شهدت أفغانستان مطلع شهر يوليو (تموز) 2025 تطورًا لافتًا في علاقاتها الخارجية، تمثّل في اعتراف روسيا الرسمي بحكومة حركة طالبان الحاكمة في كابُل. جاء هذا الاعتراف ليجعل موسكو أول عاصمة في العالم تقدم على هذه الخطوة منذ سيطرة طالبان على السلطة عام 2021. ورغم ترحيب طالبان الحذر بهذه الخطوة التي طال انتظارها، كشفت وثائق مسرّبة حديثًا عن مزيج من القلق والطموح يسود أوساط الحركة حيال النية الروسية: خشية من اختراقات استخباراتية تحت ستار الانفتاح الدبلوماسي، ورغبة جامحة في انتزاع دعم عسكري عاجل يختبر صدق التزامات موسكو. هذه المفارقة تسلّط الضوء على طبيعة العلاقة الناشئة بين طالبان وروسيا، حيث تتقاطع براغماتية المصالح مع ظلال عدم الثقة المتبادل.
يمثّل الاعتراف الروسي بحكومة طالبان تتويجًا لمسار تدريجي من التقارب الحذر بين الجانبين خلال السنوات الأخيرة. فمنذ عودة طالبان إلى الحكم في كابُل في أغسطس (آب) 2021، إثر الانسحاب الأمريكي، انتهجت موسكو سياسة براغماتية للتعامل مع “الأمر الواقع” الجديد في أفغانستان. وفي أبريل (نيسان) 2025، أقدمت روسيا على خطوة غير مسبوقة بشطب اسم حركة طالبان من قائمة التنظيمات الإرهابية المحظورة لديها، بعد أن أدرجتها فيها منذ عام 2003 إبّان تحالف طالبان السابق مع متمردي الشيشان. جاء هذا القرار بعد نقاشات داخلية مطولة في موسكو بين أجنحة ترى ضرورة الانخراط الواقعي مع سلطات كابُل الجديدة، وأخرى (خاصة في أجهزة الأمن الروسي) أبدت تحفظًا على منح الشرعية لمن كانت تعدّه عدوًّا أيديولوجيًّا حتى وقت قريب، لكن الكفة رجحت في نهاية المطاف لصالح أصوات البراغماتيين: طالبان هي الحاكم الفعلي لأفغانستان، ولا بوادر لزوالها عن السلطة قريبًا؛ ومن ثم فلا مناص من التعامل معها لضمان مصالح روسيا الأمنية والاقتصادية. بهذا المنطلق، سعت موسكو -في الأشهر التي سبقت الاعتراف الرسمي- إلى توثيق الصلات، فاستضافت وفودًا لطالبان في منتديات اقتصادية (مثل منتدى بطرسبورغ الاقتصادي عام 2024)، وأجرت لقاءات رفيعة المستوى، شملت وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ونظراءه من حكومة طالبان، حتى إن الرئيس فلاديمير بوتين نفسه وصف طالبان في منتصف 2024 بأنها “حليف في محاربة الإرهاب”، في إشارة إلى العدو المشترك المتمثل في تنظيم “داعش- ولاية خراسان” (فرع داعش في أفغانستان).
في الثالث من يوليو (تموز) 2025، بدأ هذا المسار بإعلان روسيا رسميًّا اعترافها بحكومة “إمارة أفغانستان الإسلامية” تحت قيادة طالبان. تسلّم نائب وزير الخارجية الروسي أوراق اعتماد السفير الأفغاني الجديد لدى موسكو، ورُفع علم طالبان فوق مبنى السفارة في العاصمة الروسية للمرة الأولى منذ سقوط نظامهم الأول عام 2001. وصفت طالبان الخطوة الروسية بأنها “قرار شجاع”، وتأمل أن يكون مثالًا تحتذي به دول أخرى كانت لا تزال مترددة في التطبيع الدبلوماسي معها. أما موسكو، فعُلّقت الآمال على أن يُترجم هذا الاعتراف إلى نفوذ روسي متقدم في كابُل، ويمنحها دورًا قياديًّا في رسم التوازنات الأمنية الإقليمية في آسيا الوسطى وجنوبها، خاصة في ظل الفراغ الذي خلّفه الانسحاب الأمريكي.
