منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، وظهور الأسلحة النووية عند الأطراف المتباينة والأقطاب المتنازعة، التي تولدت بعد الحرب، والناس، من محللين ومفكرين ومنظرين، يتساءلون عن الكيفية التي ستكون عليها الحرب العالمية الثالثة إذا ما جرت المقادير الإلهية بولادة أسبابها، وتهيؤ ظروفها، ويحاولون تخيل الوضع الذي ستكون عليه الحياة بعد هذه الحرب النووية التي لن تبقي من مظاهر الحياة البشرية التي نعرفها شيئًا.
ولم تكد الحرب الروسية الأوكرانية تدق طبولها حتى ازداد الكلام عن الحرب العالمية الثالثة، والسلاح الذي سيستخدم فيها، وقد كان لي رأي في هذه القضية، يدور في مجمله على أنه ما دامت القوى المتنازعة والأطراف المتباينة تملك السلاح النووي، فإن هذا سبب لعدم قيام حرب عالمية ثالثة، سواء في القرن الماضي أو الآن؛ وذلك لأن مَن سيضرب بهذا السلاح أولًا سيموت به ثانيًا، وهذه الحقيقة يدركها الجميع.
ولأجل ما سبق، فإن القوى المتنازعة حصرت ساحات الصراع في ثلاثة مجالات، وهي حرب الجواسيس، والسباق نحو التسلح، والتوسع، والتوسع كان- ولا يزال- أهم ميادين الصراع بين القوى التي تحدثنا عنها، وهو سبب الأزمة الروسية الأوكرانية، وسيكون سببًا في إنهائها.
سبق أن تكلمت في هذه النقطة بضرب من الاسترسال، في دراسة عنوانها: “الفاغنر…وأحد الأسباب الخفية للعملية العسكرية”، نشرت في مركز ليفانت للدراسات والبحوث، قبل أن يتوقف المركز عن العمل، وقد انتهيت فيها إلى أن السبب وراء اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، هو التوسع الذي قامت به روسيا، عن طريق الفاغنر، في مناطق تُعدّ الحديقة الخلفية للغرب وساحتها التقليدية، وخاصة في إفريقيا، ودول الساحل والصحراء.
وهذا التوسع الإستراتيجي، الذي قامت به روسيا في مناطق النفوذ الغربي، لا بد أن يزعج الغرب، فلم يجد إلا المسارعة إلى محاولة خنق روسيا أكثر بالضغط عليها بورقة أوكرانيا، فجعلوا أوكرانيا مقابل انسحاب الفاغنر من تلكم المناطق، وهذا ما يظهر، سواء من خلال الاتصالات التي أجراها ماكرون مع الرئيس بوتين، أو في زيارته له قبل بداية العملية العسكرية، فكان دائمًا يركز على فاغنر ودورها في ليبيا ودول الساحل، فكأنه كان يحاول أن يساوم على أوكرانيا بالفاغنر، ويضع شرطًا لتخلي حلف الناتو عن أوكرانيا وعدم ضمها، وهو سحب قوات الفاغنر من مناطق يعتبرها الغرب حديقته الخلفية، ليأتيه الجواب دائمًا بأنه لا علاقة تربط الحكومة الروسية بالفاغنر حتى تتركها أو تسحبها.
ولا يمكن المرور على ذكر ليبيا ودول الساحل والصحراء والفاغنر، في محادثات تخص أوكرانيا، إلا أن يكون بينهما الرابط وعلاقة، مما يظهر منه أن أوكرانيا كانت ورقة ضغط يساوم بها الغرب روسيا على أوكرانيا، وبما أنه لا يد للحكومة الروسية على الفاغنر (على حسب ادعاء الكريملن)، فقد اختار الكريملن معالجة الأزمة بنزع أسبابها مباشرة، وبهذا ذهب إلى العملية العسكرية، في إحراج للغرب لم يكن ينتظره، أو يرقبه.
