بوصفها “حاملة طائرات متقدمة” بها جميع أنواع الأسلحة التقليدية والنووية.. فهل تبدأ الحرب الروسية الأوروبية من “كالينينغراد”؟ وما أوراق الجيش الروسي للرد على خطط “حلف الناتو”؟ وكيف يمكن أن يُنزع هذا الفتيل من إشعال حرب أوروبية روسية يروج الأوروبيون بأنها سوف تبدأ في نهاية العقد الحالي؟

كالينينغراد

هي أهم مقاطعة في الصراع “الجيوسياسي” بين أوروبا وروسيا؛ فأوروبا ترى في كالينينغراد التي تبعد عن الأراضي الروسية بنحو 360 كيلو مترًا “منطقة هشة” عسكريًّا يصعب الوصول إليها، أو الدفاع عنها؛ لأن الوصول إلى كالينينغراد يحتاج من الروس المرور في أراضي دول حلف “الناتو” عبر “ممر سوالكي” بالقطار، أو بالطريق البري، حيث تحاصر الدول الأطلسية كالينينغراد من 3 جهات، وهي ليتوانيا من الشمال والشرق، وبولندا من الجنوب. وتعد بولندا مع دول البلطيق الثلاث “ليتوانيا، ولاتفيا، وإستونيا” أكثر الدول الأوروبية عداء لروسيا. وتشكل كالينينغراد مع سانت بطرسبورغ إحدى وجهتي روسيا على بحر البلطيق، لكن ما يميز كالينينغراد أن بها ميناء لا يتجمد طوال العام في بحر البلطيق، وهو ما يسمح بتصدير البضائع الروسية التي تأتي من روسيا بالقطار إلى بيلاروس، ومنها إلى كالينينغراد عبر ممر سوالكي. ومع أن كالينينغراد “أراضٍ روسية” منذ أن انتصرت روسيا القيصرية في حرب السنوات السبع عام 1758، فإن هناك في أوروبا من يقول إن كالينينغراد “أراضٍ ألمانية” منذ عام 1250 عندما تأسست المدينة، وإنه بعد الحرب العالمية الثانية طُرد الألمان من هناك. وهي شكوك ترد عليها روسيا بأن كالينينغراد أراضٍ روسية منذ نحو 300 عام، وأن بعض الألمان الذين انتقلوا من كالينينغراد داخل حدود ألمانيا الحالية جاءوا بمحض إرادتهم، وهو يتفق مع عودة كثير من الألمان بعد الحرب العالمية الثانية إلى ألمانيا من بولندا والتشيك. وتستند موسكو إلى واقعة تاريخية شهيرة تتعلق بالفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، الذي عاش عندما سيطرت روسيا على كالينينغراد عام 1758، وأعطى ولاءه للقيصرة إليزابيث. وفي عام 1762، عندما سيطرت ألمانيا من جديد على كالينينغراد، رفض الفيلسوف الألماني تغيير ولائه من روسيا إلى ألمانيا، وظل على ولائه لروسيا حتى وفاته عام 1804. واستعاد الاتحاد السوفيتي السابق كالينينغراد مع نهايات الحرب العالمية الثانية، وأصبحت مقرًا لأسطول بحر البلطيق حتى اليوم.

أوراق روسية

تدرك روسيا الأهمية الإستراتيجية الخاصة لكالينينغراد، ولهذا تحصنها بكل الأسلحة التقليدية والنووية والفرط صوتية، حيث نشرت روسيا أحدث أنظمة الدفاع الجوي “أس-400” في المقاطعة، بجانب أحدث معدات الحرب الإلكترونية والاستطلاع التي تغطي مساحة شاسعة من وسط أوروبا وشمالها، ويمكنها من تعطيل أنظمة الاتصالات والملاحة العسكرية والمدنية لدول الأطلسي. وفي الوقت الحالي تنشر روسيا صواريخ كاليبر، وإسكندر- إم، وكينجال. كما يمكنها نشر أنظمة “تسيركون” و”أوريشنيك” الفرط صوتيين، فضلًا عن القواعد العسكرية التي تضم أحدث الطائرات الروسية، ومنها ميج- 31، والطائرة الشبحية من الجيل الخامس “سو- 57″، وقاذفة القنابل “سو- 34”. ووفق التقييمات الغربية، ومنها معهد دراسات الحرب في واشنطن، فإن روسيا يمكنها أن تطلق 100 صاروخ متوسط المدى تحمل رؤوسًا نووية على المدن الأوروبية في خلال ساعة من أي هجوم أوروبي على روسيا أو مقاطعة كالينينغراد؛ ولهذا تقوم التقديرات الروسية على مجموعة من المسارات في كالينينغراد، منها:

