تقارير

هل الهند مُهمة؟


  • 11 مايو 2024

شارك الموضوع

يعد كتاب “لماذا بهارات مهمة؟”، الذي كتبه وزير الخارجية الهندي، الدكتور سوبرامانيام جايشانكار، تسجيلًا لدور الهند في المشهد العالمي بعد عام 2014. ويحلل الكتاب أهمية الهند المتزايدة في مشهد عالمي سريع التغير، وتحدياتها المعاصرة، وآفاقها الدولية. ويقدم الوزير تحليلًا موجزًا وثاقبًا، ويرسم أوجه تشابه مقنعة بين الملاحم الهندية الكلاسيكية والعلاقات الدولية المعاصرة. ويتناول الكتاب في فصوله الفكر الثقافي الإستراتيجي للهند الذي انبثق من تاريخها الممتد إلى آلاف السنين. استُخدمت أمثلة من الملحمتين الهندوسيتين العظيمتين، رامايانا وماهابهاراتا، لرسم صورة للثقافة الإستراتيجية الهندية الحديثة.

الكتاب مكون من (256) صفحة، وقد لا يبدو كبيرًا، ومع ذلك، يضم 11 فصلًا تتناول كثيرًا من القضايا بإيجاز. في الفصل الأول: تقديم رؤية للعالم، ويرسم صورة للهند وهي تتحرك في عالم مضطرب بوصفها “قوة صاعدة”. الفصل الثاني: السياسة الخارجية في ضوء دراسة أولية للعلاقة المعقدة بين السياسة الخارجية الهندية وحياة مواطنيها. الفصل الثالث: يحلل الوضع العالمي على نطاق عريض، وتأثيره في الهند. الفصل الرابع: يستكشف موضوعات مختلفة، مثل تضاؤل ​​هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية، وصعود الصين، وظهور “لاعبين جدد”، والطابع المتطور للسياسة الدولية.

الفصل الخامس: يبحث في نمو السياسة الخارجية الهندية في عهد مودي. الفصل السادس: نظرة عامة على سياسة الهند الخارجية في القرن الحادي والعشرين، مع التركيز على علاقاتها مع القوى الكبرى، مثل المملكة المتحدة، وروسيا، وفرنسا، والغرب. الفصل السابع: يقدم نظرة عامة على تطور الرباعية وأهميتها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. الفصل الثامن: يناقش توجهات الهند المتناقضة تجاه الصين. الفصل التاسع: يقدم إعادة تصور للأمن.

الفصل العاشر: يناقش الطبيعة المتغيرة للأمن، حيث إن المفاهيم التقليدية للأمن القائمة على الشرطة والجيش ليست كافية اليوم، ومن المهم الاعتراف بالمنظورات التاريخية المتنوعة، والتعلم منها لمواجهة التحديات المعاصرة. الفصل الحادي عشر والأخير يُلقي الضوء على لماذا يجب دراسة بهارات (الهند)، والتعمق في تتبع مسارها من الاستقلال إلى تحولها إلى قوة صاعدة، حيث تمثل تجربتها الديمقراطية، وأهدافها التنموية مصدر إلهام ومثالًا عمليًّا لبلدان أخرى. ويكتسب الدور الذي تضطلع به الهند في تشكيل النظام العالمي والتصدي للتحديات العالمية أهمية متزايدة.

مِن اللافت في الكتاب أن الصين فقط هي الدولة الوحيدة التي لها فصل خاص، حيث ذُكرت (68) مرة، مقارنة بـ (62) مرة للولايات المتحدة، و(19) لروسيا، و(9) لفرنسا، إذ يرى جايشانكار أن الوجود الصيني قد توسع في شمال الهند، ولكنه اليوم يهدد الجنوب كذلك، لا سيما أن الصين، على مدى العقدين الماضيين، تنمو بسرعة أيضًا كقوة بحرية، وسيتعين على نودلهي توقع أنشطة صينية في مياهها. كما ناقش النمو الاقتصادي غير العادي للصين كدولة، وشراكتها الاقتصادية مع العالم الغربي. ويزعم جايشانكار أن صعود الصين يُعَد التغيير الأكثر عمقًا في السياسة العالمية منذ نهاية الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.