رغم حفاوة طالبان الحذرة بالانفتاح الروسي، كشفت وثيقة استخباراتية مسرّبة من كابُل عن قلق عميق يسود قيادة الحركة من الوجه الآخر للاعتراف الدبلوماسي؛ فبحسب تلك الوثيقة الصادرة عن المديرية العامة للمخابرات التابعة لطالبان، بتاريخ 7 يوليو (تموز) 2025، لوحظ ازدياد في أعداد الوافدين الروس إلى أفغانستان تحت اسم “السياحة”، أو ضمن بعثات ثقافية وإعلامية منذ إعلان الاعتراف. وترى المخابرات الطالبانية أن هذه الوفود قد تكون غطاءً لنشاط استخباراتي، حيث جاء في نص الوثيقة: “بسبب اعتراف روسيا بإمارة أفغانستان الإسلامية، فإن عدد السيّاح الروس الوافدين إلى البلاد ازداد. تدخل هذه المجموعات البلاد بصفة سيّاح، وضمن بعثات ثقافية أو إعلاميين، ولكن لهم أغراض استخبارية”.
هذا التحذير الداخلي يعكس ذهنية طالبان الحاكمة التي اكتسبتها خلال عقود من السرية والحذر، فالحركة التي عايشت حروبًا طويلة ومؤامرات خارجية تتوجس من أي تزايد مفاجئ في الوجود الأجنبي، وإن أتى من دولة صديقة كروسيا، ويمكن تفهّم خلفية هذا القلق لعدة اعتبارات موضوعية، منها:
بناءً على ذلك، يمكن فهم أن طالبان إذ ترحّب بمجيء المستثمرين والسياح الروس لما يحملونه من فوائد اقتصادية ودعائية، فإنها -في الوقت نفسه- ستتعامل معهم بحذر، وترصد تحركاتهم بدقة، وربما تعمد أجهزة الأمن الأفغانية إلى تشديد الرقابة على أي وفود روسية، والتدقيق في خلفيات الزائرين وأهدافهم المعلنة. هذا الوضع يضع العلاقة الوليدة في معادلة دقيقة: كيف تحقق طالبان مكاسب الانفتاح مع روسيا دون أن تسمح باختراق سيادتها الأمنية؟ الإجابة ستعتمد على مدى شفافية الروس في تحركاتهم، واحترامهم لحساسية طالبان الأمنية، وعلى قدرة طالبان في التمييز بين التعاون المشروع والتدخل الاستخباراتي المستتر.
إذا كانت مخاوف التجسس تعكس جانب الحذر لدى طالبان، فإن الجانب الآخر الذي كشفته الوثائق المسرّبة يمثل طموح الحركة للاستفادة القصوى من الاعتراف الروسي عن طريق تحصيل دعم عسكري ملموس، فقد أظهرت وثيقة ثانية مؤرخة أوائل يوليو (تموز) 2025، صادرة عن وزارة الدفاع في حكومة طالبان وموجهة إلى وزارة الخارجية الأفغانية، نية الحركة التقدم بطلب رسمي إلى موسكو للحصول على معدات عسكرية وأسلحة متطورة بكميات كبيرة من روسيا. تقول الوثيقة: “بما أن روسيا اعترفت أخيرًا بالإمارة الإسلامية، فستبدأ في المستقبل مرحلة جديدة من التعاون. تحتاج وزارة الدفاع الوطني إلى المعدات العسكرية من هذا البلد، وهي تتميّز بجودة عالية وكميات كبيرة. من أجل هذا الهدف، نعتزم شراء المعدات المذكورة من روسيا على أساس التفاهم المتبادل؛ لأنهم قد تعاونوا معنا في بعض المجالات”.
ومع أن النص جاء في سياق مخاطبة دبلوماسية معتادة، فإن تسريب هذه الخطة كشف عن إستراتيجية أعمق لدى طالبان. فبحسب المصدر الأفغاني الذي سرّب الوثيقة للصحافة الروسية، تسعى وزارة دفاع طالبان إلى “سباق مع الزمن” للحصول على الأسلحة الروسية، وترى في ذلك اختبارًا عمليًّا لمصداقية موسكو، أي إن الحركة تريد من خلال طلب التسليح الضخم هذا أن تتثبت بالأفعال لا الأقوال من مدى استعداد الكرملين للمضي قدمًا في دعمها أمنيًّا وعسكريًّا.
