توطئة
في مقال سابق، أنشأته تحت عنوان: “نظرة تحليلية في لقاء بوتين مع تاكر كارلسون”، للحديث عن لقاء الرئيس الروسي فلادمير بوتين مع الصحفي الأمريكي الشهير تاكر كارلسون، حدثتك عن المقدمة التي افتض بها بوتين كلامه في ذلك اللقاء، وأنها تضمنت المنهج الذي يفهم به، ويقاس عليه، ويرجع إليه كل كلام بوتين في ذلك اللقاء، بل توجه الكرملين وسياساته.
ومن الناس من لقي في مقالي ذاك ضربًا من الغموض، ونوعًا من الإبهام، وذلك إما لعلة في أنفسهم وقفت بهم دون الأنات في محاولة فهم ما كتب، وإما لعلة قائمة في نفسي تمنعني من الإحسان في البيان، وأنا الآن أحاول أن أزيد الأمر بيانًا ووضوحًا.
ما قام به بوتين، من جعل مقدمة طويلة مملة يفهم وفقها ما سيأتي من كلام في حواره مع تاكر كارلسون، إنما جرى فيه على مجرى علماء الإسلام في مصنفاتهم وكتبهم، وكان أول من استنَّ هذه السنة في الإسلام، وفي غيره، هو الإمام مسلم بن الحجاج، وذلك في صحيحه.
هو الإمام الكبير الحافظ المجود الحجة الصادق، أبو الحسين، مسلم بن الحجاج بن مسلم بن ورد بن كوشاذ، القشيري النيسابوري، وقيل إنه ولد سنة أربع ومائتين1.
أخذ عن جم غفير، وأخذ عنه الكثير، وأفنى حياته في طلب الحديث، فطاف في البلاد، وجاب الصخر بالواد وهو يقتفي أثر الحديث النبوي، ثم هو بعد ذلك وصل أطراف الليل بآناء النهار في دراسته، وفرز صحيحه من سقيمه، والنظر في علله، وتعقب رجاله، واستخراج نكته وأسراره.
ومن أهم مصنفاته: “صحيح مسلم”، و”الطبقات”، و”الكنى”، و”الأسماء”، و”المُنفردات والوحدان”، و”التمييز”.
وتوفي- رحمه الله- في شهر رجب سنة إحدى وستين ومئتين، بنيسابور، عن بضع وخمسين سنة 2.
هذه ترجمته باختصار شديد مخل، لا يفي بالغرض؛ تجنبًا للإطالة والاسترسال، وحرصًا على عدم الزج بالقارئ في أمور تقتضيها الترجمة، لا تفيد غير المتخصص.
هو أحد المصنفات الحديثية الستة المعتبرة عند أهل السنة والجماعة، وثاني أصح الكتب عندهم في هذا الموضوع، بعد صحيح البخاري، وأهل المغرب يقدمونه على صحيح البخاري.
وقد قضى صاحبه في تأليفه خمس عشرة سنة، وقسمه إلى كتب، وكل كتاب يقسم إلى أبواب، وعدد كتبه (54) كتابًـا، أولها كتاب الإيمان، وآخرها كتاب التفسير، وعدد أحاديثه بدون المكرر نحو (4000) حديث، وبالمكرر نحو (7275) حديثًا.
كما حدثت في الذي مضى من هذا المقال، أن بوتين جعل للقائه مع تاكر كارلسون مقدمة، كانت بمنزلة المنهج الذي يفهم وفقه كل ما سيأتي لاحقًا في ذلك اللقاء، وحدد فيها الأصول التي يسير عليها توجه الدولة الروسية، وهذا الذي فعله بوتين إنما جرى فيه مجرى علماء الإسلام الذين جاءوا بعد الإمام مسلم بن الحجاج.