يرى جيشانكار أن جواهر لال نهرو؛ أول رئيس وزراء للهند، ارتكب خطأً فادحًا عام 1955 عندما لم ينضم إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، حيث لم يستجب نهرو لنصيحة نائبه ساردار فالابهبهاي باتيل للاستعداد لحرب محتملة مع الصين؛ ما تسبب في خسارة الهند أمام الصين في حرب عام 1962. وقد كان نهرو غير مُدرك لضعف الهند طبوغرافيًّا أمام الصين؛ لذا عندما يتعلق الأمر بالحدود، فإن نيودلهي تقف في وضع غير مؤاتٍ بسبب التضاريس. إن طبيعة التضاريس تجعل تأمين الحدود من الجنوب أصعب بكثير من تأمينها من الشمال. ويحمل نقد جيشانكار لنهرو وجهًا من الصحة في تحليل نتائج حرب عام 1962، كما يحمل وجهًا آخر؛ وهو نقد حزب المؤتمر الهندي المعارض للحزب الحاكم حاليًا بهاراتيا جاناتا، الذي يمثله وزير الخارجية مؤلف الكتاب.

وفي إطار مبدأ الواقعية، يناقش جيشانكار آثار هذا الصراع على المستويين الإقليمي والعالمي ويستكشف إستراتيجيات الهند لإدارة هذه الديناميكيات. ومن هذا المنطلق، يحلل الكتاب السياسة الخارجية للدولة، وعقلية الأمة. إنه ينقل كيفية عمل عقل الدولة في السياسة الخارجية، والاستثمارات، والابتكارات، وسياسات التنمية. ويناقش أيضًا الخطوات المتبعة في قرارات السياسة الخارجية، ويشير باستمرار إلى الكتب المقدسة الهندوسية بوصفها موضوعه الرئيس. ويستخدم جيشانكار قصة من الكتاب المقدس لتوضيح كل مشكلة يواجهها، وإثبات وجهة نظره. على سبيل المثال، عند مناقشة المواطنين الهنود الذين وجدوا أنفسهم في الحرب الأهلية المسلحة في السودان عام 2023، يوضح أن ما يقرب من 4000 مواطن هندي واجهوا أزمة، وقد نظرت السفارة الهندية في احتمالات مختلفة، منها احتلال منشآت الدولة المتحاربة في ظل ظروف قصوى. وكان الحل النهائي هو الإخلاء بأمان، وسرعة، وسرية قدر الإمكان. لكن هذا القرار اتخذ وسط أهداف متضاربة، خاصة في ظل الضغوط الشخصية والسياسية. تتشابه هذه القصة مع الأحداث غير المتوقعة في الكتب المقدسة الهندوسية المقدسة، التي شكلت مصير شخصيات مثل راما ولاكشمان، حيث كانت مواجهتهما مع “قوى الشر” في مستوطنة القداسة بمنزلة بداية طريق مملوء بالتحولات والمنعطفات غير المتوقعة، مثل تحديات العصر الحديث.

يستخدم جيشانكار كثيرًا من الأمثلة من الكتب الهندوسية المقدسة، مثل الملك القرد فالي، أو الملك النسر جاتايو، وهدايا الملك داساراتا، واختطاف رافانا للملكة سيتا، ومواجهة راما مع عودة ماريشا الخادعة لتوضيح التحديات التي تواجهها الحكومات الحديثة في الاستجابة للأزمات غير المتوقعة. فهو يرى أن تعقيد الجغرافيا السياسية المعاصرة يؤثر في مصاير الشخصيات، وقد تكون عواقب القرارات غير متوقعة أو كارثية، مما يسلط الضوء على الشكوك المتأصلة في عالمنا. لكن هذا النمط الديني في تحليل السياسة الدولية يثير القلق بشأن المقاربة الأيديولوجية المفرطة في السياسة الخارجية للهند حاليًا، لا سيما أن النمط الديني يتمتع بالحتمية (انتصار الخير على الشر) كقيمة أخلاقية، وهذا لا يتناسب مع البيئة السياسية الدولية المتقلبة، والمفاهيم النسبية والمختلفة، حيث لكل دولة أو أمة تعريفها الخاص للخير والشر.

بالإضافة إلى ذلك، استخدم جيشانكار مصطلح “بهارات” للإشارة إلى الهند، وقد ظهر في الدعوات الرسمية لمجموعة العشرين، وبيانات حكومة رئيس الوزراء مودي في أواخر عام 2023. ووفقًا لدستور الهند، تُذكَر كل من “بهارات” و”الهند” بوصفهما اسمين رسميين، لكن هناك اتهامات من معارضي الحكومة بأن النظام السياسي الحاكم يخطط لتغيير اسم الدولة إلى “بهارات” فقط ، وأن هذه خطوة من الجهود الأوسع التي يبذلها حزب بهاراتيا جاناتا لمحو الحضور الإسلامي من التاريخ الهندي. وبالفعل يؤكد وزير الخارجية في كتابه أن الهند يجب أن ترتكز على قيمها ومعتقداتها الثقافية الهندوسية، وينهي الفصل الأول بعبارة “لا يمكن للهند أن تنهض إلا عندما تكون بهارات”؛ ما يعبر عن تصور خاص يرى القومية العرقية الهندوسية قوة دافعة للتقدم المجتمعي.