أولًا- قنبلة موقوتة

بدأت روسيا تحصين كالينينغراد منذ الموجات الأولى لضم دول أوروبية إلى حلف “الناتو”، خصوصًا الدول المحاذية والقريبة إستراتيجيًّا من كالينينغراد، مثل بولندا، ودول بحر البلطيق الثلاث، ورومانيا وبلغاريا، وصولاً إلى انضمام فنلندا في 4 أبريل (نيسان) 2023، وانضمام السويد في 7 مارس (آذار) 2024. وهو ما جعل كالينينغراد بالفعل “قنبلة موقوتة” يمكن أن تنفجر في وجه أي قوة أوروبية أو أطلسية تحاول أن تختبر القوة أو الجاهزية الروسية في الجبهة الغربية؛ ولهذا أعادت موسكو تشكيل منطقة كالينينغراد العسكرية في 27 فبراير (شباط) 2023، وهو ما منح منطقة كالينينغراد العسكرية الإشراف المباشر على “الأسطول الشمالي” الذي يعد أحد أهم أساطيل البحرية الروسية، وأكبرها تاريخيًّا، وأكثرها إستراتيجية، ويعد مكونًا رئيسًا لقوة الردع النووي الروسية؛ لأنه يضم نحو “ثلثي القوة النووية البحرية”، ويضم غواصات الصواريخ الباليستية النووية من فئة بوري، بالإضافة إلى البوارج السطحية. وتتم عملياته من المقر الرئيس في مدينة سيفيرومورسك. وتاريخيًّا، أدت منطقة كالينينغراد العسكرية دورًا كبيرًا منذ تأسيسها عام 1918، وسوف تكون مسؤولة -على نحو رئيس- عن صد التهديدات الصادرة من دول البلطيق، والدول الإسكندنافية وفنلندا. وتعد كالينينغراد من المقاطعات المهمة التي تنتشر فيها الطائرات بدون طيار، وخاصة “طائرات فوربوست”.

ثانيًا- تحديث البنية العسكرية

اقتراب “الناتو” من الأراضي الروسية في كالينينغراد دفع موسكو إلى تحديث البنية العسكرية والمدنية في المقاطعة حتى تكون جاهزة للرد على أي هجوم غربي؛ ولهذا حدَّث الجيش الروسي قواعد الصواريخ المختلفة، وقواعد تخزين الذخيرة التقليدية والنووية في قواعد “كوليكوفا، وبالتيسيك، وقاعدة “تشيرنياكوفسك” الصاروخية، و”تشكالوفسك” الجوية.

ثالثًا- بدائل “ممر سوالكي”

تعلم القيادة الروسية أن “ممر سوالكي” هو الشريان لحياة نحو مليون روسي، سواء أكانوا من المدنيين أم العسكريين؛ ولهذا شرعت روسيا في بناء المصانع والشركات التي تسهم في الاكتفاء الذاتي -قدر الإمكان- لأنها تعلم أن “حلف الناتو” يمكن أن يغلق ممر “سوالكي” في أي وقت، مع أن “العبور الآمن” للأفراد والبضائع من روسيا وبيلاروس إلى كالينينغراد هو أحد أهم شروط انضمام ليتوانيا إلى الاتحاد الأوروبي بعد توقيع الاتحاد الأوروبي وروسيا على اتفاقية الشراكة والتعاون في 24 يونيو (حزيران) 1994، وهو الاتفاق الذي سمح لجمهورية ليتوانيا بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.

