في المشهد الجيوسياسي المعقد في الشرق الأوسط، تقدم العلاقة بين إيران والعراق نموذجًا دقيقًا لتحولات المنطقة، تنتقل فيها دولتان محوريتان من العداء التاريخي إلى التعاون المفاجئ، ففي خضم إعادة تنظيم السياسة الإقليمية الناشئة، شرع رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في زيارة رفيعة المستوى إلى إيران، وفي مناقشات واسعة النطاق مع الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان وجهًا لوجه للمرة الأولى منذ سقوط بشار الأسد في سوريا، دعا السوداني إلى تجمع الجهات الفاعلة الدولية في بغداد لتعزيز “الحوار الإقليمي الشامل”، وفي حين يضع العراق نفسه وسيطًا محتملًا، فإن المناورات الدبلوماسية لرئيس الوزراء قد تساعد على تخفيف الضغط السياسي على الجمهورية الإسلامية، وتسمح للنظام الإيراني باستعادة نفوذه في المنطقة عبر بوابة الحشد الشعبي لإنقاذ محور المقاومة.
تعود العلاقات بين إيران والعراق إلى قرون مضت، إذ تشترك الدولتان في حدود يبلغ طولها نحو 1000 ميل، غير أن رحيل الشاه محمد رضا بهلوي عن إيران في يناير (كانون الثاني) 1979، وتأسيس الجمهورية الإسلامية في عهد آية الله روح الله الخميني، بمنزلة تحول أيديولوجي عميق في إيران، ولم يمثل هذا التحول مجرد تغيير في الحكم فحسب؛ بل كان أيضًا إعادة توجيه جذرية للهوية السياسية والاجتماعية والدولية للبلاد، من نظام ملكي علماني موالٍ للغرب إلى نظام ثيوقراطي معادٍ للغرب؛ ما أثر في رؤية إيران للعالم، وخاصة الإقليم.
وسرعان ما غزت القوات العراقية إيران في الحدث الأكثر أهمية في تاريخ البلدين الحديث، مما أدى إلى اندلاع حرب طويلة ومدمرة بين نظامين متنافسين مدفوعين بوجهات نظر متباينة، في حين اعتُبر الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للعراق في عام 2003 بمنزلة بداية لتحول كبير في العلاقة بين طهران وبغداد، فقد أدى سقوط نظام صدام حسين، الذي كان في السابق خصمًا إقليميًّا لإيران، إلى خلق سبل جديدة أمام طهران لتوسيع نفوذها داخل الدولة المجاورة، ولاستغلال الفراغ الناجم عن ذلك، عملت إيران بنشاط على تنمية علاقاتها مع مختلف القوى السياسية العراقية، وخاصة مع الجماعات الشيعية التي تمارس الآن نفوذًا كبيرًا داخل المشهد السياسي العراقي، وقد سمح هذا لإيران بتولي مكانة بارزة في التأثير في البيئة السياسية العراقية من خلال أدوات سرية وعلنية لتعزيز أهدافها الإستراتيجية.
يحتل العراق أهمية إستراتيجية لإيران في كثير من المجالات الرئيسة، بوصفه بوابة إلى العالم العربي؛ ومن ثم يطمح الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان إلى إحراز عدد من الأهداف من خلال توثيق علاقته بالعراق، من أهمها ما يلي:
تتجلى ملامح النفوذ الإيراني في العراق من خلال شراكة طهران الوثيقة مع قادة الحشد الشعبي الذي أُنشئ لمواجهة هجوم تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في شمال العراق عام 2014 من خلال أكثر من 67 فصيلًا سنيًّا وشيعيًّا، مثل كتائب حزب الله، وعصائب أهل الحق، ومنظمة بدر، وقوات الصدر، وبعد حرب إسرائيل على غزة شكلت تلك الفصائل تهديدًا مباشرًا للولايات المتحدة وإسرائيل يختلف عن التحديات التي يفرضها حزب الله اللبناني والحوثيون، فلدى الفصائل العراقية تاريخ طويل نسبيًّا في التركيز على المصالح الأمريكية بوصفها عدوها الرئيس منذ عام 2003، والسعي بطرائق مختلفة، وعلى عدة مراحل، إلى إخراج القوات الأمريكية من العراق. وبعد تفكك حزب الله اللبناني وضعف حماس، أصبحت الفصائل العراقية متحمسة للمشاركة في الحرب ضد إسرائيل؛ ما جعل مستقبل تلك القوات موضوعًا للخلاف في المناقشات السياسية في الداخل العراقي.
ومن بين الخيارات التي نوقشت إمكانية دمج قوات الحشد الشعبي في الجيش العراقي، بعد أن عملت هذه القوات كجناح للجيش، منذ القرار البرلماني في عام 2016، وفي هذا الإطار جاءت دعوات المرشد الأعلى الإيراني المتكررة للسوداني من أجل تعزيز قوات الحشد الشعبي وتقويتها لمواجهة تكثيف واشنطن ضغوطها على العراق لحل قوات الحشد الشعبي، ووضع قواته تحت سلطة بغداد الفعلية المباشرة. غير أن العقبة الرئيسة أمام اندماج الحشد الشعبي الكامل في الجيش ربما تنبع من العراق نفسه، وليس إيران؛ إذ يسير رئيس الوزراء على حبل مشدود مع حلفائه في إطار التنسيق الشيعي الحاكم، وبعضهم لديه مصالح راسخة في هيئة الحشد الشعبي، كما ينظر كثير من أعضاء التحالف السياسي إلى طموح السوداني المحتمل لتأمين ولاية ثانية بشكوك عميقة؛ ومن ثم فإن التوجه الذي تبنته الفصائل العراقية منذ أن هاجمت حماس إسرائيل في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، لا يدعو إلى الصراع مع الولايات المتحدة فقط؛ بل أيضًا مع إسرائيل، وإذا استمر هذا في سياق الخطر المتزايد لاندلاع حرب إسرائيلية على المنطقة فقد يؤثر ذلك في توجه الدولة العراقية وقدرتها على موازنة علاقاتها مع إيران والولايات المتحدة. ومع انتهاء آخر قوة تحالف تقودها الولايات المتحدة في العراق، وانهيار نظام الأسد، ربما يشعر الإيرانيون بأنهم حصلوا على فرصة ذهبية للتوغل في العراق عبر الفصائل الشيعية المهيمنة في الحشد الشعبي.
محصلة القول أنه رغم قرب رئيس الوزراء العراقي من إيران، فإن سياسته تجاه الجمهورية الإسلامية تبدو غامضة، وتفتقر إلى التوجه الإستراتيجي، وهو ما جعل القوى السياسية الإيرانية تنقسم بشأن تقييم نهج السوداني، ومستقبل العلاقات بين البلدين؛ فيبدو أن أولئك الذين يتبنون منظورًا عسكريًّا راضون عن سياسات رئيس الوزراء العراقي، وخاصةً لأنه يوفر مساحة لحلفائه السياسيين، ومنهم الفصائل الشيعية، للعمل بحرية في العراق، في مقابل الفريق الثاني من ذوي المنظور الإستراتيجي؛ إذ يشعرون بعدم الرضا عن نهج السوداني، وينظرون إليه باعتباره تطورًا محفوفًا بالمخاطر، من شأنه أن يقوض المصالح الإيرانية في المنطقة على المدى البعيد.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.