استغلت روسيا الحرب على حماس وغزة أحسن استغلال، كما هو ديدنها في لعبتها مع الغرب، فكانت أكبر المستفيدين منها، كما أنها (أي روسيا)، وعلى ضعف آلتها الإعلامية، أجادت الترويج لمواقفها، فاستقبلت حماس في موسكو، (وهذا نوع من الغطاء السياسي)، وامتنعت عن تصنيفها منظمة إرهابية، بل اعتبرتها منظمة تحرير وطنية (وهذا اعتراف بحماس، وإقرار بحقها) ، كما أنها رفضت التعامل مع حماس على أنها كيان منفصل عن الشعب الفلسطيني.
وبهذا تكون روسيا كسبت فاعلًا في المنطقة، له تأثيره ودوره، قد يلعب لصالحها في الأيام الآتية، والأحداث القادمة، وهذا توسع لصالح روسيا في أهم مناطق النفوذ الغربي والسيطرة الأمريكية، وهو أكثر إزعاجًا للغرب من توسع روسيا في ليبيا ودول الساحل والصحراء، بل إن احتمال أن يكون لروسيا يد في أحداث السابع من أكتوبر، ولو بالمعلومات الاستخباراتية، احتمال لا يمكن إهماله.
كلما وجه اللوم إلى الكريملن بخصوص توسع شركة فاغنر في مناطق النفوذ الغربي، مثل ليبيا ودول الساحل والصحراء، إلا كان يرد على هذا اللوم بنفي علاقته بالفاغنر، مدعيًا أنها شركة خاصة، لا علاقة لها من قريب أو بعيد بوزارة الدفاع الروسية، ولا تعمل لصالح الحكومة، وإنما هي شركة خاصة تعمل لأجل تحقيق أهدافها، بعيدًا عن الحكومة الروسية؛ ولهذا لم يساوم الكريملن على أوكرانيا، ولكن الأمر مع حماس كان على غير سواء، حيث كان الكريملن حاضرًا في الواجهة، معبرًا عن توجهه رسميًّا وعلنيًّا.
وهذا التوجه العلني من الكريملن، الداعم لحماس في أهم منطقة من مناطق النفوذ الغربي، يجعل عملية المساومة ممكنة ومعقولة، ولهذا، ومع الأيام الأولى للعدوان الإسرائيلي على غزة، ظهر- بوضوح -تملل الموقف الغربي الداعم لأوكرانيا، وبدأ الدعم لأوكرانيا يقل، والحمية لها تفتر؛ وذلك لأن منطقة الشرق الأوسط وإسرائيل أهم عند الغرب من أوكرانيا.
ولهذا كله لا يستبعد أن تساوم روسيا على حماس بأوكرانيا، فترفع يدها عن حماس مقابل رفع الغرب يده عن أوكرانيا؛ وهكذا تكون حماس سببًا في إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية.
إن وجود أسلحة نووية عند الدول المتنافرة والقوى المتصارعة هو الحائل دون قيام حرب عالمية ثالثة، وهذا الحائل يحصر الصراع في ثلاثة ميادين، وهي: الاستخبارات، والتسلح، والتوسع، وأهم هذه الميادين الثلاثة هو ميدان التوسع (الذي يعبر عنه الإستراتيجيون برقعة الشطرنج)، وهو الذي يحسم أي صراع بين القوى المتصارعة والدول الكبرى المتنازعة، وهو الذي يحدد المنتصر من المنهزم.
وإذا كان ميدان التوسع هو السبب الأول في قيام الحرب الروسبة الأوكرانية، وذلك بتوغل روسيا، تحت غطاء الفاغنر، في مناطق النفوذ الغربي، ولجوء الغرب للرد على هذا بتحريك ورقة أوكرانيا، فإنه هو نفسه الذي سيحسم هذا الصراع.
وهنا يأتي دور حماس وعملية طوفان الأقصى، حيث ظهرت روسيا فيها داعمة لحماس على المستوى الرسمي، وهكذا تكون روسيا وضعت قدمها في منطقة تُعدّ تابعة للغرب، عن طريق فاعل مهم؛ هو حماس.
وهذا الدعم الواضح والعلني من روسيا لحماس يجعل التفاوض مع روسيا ممكنًا، وهكذا يكون لحماس دور كبير في الدفع نحو مفاوضات بشأن أوكرانيا؛ برفع الروس يدهم عن حماس، مقابل رفع الغرب يده عن أوكرانيا وما تسميهم روسيا النازيين الجدد الموجودين فيها.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.