رابعًا- البنية المدنية

ترى موسكو أن البنية المدنية التي تخدم المجهود الحربي لا تقل أهمية عن الصواريخ والذخيرة؛ ولهذا شيدت محطة كالينينغراد للطاقة النووية حتى تضمن إمدادًا دائمًا من الطاقة، سواء للسكان أو الجيش الروسي. كما شيدت موسكو شبكة طرق وسكك حديدية تربط الميناء بمختلف المناطق الداخلية في المقاطعة.

 رؤية الأطلسي

فشلت محاولات “خنق كالينينغراد” من جانب دول بحر البلطيق عندما رفضت ليتوانيا مرور الحديد والأسمنت عبر ممر سوالكي، لكنها عادت ووافقت على المرور بعدما شعرت أن هذه الخطوة يمكن أن تقود إلى حرب. وهذا دفع حلف “الناتو” إلى العمل على خطوات أخرى، هي:

1- العيون الواسعة

بدأ حلف الناتو منذ فبراير (شباط) 2022 في توسيع دائرة مراقبته لكل شيء في مقاطعة كالينينغراد، وخاصة الأنشطة العسكرية، ونشاط أسطول البلطيق. وبعد انضمام فنلندا والسويد عزز الأطلسي وجوده العسكري في القواعد الفنلندية والسويدية، وخصوصًا تلك القريبة من روسيا. ومن خلال تلك القواعد يراقب كل النشاط الروسي، سواء في غرب روسيا، أو في كالينينغراد. ويرى الحلف أنه بات في وضعية عسكرية أفضل بعد انضمام هلسنكي وستوكهولم إلى الناتو، حيث كان يطلق على بحر البلطيق في السابق “البحر السوفيتي”، لكن اليوم أصبح البحر بالكامل تابعًا للأطلسي، ما عدا سانت بطرسبورغ وكالينينغراد.

2- غوتلاند

سمح انضمام السويد إلى حلف الناتو بوضع قواعد وغواصات في جزيرة غوتلاند السويدية بالقرب من كالينينغراد. وهدف الناتو مع السويد هو نشر 50 غواصة قبل عام 2030 في غوتلاند، ومنها الغواصة الجديدة من طراز “إيه 26” التي تعمل بالديزل والكهرباء، ويبلغ طولها 66 مترًا، في عامي 2027 و2028، وتحمل اسمي “بليكينغ” و”سكين”، وهما اسما مقاطعتين سويديتين. والهدف ليس فقط حماية أكبر جزيرة سويدية في بحر البلطيق، بل أن تتحول “غوتلاند”، التي تبعد عن كالينينغراد بنحو 330 كيلو مترًا فقط، إلى “قاعدة عمليات” في أي مواجهة قادمة بين الروس والأوروبيين.

3- انفصال كالينينغراد

تراهن القوى الأوروبية مع حلف الناتو على انفصال الأراضي الروسية عن كالينينغراد، ويتم ذلك من خلال التذكير بأن كالينينغراد كانت لفترة ضمن السيطرة الألمانية. والهدف من ذلك ليس ضم كالينينغراد إلى ألمانيا، بل فصل كالينينغراد عن روسيا. وسبق لبعض القيادات البولندية أن قالت إن كالينينغراد ينبغي أن تكون بولندية؛ لأن اتفاق “بوتسدام” من وجهة النظر البولندية منح موسكو إقليم كالينينغراد لمدة 50 عامًا فقط، وهذا يتنافى مع وجهة النظر الروسية التي تقول إن ألمانيا الموحدة وقعت عام 1990 معاهدة تسوية نهائية مع موسكو التزمت فيها برلين بعدم المطالبة بإقليم كالينينغراد.

المؤكد أن دوائر التنافس والخلافات بين روسيا والغرب تزداد وتتوسع كل يوم، وأن إقليم كالينينغراد سوف يكون في القلب من أي مواجهة عسكرية قادمة، وهو ما يدفع الطرفين إلى التفكير ألف مرة قبل الدخول المباشر في أي صراع جديد.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع