في خطوة تاريخية نحو إعادة إعمار دولة أنهكتها سنوات من الصراع، شرعت سوريا في رحلة طموحة لاستعادة قطاع الطاقة لديها وإحياء اقتصادها. في 29 مايو (أيار) 2025، شهد الرئيس أحمد الشرع توقيع مذكرة تفاهم بقيمة 7 مليارات دولار في دمشق، لتكون أكبر استثمار في البنية التحتية بعد الحرب في تاريخ سوريا. هذه الصفقة التحويلية، التي تقودها شركة “أوربيكون القابضة” القطرية، إلى جانب تحالف عالمي، تعد بإعادة تشكيل مشهد الطاقة السوري، وخلق فرص عمل، ووضع حجر الأساس للتعافي الطويل الأمد.
جوهر هذه المبادرة هو بناء خمس محطات طاقة متطورة (أربع تعمل بالغاز وواحدة بالطاقة الشمسية) ستوفر -مجتمعة- أكثر من 50% من احتياجات سوريا من الكهرباء، لترفع بذلك القدرة الإنتاجية الحالية للبلاد إلى ثلاثة أضعاف، بطاقة مخطط لها أن تبلغ 10,000 ميغاواط. ستتناول هذه المشروعات النقص الحاد في الطاقة بسوريا، حيث تبلغ القدرة الحالية 5,170 ميغاواط، في حين يتراجع الإنتاج الفعلي إلى 1,600 ميغاواط فقط بسبب نقص الوقود، وينتج عن ذلك تحمل السوريين للكهرباء من ساعتين إلى أربع ساعات يوميًّا فقط، مع استخدام الشبكة بنسبة لا تتجاوز 12.5%.
سيشرف التحالف، المكون من “أوربيكون القابضة” (قطر)، و”باور إنترناشيونال” (الولايات المتحدة)، و”جينجيز إنرجي” (تركيا)، و”كاليون” (تركيا)، على تطوير أربع محطات غاز بطاقة 4,000 ميغاواط، ومحطة شمسية بطاقة 1,000 ميغاواط. من المقرر الانتهاء من محطات الغاز خلال ثلاث سنوات ونصف السنة، في حين ستكون المحطة الشمسية جاهزة للتشغيل في أقل من عامين. إلى جانب تعزيز إمدادات الكهرباء، من المتوقع أن تخلق هذه المشروعات 50 ألف فرصة عمل، وتدعم البنى التحتية الحيوية، مثل المستشفيات والمدارس، وتعزز قدرات الري والصناعة، وتقوي تجارة الكهرباء الإقليمية. كما يشير إدراج محطة للطاقة الشمسية إلى التزام سوريا بمستقبل طاقة أنظف وأكثر استدامة.
ويضيف إلى التفاؤل تقديرات أولية تشير إلى أن سوريا قد تمتلك 40 تريليون قدم مكعبة من احتياطيات الغاز غير المستغلة في أحد أغنى الأحواض الجيولوجية في العالم. هذا الاكتشاف الذي تم في يونيو (حزيران) 2010 يمكن أن يمهد الطريق للاستكشاف البحري، مما قد يعيد تموضع سوريا كفاعل مهم في السوق العالمية للطاقة.
يمتد التعافي الاقتصادي السوري إلى ما هو أبعد من الطاقة، حيث تشير العلاقات التجارية المنعشة إلى إعادة اندماج أوسع في الأسواق العالمية، فالعلاقات التجارية مع المملكة العربية السعودية، التي انخفضت بنسبة 80% بين عامي 2010 و2020، تشهد انتعاشًا. في عام 2010، بلغت التجارة بين البلدين 1.724 مليار دولار، ولكن بحلول عام 2020 انخفضت إلى 675 مليون دولار، وشكل إعادة فتح معبر نصيب الحدودي مع الأردن في عام 2018 نقطة تحول؛ مما سهل تدفق السلع الزراعية والصناعية السورية إلى أسواق الخليج.
