في خطوةٍ قضائية وتنظيمية مكتملة العمليات، أقدمت أجهزة السلطة القضائية والتنفيذية الروسية على حذف حركة طالبان من قوائم التنظيمات الإرهابية المعتمدة منذ عام 2003. جاء هذا القرار نتيجة تفكيكٍ متسلسل لمسار التشريع الداخلي، بدا واضحًا من خلال إصدار قانونٍ اتحادي جديد ومراجعة متدرجة للتراخيص القضائية، وتحديث سجلات جهاز الأمن الفيدرالي، وصولًا إلى إخطار الأجهزة الأمنية المختصة منتصف ربيع العام الجاري. يهدف هذا البحث الأكاديمي- التشغيلي إلى رسم خريطة العمليات القانونية والمؤسسية، وكشف الدوافع الإستراتيجية والاقتصادية، وبيان تأثير ذلك في بنية التعاون الإقليمي وديناميات الأمن في أوراسيا.
يعود إدراج طالبان على القوائم الروسية إلى قرار المحكمة العليا في 14 فبراير (شباط) 2003، الذي استند إلى قانون “مكافحة الإرهاب” لعام 1998، وتبنّى خطاب “الحرب على الإرهاب” ما بعد 11 سبتمبر (أيلول). غير أنّ الانسحاب الأمريكي من أفغانستان (أغسطس/ آب 2021)، واتساع فراغ السلطة، حثّا موسكو على إعادة تقييم تصنيفها، فجاء القانون الاتحادي ليُدخل مادّة جديدة تتيح للنيابة العامة طلبَ شطب منظمة مصنّفة إذا “توَافرت بياناتٌ موضوعية تُثبت كفَّها عن دعم الإرهاب”، مع الإبقاء على المسؤوليات الجنائية السابقة. وبصدور حكم المحكمة العليا، تُبلَّغُ دائرةُ الأمن الفيدرالي لإجراء التعديلات في غضون خمسة أيام عمل، ما يمنح القرارَ قوّةً تنفيذية فورية دون الحاجة إلى تصديقٍ رئاسي إضافي. تُشير سرعةُ الإجراءات إلى توافقٍ بين السلطتين التنفيذية والقضائية، وهو ما يعكس الطبيعة الهرمية لصنع القرار الأمني في روسيا.
تقدّم الواقعية البنيوية تفسيرًا يرتكز على سعي الدولة إلى زيادة أمنها، وتعظيم نفوذها في نظامٍ دولي فوضوي. في هذا الإطار، يمكن تحديد ثلاثة اعتبارات روسيّة رئيسة:
تهديد داعش- خراسان (IS-K): شكّل هجوم “كروكوس سيتي هول” في مارس (آذار) 2024، الذي حصد 145 قتيلًا، صدمةً للأجهزة الروسية، إذ نسبت موسكو المسؤولية إلى تنظيم IS-K الناشط في شرق أفغانستان. ولأنّ هذا التنظيم يُعدّ عدوًّا مشتركًا لروسيا وطالبان، فقد اختار الكرملين سياسة “عدو عدوي صديقي” لتعزيز التعاون الاستخباراتي مع كابول، وهو منطق ينسجم مع الواقعية الهجومية التي تبرّر تحالفاتٍ مرنة ضد التهديدات الداهمة.
ملء الفراغ الجيوسياسي بعد الانسحاب الأمريكي: يتيح انسحاب واشنطن توسيع نفوذ موسكو في آسيا الوسطى، إذ تمتلك روسيا رهاناتٍ تاريخية وعسكرية (قاعدة “كانت” في قرغيزستان وقاعدة 201 في طاجيكستان). إن تطبيع العلاقة مع طالبان يُحكِم طوق التأثير حول أطراف “الناتو”، ويُضعف قدرة الولايات المتحدة على العودة الإستراتيجيّة إلى الإقليم.
ممرّ “الشمال- الجنوب” الإستراتيجي: يعكس القرار رغبة موسكو في ربط أراضيها بخطوط التجارة المؤدية إلى المحيط الهندي عبر إيران وأفغانستان، لتجاوز اختناقات الممرات البحرية الخاضعة للرقابة الغربية، إذ يُعدّ استقرار أفغانستان شرطًا بنيويًّا لبناء خطوط سكك حديدية وطرق سريعة تقلّص زمن شحن البضائع بين سانت بطرسبورغ ومومباي من 40 إلى 25 يومًا.
رغم الأزمة الاقتصادية التي تواجهها طالبان بفعل العقوبات والحظر على النظام المصرفي، فإن أفغانستان تحتفظ بموارد طبيعية قيّمة، منها الليثيوم، والنحاس، والحديد. وفقًا لتقديرات USGS، يمكن أن تبلغ قيمة الاحتياطيات المعدنية غير المستغلة تريليون دولار أمريكي. من منظور الاقتصاد السياسي الدولي، تمثّل هذه الموارد “رأسَ مالٍ جيولوجيًّا” تستطيع روسيا توظيفه للحصول على حقوق استخراج طويلة الأجل، كما فعلت سابقًا عبر “روسنفت” و”روسجيولوجيا” في فنزويلا وسوريا. إضافةً إلى ذلك، ستجد روسيا سوقًا جديدة للحبوب والمنتجات البتروكيميائية وسط تقلص منافذها الأوروبية. في المقابل تحصل طالبان على النفط بأسعار تفضيلية، والقمح بالروبل؛ ما يخفّف الضغط على احتياطياتها النقدية الشحيحة.
من منظور الليبرالية المؤسسية، تؤدي المؤسسات دور “مُخفِّض تكاليف المعاملات” عبر خلق معايير وقواعد تسهّل التعاون. من المتوقَّع أن تستخدم روسيا القرار الجديد لتمهيد الطريق أمام عضوية أفغانستان الكاملة في منظمة شنغهاي للتعاون (SCO)؛ وهو ما يمنح طالبان منصة إقليمية شرعية لمحاربة التطرف والتجارة غير القانونية. وإذا نجح الاندماج الأمني، فقد تتجه موسكو لاحقًا إلى دمج أفغانستان في مشروعات “الاتحاد الاقتصادي الأوراسي” (EAEU) على مستوىٍ رمزي، أو بصفة مراقب؛ توطئةً لفتح أسواق الطاقة والبضائع. ومن شأن ذلك تعزيز اعتماد كابول على البنى التحتية الروسية، وتوطيد “المؤسساتية المتمحورة حول موسكو” بديلًا عن الهيمنة الغربية.
يتبنّى البناء الاجتماعي للهوية فرضية أن الأفكار، والمعايير، والهوية الجماعية، تؤطّر سلوك الدول وتحوّله، وهنا يبرز التناقض بين خطاب روسيا المعلن عن “حماية القيم التقليدية” وواقع طالبان الذي يقيّد حقوق النساء ويمنعهن من التعليم الثانوي والعالي. قد يؤدّي التباين في المعايير الاجتماعية إلى تعقيد الاعتراف المتبادل على المستوى الشعبي، حتى إن اتُّفِقَ على المصالح الأمنية؛ ومن ثمّ سيظلّ الاعتراف الدبلوماسي الروسي الكامل مشروطًا -في المدى المنظور- بتغييرات رمزية على الأقل في سياسات طالبان تجاه المرأة، لتجنّب عزلة موسكو في المحافل الدولية المعنية بحقوق الإنسان.
يُثير القرار مخاوف طاجيكستان، التي تحتضن معارضين لطالبان، وتخشى انتقال عدوى التطرف إلى وادي فرغانة المتوتر عرقيًّا. أمّا أوزبكستان وتركمانستان فقد تُرحّبان بالتقارب الروسي- الأفغاني؛ أملًا في استكمال مشروعات الربط الكهربائي (CASA-1000)، وأنبوب الغاز “تابي”. يضيف الوجودُ الروسي الثقيل في أفغانستان إلى الهند عاملًا جديدًا في حسابات التوازن ضد النفوذ الصيني- الباكستاني، في حين ترى إيران فرصة لتطوير ميناء “تشابهار” بوصفه نقطة التقاء للممرات الهندية والروسية، ما ينسجم مع مساعي طهران إلى تقويض تأثير العقوبات الأمريكية عبر شبكات لوجستية بديلة.
يُعتمد نجاح الخطوة الروسية على ثلاثة متغيرات:
تُظهر قراءة القرار الروسي رفع طالبان من قوائم الإرهاب تزاوجًا حذقًا بين الحسابات الأمنية والاقتصادية، وبين الواقعية البراغماتية والمساعي المؤسسية لتعزيز النفوذ الروسي في أوراسيا. على المستوى التنظيري، يبيّن الحدث أنّ الدول قد تعيد تعريف مفهوم “الإرهاب” وفق مصالحها الوطنية المتغيّرة، وأنّ الشرعية الدولية لا تُصاغ أحيانًا بقراراتٍ أممية؛ بل بتوافقات إقليمية تفرض واقعًا جديدًا على المؤسسات القائمة. ومع ذلك، يبقى مستقبل هذا التحوّل رهنًا بقدرة طالبان على ضبط الجماعات الجهادية المنافسة والانفتاح -ولو تدريجيًّا- على متطلبات المجتمع الدولي الحقوقية، وبقدرة موسكو على المواءمة بين حاجتها إلى عمقٍ إستراتيجي جنوبي وتَحفُّظِ حلفائها في آسيا الوسطى. ما دامت هذه التحديات قائمة بلا حلّ، سيظلّ قرار أبريل (نيسان) 2025 خطوةً طموحة، ولكنها محفوفةٌ باحتمال الارتداد عنها عند أوّل اختبارٍ أمني أو أخلاقي حاد، وهو ما يجعل أفغانستان -مرةً أخرى- مرآةً تعكس اختلاط البراغماتية بالنزعة الإمبراطورية في سياسة روسيا المعاصرة.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.