من وجهة نظر طالبان، إذا كانت روسيا جادة في بناء شراكة إستراتيجية مع حكومتها، فعليها أن تبرهن على ذلك بسرعة عن طريق تزويدها بما تحتاج إليه من عتاد وسلاح، دون تأخير أو تلكؤ، بل إن طالبان -كما نقل المصدر- تدرك أن الجيش الروسي منهمك في حربه على الجبهة الأوكرانية، ويعاني ضغوطًا على مخزونه من الأسلحة؛ ولذلك فإن إبداء موسكو استعدادها لتلبية طلب كابُل -رغم تلك الضغوط- سيكون دليلًا قويًّا على صدق نياتها. أما مماطلة روسيا، أو تذرعها باحتياجاتها الخاصة لعدم تلبية الطلب الأفغاني، فسيُفسَّر في كابُل على أنه تراجع في الدعم، وضعف في الالتزام؛ مما يعزز شكوك طالبان في حقيقة المبادرات السياسية الروسية تجاهها.
هنا يبرز تساؤل مهم: ما الذي تريده طالبان تحديدًا من السلاح الروسي؟ ولماذا الآن؟ للإجابة، ينبغي فهم ظروف طالبان العسكرية والسياسية الحالية:
لكن في المقابل، يواجه الجانب الروسي حسابات معقدة بشأن الاستجابة لمطلب طالبان التسليحي؛ فمن جهة، ترغب موسكو في ترسيخ نفوذها في كابُل، وتعزيز الشراكة الأمنية ضد عدو مشترك (داعش)؛ ومن ثم قد تنظر إيجابيًّا في دعم طالبان عسكريًّا بحدود معينة. وربما تجد روسيا مصلحة في تسليح طالبان لموازنة النفوذ الغربي سابقًا في المنطقة، وإظهار أنها تملأ فراغ القوة هناك. أضف إلى ذلك أن صفقات السلاح -إن تمت بمقابل مالي أو تبادل تجاري- قد تعود على موسكو بعوائد اقتصادية أو امتيازات (مثل عقود في قطاعات التعدين والطاقة الأفغانية الغنية بالموارد)، لكن موسكو تخوض حربًا مرهقة في أوكرانيا تستهلك جزءًا كبيرًا من مخزونها التسليحي وصناعتها الدفاعية، وأي دعم كبير لطالبان بالأسلحة في هذه المرحلة ربما يعني اقتطاعًا من موارد يحتاج إليها الجيش الروسي نفسه. قد تلجأ روسيا إلى حلول وسط، مثل تزويد طالبان بمعدات عسكرية فائضة أو قديمة نسبيًّا لا تؤثر في جاهزية قواتها، أو تقدم الدعم على شكل تدريب وصيانة تقنية لمعدات طالبان القائمة بدلًا من توريد أنظمة جديدة. كما أن روسيا ستزن تبعات أي صفقة سلاح كبيرة مع طالبان على صعيد العلاقات الدولية؛ فبينما هي غير مكترثة كثيرًا برأي الغرب في هذا الشأن، قد يهمّها عدم إثارة قلق دول الجوار الأفغاني، أو حلفاء روسيا التقليديين. على سبيل المثال، دول آسيا الوسطى الحليفة لموسكو قد تتحفظ على تسليح طالبان إذا شعرت أنه يُخلّ بتوازن القوى الحدودي، خاصة طاجيكستان التي لديها تاريخ من التوتر مع الحركة بسبب استضافة دوشانبه للمعارضة الأفغانية، ورفضها الاعتراف بطالبان. كما قد تخشى إسلام آباد (حليف روسيا الناشئ) من أن تسليح طالبان على نحو مفرط قد يُقوّي شوكة حركة “طالبان باكستان” المتمردة عليها، التي تستظل بسلطة كابُل. هذه الحسابات الإقليمية تجعل القرار الروسي أكثر تعقيدًا.