كان الإمام مسلم أول من ابتدع سنة المقدمة، وفق النحو الذي نتحدث عنه الآن وندور عليه في كلامنا في هذا المقال، ليس فقط عند علماء الإسلام؛ بل حتى عند غيرهم، حيث افتتح كتابه الصحيح، بمقدمة طويلة جعلها مفتاحًا لكتابه، وكشف فيها عن اصطلاحه، وشروطه في القبول والرد، وطرقه في النقد.
ولا يمكن لقارئ، أو باحث، أو دارس، أن يصل إلى الفهم الجيد لكتاب الصحيح، دون النظر إليه من تلك المقدمة، أو إهمال الرجوع إليها.
وقد صار علماء الإسلام، بعد الإمام مسلم، في تصنيفاتهم ومؤلفاتهم على هذا النحو، فجعلوا لكتبهم مقدمات يجوز أن تطبع وحدها، يكشفون فيها عن منهجهم، والقواعد التي تبنى عليها اختياراتهم.
أما قبل أن يبتدع الإمام مسلم هذه البدعة الحسنة في التصنيف، ويتبعه عليها من لحقه من الكتاب والمؤلفين، فقد كان أمر كشف المنهج الذي سار عليه المصنف موكلًا للنقاد، سواء المعاصرون له أو اللاحقون به، فكانوا يستقرؤون ويتتبعون حتى ينتهي بهم الأمر إلى تحديد المنهج المتبع، وهذا العمل هو عمل شاق متعب، يتطلب ما يتطلب من دقة النظر، وسرعة البديهة، إضافة إلى طول الصبر، وإعنات الرؤية.
ومن الأمثلة على ما كان عليه الأمر قبل الإمام مسلم، نذكر الإمام البخاري، الذي لم ينشئ لكتابه الصحيح مقدمة يكشف فيها عن منهجه، وطريقته، وأسلوبه في ذاك الكتاب، وأما شرطه مثلًا في الحديث المعنعن إذا كان الراوي مدلسًا، وهو شرط “اللقي”، فإنه لم يرد على لسانه قط؛ وإنما كان من عمل النقاد اللاحقين، وصاغوا الشرط هكذا: “اللقي والمعاصرة”، وذلك حتى تتم لهم مقارنة هذا الشرط مع نظيره في مقدمة مسلم، الذي اشترط في الحديث المعنعن المروي عن المدلس شرط “المعاصرة”، فحتى تتم لهم المقارنة عبروا عن شرط البخاري بقولهم: “اللقي والمعاصرة”، مع أن اللقي يتضمن المعاصرة.
من الدقة التي نجدها عند علماء الإسلام أن عناوين الكتب تدل على الغرض من تصنيفها، ومن هذه العناوين تجد كتبًا معنونة بـ”المقدمة”، ومن أمثلتها مقدمة ابن الصلاح، ومقدمة في أصول التفسير لابن تيمية، ومقدمة في أصول الفقه لابن القصار.
فحين تجد كتابًا أو مصنفًا عنونه صاحبه بـ”المقدمة”، فإن موضوع الكتاب يكون هو المنهج، إما منهجه الخاص، وإما تقعيدًا لعلم معين، بعدما يكون ذلك العلم استوى على سوقه.
كما أن هناك من عمد إلى الكشف عن منهجه عمومًا في مقدمة كتابه، كما فعل ابن عبد البر في مقدمة التمهيد، وابن حجر في مقدمته التي سماها هدي الساري.
هذا- بإيجاز شديد- دور المقدمة، وما شُرعت له وما أُنشئت لأجله. أما بوتين، وهل كان يدرك هذه الأمور الخاصة بالمقدمة، أو فرضتها عليه سليقته، أو يعلم بها أحد ممن هم حوله، من الذين أعدوا للقاء مع كارل كارلسون؟ فهذا مما لا أملك له جوابًا، وما يدريك لعله كان يعلم دورها، لكن الذي أعلمه أنه كشف فيها عن منهجه، ومنهج الكرملين، والأصول التي تبنى عليها السياسة الروسية، وتنطلق منها، وتفهم وفقها.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.