كتاب “لماذا بهارات مهمة؟” ليس الأول لوزير الخارجية الهندي، فقد سبق أن نشر كتاب “طريق الهند” عام 2020، الذي يكشف عن المفهوم الهندي لسياسة الهند الخارجية ودبلوماسيتها. وقال جيشانكار إن هذا الكتاب ليس مكتوبًا لقراء العالم؛ بل للقراء الهنود. وهذا الكتاب أيضًا مهم لفهم التصور الهندي للعالم. ويرى جايشانكار أن السياسة الخارجية للهند واجهت ثلاث مشكلات رئيسة في الماضي؛ الأولى: تقسيم الهند وباكستان عام 1947. والثانية: الإصلاحات الاقتصادية التي بدأت بعد عقد ونصف العقد من الإصلاحات التي بدأت في الصين. والثالثة: التأخير في التحول إلى قوة نووية.

لقد كتب جايشانكار علنًا أن الهند تبنت سياسة “التحرك شرقًا”، واعتمدت سياسة المصالحة مع رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، ومدت يد الصداقة إلى اليابان، وقدمت دعمًا جيدًا لمختلف البلدان في مواجهة كوفيد-19 والكوارث الأخرى. وقد شرح بالتفصيل مفهوم “الجوار أولًا” الذي تم التوصل إليه من خلال إعطاء الأولوية للدول المجاورة. إن تحليل جايشانكار قائم على اعتبار ألمانيا واليابان والبرازيل وإيران وتركيا والمملكة العربية السعودية وإندونيسيا، وكذلك الهند، هي القوى الجديدة في العالم، ومن وجهة نظره فإن البنية القديمة لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أصبحت- تدريجيًّا- غير ذات أهمية. وتعليقًا على ذلك، خسرت أمريكا الحرب في العقدين الماضيين، وانتصرت الصين بدون حرب، ويعتقد أن “القرن الآسيوي” غير ممكن بدون الهند والصين.

ناقش جايشانكار نقاط القوة والضعف في الهند، وكتب أن العالم لم يفهم أن الهند قوية إلا بعد هزيمة باكستان في حرب الاستقلال في بنغلاديش عام 1971، وأن أهمية الهند على المسرح العالمي تراجعت بعد الهزيمة في الحرب مع الصين عام 1962. كما اعترف بأن قوات حفظ السلام الهندية في سريلانكا حققت نتائج سلبية. ويبدو أنه صارم فيما يتعلق بقضية وصف باكستان بأنها مؤيدة للإرهاب، وشدد على وحدة جنوب آسيا، وكتب عن أهمية رابطة جنوب آسيا للتعاون الإقليمي، لكنه التزم الصمت بشأن مدى تورط الهند في مشكلات جنوب آسيا.

أخيرًا، لا شك أن الهند مُهمة، لا سيما لبلدان غرب آسيا، وخاصةً في ظل الاضطرابات الأمنية والاقتصادية التي تعصف بهذه البلدان، والتي تربط بينها علاقات قوية، لا سيما في المجال الاقتصادي مع نيودلهي؛ لذا تقدم كتابات جايشانكار نظرة شاملة لإستراتيجيات السياسة الخارجية للهند، وأثرها في دورها المستقبلي، بالإضافة إلى فهم مكانة الهند على المسرح العالمي، مع تحليلات للسياق التاريخي والديناميكيات العالمية الحالية، ودراسة شاملة لكيفية صعود الهند لاعبًا إقليميًّا وعالميًّا، علمًا أنها كتابات مؤدلجة، تركز على الإنجازات ونقاط القوة الوطنية فقط، مع إهمال الجوانب الاجتماعية المهمة، مثل الديناميكيات الاجتماعية، والتغيرات داخل البلاد. لقد تم الحديث عن قوة الهند وبنيتها الصاعدة بالتفصيل، ولكن لا يوجد تحليل لبنيتها الاجتماعية. يؤكد جايشانكار مكانة الهند بوصفها من أكبر خمسة اقتصادات في العالم، وقوة إقليمية عظمى، لكن بدون تحديد أو حل المشكلات الداخلية الهندية، لا سيما في ظل تصاعد الاستقطاب بين الحزب الحاكم والمعارضة، والتطرف الهندوسي، والاحتقان لدى المسلمين من السياسات الهندوسية، وحتى تصاعد الصدامات الهندوسية مع الأقليات الأخرى مثل المسيحيين.

ما ورد في التقرير يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع