في 21 أبريل (نيسان)، شن رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي هجومًا على حزب المؤتمر المعارض في أثناء خطابه أمام تجمع حاشد في بانسوادا في راجاستان، قائلًا: “قالوا (أي حزب المؤتمر) إن المسلمين لهم الحق الأول في موارد البلاد. وإن عاد هذا الحزب إلى السلطة سيجمع كل ثرواتكم ويوزعها على من لديهم مزيد من الأطفال (يقصد المسلمين). هل تعتقد أن أموالك التي كسبتها بشق الأنفس يجب أن تُعطى للمتسللين؟ هذا ما يقوله بيان حزب المؤتمر، سيتم قياس وجمع وتوزيع كمية الذهب التي تمتلكها الأمهات والبنات، وسوف يوزعون ثرواتهم على هؤلاء، كما قال مانموهان سينغ جي إن المسلمين لهم الحق الأول في الممتلكات”.
وقد شارك قادة آخرون في حزب بهاراتيا جاناتا مشاعر مماثلة، ومنهم رئيس الحزب جي بي نادا، الذي أصدر بيانًا اتهم فيه حزب المؤتمر بأنه “يعكس أيديولوجية الرابطة الإسلامية”، وادعى أن بيان الحزب تحدث عن التحفظ على أساس الدين، على غرار الرابطة الإسلامية في عام 1929. صرح رئيس وزراء ولاية آسام هيمانتا بيسوا سارما أن البيان يهدف- على ما يبدو- إلى خدمة باكستان أكثر من الهند. وقدم حزب المؤتمر شكوى إلى لجنة الانتخابات الهندية، مُتهمًا مودي بانتهاك القواعد التي تمنع المرشحين من المشاركة في أي نشاط يؤدي إلى تفاقم التوترات الدينية، وباستخدام خطاب الكراهية بعد أن وصف المسلمين بـ”المتسللين”، وذلك بعد أيام من بدء البلاد انتخاباتها العامة التي تستمر أسابيع.
على مدى عقد كامل من الزمن، كان حزب المؤتمر يميل إلى التخبط، ساعيًا إلى اللجوء الأيديولوجي، إلى تحركات تكتيكية مرتجلة. ومن الواضح أن مسيرات الاتصال الجماهيري غير المسبوقة عبر طول البلاد وعرضها، بقيادة راهول غاندي، جلبت الوضوح على مستوى الأرض، والثقة السياسية للحزب القديم الكبير. لقد أدرك الحزب أن هناك احتياجات عامة، وخيارات سياسية تتجاوز تلك التي يروج لها جناح اليمين الذي سعى- بلا رحمة- إلى طمس الحقائق الملموسة للأغلبية الساحقة من الهنود من خلال السيطرة الانتقامية المدفوعة بالمال على التعبير الاجتماعي والسياسي.
ومن الواضح أن الإلهام الرئيس لبيان حزب المؤتمر لانتخابات عام 2024 هو أن الحكم في الهند يتطلب إعادة التوجيه، بحيث تعود موارد البلاد وآليات التوزيع إلى الشعب الذي تدين له الجمهورية بوجودها؛ ومن ثم فإن أطروحات البيان التي صيغت- بحدة- عن الأشكال المختلفة للعدالة تستمد قوتها وشرعيتها من ديباجة دستور الهند، والفصل الخاص بالحقوق الأساسية، والأحكام الأساسية للمبادئ التوجيهية لسياسة الدولة. إن الحزب الذي قاد واحدة من أكثر الحركات المناهضة للاستعمار استنارة في تاريخ العالم الحديث قد سعى إلى إعادة إدراج الدوافع الرئيسة لتلك الحركة، وهي فكرة العدالة الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، في إطار عالمي. إن حق التصويت للبالغين وحرية التعبير يضع حزب المؤتمر الوطني الهندي على المسار الصحيح لإعادة اكتشاف الأهمية الفريدة، والتقارب الذي كان لوجوده مع جماهير الناس عبر الحدود والمجتمعات.
لم يذكر بيان حزب المؤتمر إعادة توزيع الثروة بين مواطني البلاد، ولكن من الجدير بالذكر أن البيان يتحدث عن اتساع فجوة التفاوت بين شريحة الواحد في المئة الأعلى دخلًا في الهند وبقية البلاد. نقلًا عن تقرير بعنوان “عدم المساواة في الدخل والثروة في الهند، 1922-2023: صعود الملياردير راج”، يذكر البيان أيضًا أن هذا الارتفاع في عدم المساواة كان واضحًا بين عامي 2014 و 2023. وفي قسم “الاقتصاد”، يرفض البيان صراحةً اتجاه نمو البطالة، ونمو فقدان الوظائف، ويعلن أن حكومة حزب المؤتمر إذا عادت إلى السلطة ستعالج قضايا التفاوت المتزايد في الدخل والثروة، من بين أمور أخرى.
تحت القسم الفرعي للرعاية الاجتماعية، تتناول الوثيقة مسألة الانقسام بين شعب الهند من الناحية الاقتصادية، ويعلن البيان أن الحزب سيسعى جاهدًا إلى ضمان رفع ما يقرب من (200) مليون نسمة فوق الفقر في العقد المقبل، وهذا يتطلب توفير التعليم، والرعاية الصحية، والإسكان، ومياه الشرب، والصرف الصحي، والكهرباء، وفرص العمل خاصةً. ويعلن أن تنفيذ هذه الوعود من شأنه أن يحقق هدف الدخول في “اقتصاد عادل ومنصف، يجعل الهند دولة غنية، وتكون قادرة على التكيف مع عالم متغير”.
ويجب ملاحظة أن البيان لا يتحدث عن إعادة توزيع الثروة في البلاد، لكن راهول غاندي ذكر بالفعل إعادة توزيع الثروة في تجمع عام في حيدر آباد، بعد إصدار البيان. وقال: “سنجري أولًا تعدادًا طبقيًّا على مستوى البلاد لتحديد عدد الأشخاص الذين ينتمون إلى الطبقات المتخلفة والأقليات. وبعد ذلك سنجري مسحًا ماليًّا ومؤسسيًّا في خطوة تاريخية للتأكد من توزيع الثروة”. وتكرارًا لهذا، في قسم العدالة الاجتماعية، يشير البيان إلى عدم المساواة في تمثيل الأقليات المختلفة، ويقول: “لا ينبغي لأي مجتمع حديث تقدمي أن يتسامح مع عدم المساواة أو التمييز على أساس النسب، وما يترتب على ذلك من الحرمان من تكافؤ الفرص”.
في البداية، ينبغي أن يكون واضحًا أن اليمين الحاكم يروج لسياسات قائمة على هدف الفصل بين الهندوس والمسلمين؛ لذا فإن الإشارة إلى الانقسامات الاقتصادية داخل المجتمع الهندوسي تشكل خطرًا على النظام الحالي، لا سيما أن أي حديث عن التعداد الطبقي يدمر سياساته الثنائية القطب. ومع ذلك، عند الحديث عن الانقسامات، فمن الجيد تقسيم المسلمين بين السادة/ المغول/ الباثان وبقية البسماندا، ولكن من غير الملائم للقومية رسم خطوط بين الطبقة العليا من الهندوس والأغلبية البالغة (80 ٪) الذين قاموا بإقصائهم إقصاءً منهجيًّا، و المضطهدة على مدى آلاف السنين.
يركز حزب بهاراتيا جاناتا على كلمة “الأقليات” منذ أن كان في المعارضة، وسبق أن اتهم الحكومة التي يقودها رئيس الوزراء السابق مانموهان سينغ بممارسة سياسة بنك الأصوات، ليصدر مكتب رئيس الوزراء آنذاك توضيحًا يتضمن نص خطاب سينغ. سيتبين مما سبق أن إشارة رئيس الوزراء إلى (المطالبة الأولى بالموارد) تشير إلى جميع المجالات (ذات الأولوية)، ومنها برامج الارتقاء بالطوائف المنبوذة، والقبائل المنبوذة، والمجموعات العرقية الأخرى، والنساء والأطفال والأقليات… في حين سوف تستفيد قطاعات المجتمع الأفضل حالًا من هذه العملية، وتقع على عاتق الحكومة مسؤولية إيلاء اهتمام خاص لرفاهية الفئات الأضعف والمهمشة. وقال رئيس الوزراء في عدة مناسبات إن “الهند يجب أن تزدهر، لكن هذا يجب أن يكون للجميع”.
وقد وظف مودي الاتهام السياسي لحزب المؤتمر بإلغاء قانون تعديل المواطنة، بعدما شكك رئيس وزراء ولاية كيرالا، بيناراي فيجايان في “الصمت المستهجن” للحزب المؤتمر بشأن هذه القضية. وفي حديثه إلى وسائل الإعلام في 6 أبريل (نيسان)، أشار فيجايان إلى أن بيان الحزب الشيوعي الهندي (الماركسي) تعهد بإلغاء “القوانين الصارمة”، مثل قانون مكافحة الفساد، وقانون منع غسل الأموال وقانون (منع) الأنشطة غير المشروعة، من بين أمور أخرى، وذكر أن صمت “المؤتمر” بشأن هذه القضايا يعني أن الحزب لم يكن جادًا في معركته ضد سانغ باريفار، وأجندة هندوتفا الخاصة بهم.