تكشف هذه التطورات أن العلاقة بين طالبان وروسيا في مرحلة ما بعد الاعتراف الرسمي تحكمها معادلة دقيقة من المنفعة المتبادلة المشوبة بالحيطة والحذر؛ فروسيا سعت إلى الاعتراف بطالبان لتسجيل نقطة جيوسياسية تُظهر بها تحديها للمعايير الغربية، واستعادة صورة القوة المؤثرة في الإقليم. في المقابل، تطمح طالبان إلى ترجمة هذا الاعتراف إلى مكاسب ملموسة تعينها على تثبيت حكمها وكسر طوق العزلة، لكن كل طرف يراقب الآخر بعين مفتوحة: طالبان تتساءل إن كان الدعم الروسي سيستمر عند حدود المجاملات الدبلوماسية أم سيتعداها إلى أفعال حقيقية، وروسيا تتساءل عن مدى موثوقية طالبان بوصفها شريكًا طويل الأمد يمكن الاستثمار فيه.
من المرجح أن تشهد الفترة المقبلة مساومات هادئة خلف الأبواب المغلقة لوضع أسس التعاون الروسي- الأفغاني. قد تطلب موسكو ضمانات مقابل أي دعم عسكري، كتعهد طالبان بعدم توفير ملاذ لجهاديين أجانب قد يهددون مصالح روسيا، أو مشاركة أوثق في جهود مكافحة تهريب المخدرات التي تتدفق من أفغانستان وتؤرق موسكو. وعلى الجانب الآخر، ستستمر طالبان في مطالبة الروس باحترام سيادتها الأمنية، وكبح أي أنشطة استخباراتية غير منسّقة، وربما تعرض قنوات تنسيق أمنية مشتركة لضبط أي تحركات مريبة من الجانبين.
إذا نجح الطرفان في بناء قدر من الثقة العملياتية -كأن تلبي موسكو بعض مطالب التسليح تدريجيًّا، وتسمح طالبان بوجود تقني أو استخباراتي روسي محدود ومراقَب لمتابعة خطر داعش مثلًا- فقد تتوطد العلاقة أكثر، وتأخذ طابع تحالف وظيفي يخدم مصالحهما ضد خصوم مشتركين. أما إذا أخفقت هذه العملية، وبقيت موسكو مترددة في الدعم الملموس، أو استمرت طالبان في رصد “جواسيس” وإطلاق الاتهامات، فقد تسود حالة برود وجفاء وراء الواجهة الدبلوماسية؛ وعندئذ ربما تُبطئ روسيا اندفاعتها، وتعيد تقييم جدوى رهاناتها في أفغانستان، وربما تبحث طالبان عن شركاء آخرين أكثر استعدادًا (كالصين مثلًا التي تربطها بها مصالح اقتصادية متنامية) لسد الفراغ.
في المحصلة، أصبحت أفغانستان تحت حكم طالبان ساحة اختبار جديدة للسياسة الروسية ولبراغماتية طالبان معًا؛ فاعتراف موسكو منح الحركة دفعة معنوية تحتاج إليها على الساحة الدولية، لكنه أيضًا وضعها أمام امتحان إثبات حسن النية. الوثائق المسرّبة أوضحت أن طالبان لن تكتفي بالرموز والشعارات؛ بل تريد مكاسب حقيقية وآنية من حليفها الروسي المستجد، وفي الوقت عينه، أظهرت أن طالبان ستظل حذرة، تفرمل اندفاعها نحو الأحضان الروسية بخوفٍ عميق من تكرار أخطاء الماضي حين تسللت قوى أجنبية في ثياب الأصدقاء. هكذا، سيكون على موسكو -إن أرادت إنجاح رهانها الأفغاني- أن توازن بين تقديم الدعم المحسوس لطالبان وطمأنة هواجسها السيادية. الأيام والأسابيع المقبلة كفيلة بالإجابة عمّا إذا كانت روسيا ستجتاز اختبار طالبان الصعب، وعما إذا كانت طالبان ستكسب في المقابل شريكًا يعتمد عليه، أم ستبقى وحيدة في مواجهة تحديات الداخل والخارج؟
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.