بحلول عام 2020، بلغ إجمالي الصادرات السورية إلى السعودية 140 مليار ليرة سورية، في حين وصلت الواردات إلى 370 مليون ليرة سورية. وفي عام 2024، ارتفع حجم التجارة إلى 320 مليون دولار، محققة سوريا فائضًا تجاريًّا قدره 36 مليون دولار. تشمل صادرات السعودية إلى سوريا: البلاستيك والبن والشاي والتوابل والسيراميك والفواكه والمواد الكيميائية غير العضوية. في المقابل، تصدر سوريا الفواكه والخضراوات المصنعة والطازجة، والدهون الحيوانية والنباتية، والبن، والشاي، والتوابل، ومنتجات الألبان.
لعقود، شلت العقوبات الاقتصاد السوري، وعزلته عن الأسواق العالمية، وزادت حدة الأزمات الإنسانية. صنفت الولايات المتحدة سوريا دولةً راعية للإرهاب في عام 1979، تلاها تشديد العقوبات في عام 2004 بموجب قانون محاسبة سوريا. أدى اندلاع الحرب الأهلية السورية في عام 2011 إلى إجراءات صارمة من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وكندا وجامعة الدول العربية، شملت حظر استيراد النفط، وتجميد الأصول وقيودًا مالية، وزاد قانون قيصر لعام 2019 الضغط من خلال فرض عقوبات ثانوية تستهدف الكيانات التي تتعامل مع الحكومة السورية.
أدت هذه الإجراءات إلى انخفاض حاد في التجارة، وعزل مصرفي، وتراجع قيمة العملة، وارتفاع مفرط في التضخم، مما جعل السلع الأساسية والإمدادات الطبية غير متاحة للكثيرين، وقيد نقص الوقود الصناعات، وكانت الخسائر الإنسانية مروعة، حيث نزح الملايين، ويحتاج 16.5 مليون شخص إلى المساعدة في عام 2025.
حدث تحول جذري في مايو (أيار) 2025، عندما رفع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة العقوبات الاقتصادية بعد سقوط نظام الأسد في ديسمبر (كانون الأول) 2024، وفتح هذا الباب أمام المصرف المركزي السوري والمؤسسات المالية للاتصال مرة أخرى بالأسواق العالمية، وإتاحة ما يقدر بنحو 15 مليار دولار من الأصول المقيدة لإعادة الإعمار. ووصفت وكالة الأمم المتحدة للهجرة هذه الخطوة بأنها “رسالة أمل قوية”، مشيرة إلى عصر جديد من الفرص للنازحين السوريين، والأمة بأسرها.
يمثل إعمار سوريا مهمة جسيمة، حيث قدر وزير الاقتصاد السوري الحاجة إلى تريليون دولار على الأقل لاستعادة الاقتصاد بالكامل، وهو ما يفوق بكثير التقديرات السابقة البالغة 400 مليار دولار. وقد تعهدت المملكة العربية السعودية وقطر بتقديم دعم مالي لموظفي الحكومة، مما يعزز الاستقرار الاقتصادي. ومن المتوقع أن تجذب صفقة ميناء طرطوس، ورفع العقوبات، الاستثمار الأجنبي المباشر، في حين أدى إعادة فتح معبر نصيب الحدودي إلى تعزيز التجارة الزراعية والصناعية بالفعل.
تعمل الحكومة السورية على وضع خريطة طريق استثمارية تستهدف قطاعات السياحة والصناعة والنقل، بما في ذلك المواني والسكك الحديدية. ومع ذلك، لا تزال التحديات قائمة، حيث لا يزال 16.5 مليون شخص بحاجة إلى المساعدة الإنسانية، وتدعو المجتمع الدولي إلى حلول تعافٍ طويلة الأمد تتجاوز المساعدات الإنسانية، كما يشير إعادة افتتاح السفارات الأجنبية المتوقعة إلى استقرار متزايد، وثقة من المستثمرين.
يمثل استثمار سوريا في الطاقة بقيمة 7 مليارات دولار، إلى جانب تجدد الروابط التجارية ورفع العقوبات، لحظة محورية في تعافي الأمة. إن بناء محطات طاقة حديثة، وإمكانات احتياطيات الغاز الضخمة، وتعزيز الشراكات الاقتصادية مع القوى الإقليمية، مثل السعودية وقطر، تضع الأساس لسوريا متجددة. ومع أن الطريق إلى التعافي الكامل طويل ومملوء بالتحديات، فإن هذه التطورات تقدم شعاع أمل لأمة مستعدة للبناء من الصفر.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.