وقد اضطر حزب المؤتمر- تحت ضغط حديث مودي- إلى استرضاء قادة الحزب للمسلمين بإعلان باوان خيرا، رئيس قسم الإعلام والدعاية في الحزب المعارض، عدم وجود أي إشارة واحدة لكلمة “مسلم” في البيان. وتشير بعض الادعاءات أيضًا إلى تنفيذ تقرير لجنة ساشار الذي يهدف إلى التحقق من الوضع الاجتماعي والاقتصادي والتعليمي للمجتمع المسلم، وأن الحزب يعد بحجز الوظائف خصيصًا للمسلمين، لينفي الحزب تمامًا أي ذكر لتخصيص الوظائف للمسلمين فقط. وتعد النقطة الثالثة ضمن قسم العدالة في البيان بتنفيذ خطة تخصيص (10 ٪) في الوظائف والمؤسسات التعليمية للأقسام الأضعف اقتصاديًّا لجميع الطبقات والمجتمعات، دون تمييز، وهذا لا يخدم المسلمين فقط.
كما وظف حزب بهاراتيا جاناتا أجندة حقوق المرأة ليبدو في موقع تقدمي أكثر من حزب المؤتمر، فالأخير قد يعيد الطلاق الثلاثي (الطلاق الفوري)، وهو وسيلة من وسائل الطلاق الإسلامي، حيث يمكن للرجل المسلم أن يطلق زوجته قانونيًّا من خلال نطق كلمة الطلاق ثلاث مرات متتالية في شكل منطوق، أو مكتوب، أو إلكتروني. وقد أبطلت المحكمة العليا هذه الممارسة عام 2017، ووصفتها بأنها “غير دستورية” بتوجه من حكومة مودي، لكن النقطة الثامنة ضمن قسم الأقليات الدينية واللغوية من بيان حزب المؤتمر، يتعهد فيها بتشجيع إصلاح قوانين الأحوال الشخصية بمشاركة المجتمعات المعنية وموافقتها؛ ما دفع الحزب أيضًا إلى تبرير موقفه أنه لا يوجد ذكر محدد للطلاق الثلاثي في أي مكان في البيان؛ ومن ثم فمن المضلل القول إن الحزب سيعيد الطلاق الثلاثي.
يحتدم الصراع السياسي في الهند في ظل بيئة شديدة الاستقطاب، وتساعد كثرة الأقليات والعرقيات والأديان على التلاعب العاطفي، واستغلال مخاوف كل فئة من الأخرى. يحاول حزب بهاراتيا جاناتا أن يجعل الهندوس إلى جانبه، في حين يستعين حزب المؤتمر المعارض بخطاب أكثر مرونة لحشد الأقليات إلى جانبه، في لعبة سياسية بها كثير من الأفكار المتطرفة، إن لم يتخللها العنف أحيانًا، ولكن لا شك أن كلا الطرفين المتصارعين على السلطة طوّر آلياته للتعامل مع المتغيرات في الشارع الهندي.
ولن يتضرر مودي مهما كانت أفكاره متطرفة، ومهما كان خطابه ضد الآخر حادًا، فهو لم يعد يهدف إلى إرضاء الجميع، بل يدرك أن خطابه يكفي لحشد انتصاره المطلق، لا سيما أن الأغلبية المطلقة أصبحت أكثر تركيزًا على المسائل الاقتصادية، والتطور التكنولوجي، والتمنية الزراعية، والعولمة، أكثر من خطابات عدم الانحياز، والتثوير الاشتراكي، وخلق مجتمع العدالة المطلقة، والانشغال بقضايا الشرق الأوسط، لاةسيما فلسطين؛ لذا دافع حزب المؤتمر عن طرحه في النقطة الثانية في قسم السياسة الخارجية فيما يتعلق بالصراع المستمر في غزة؛ بأن الحزب يريد أن تكون نيودلهي صوتًا للسلام والاعتدال في الشؤون العالمية، ولكن هذا لا يعني إظهار أي شكل من أشكال التضامن تجاه حركة حماس الفلسطينية.
لذا، وبقدر ما يكون بيان حزب المؤتمر صريحًا وواعيًا بشأن مجموعة وافية من الحقائق التاريخية، ومتطلبات السياسة على النحو الذي يفرضه الدستور الهندي، فإنه قد لا يجد صدى بين الجماهير، لا سيما في ظل بيئة الاستقطاب الحالية بين المسلمين والسيخ والبوذيين والمسيحيين وجميع الهنود غير الهندوس والجزء الأكبر من الهندوس. ومن المأمول أن يكون لدى الحزب القديم الكبير وحلفائه ما يكفي من الوقت والإرادة للتحرك بين الجماهير لنقل ما يقوله البيان ويعنيه.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.