مقدمة
قبل ثلاثة أيام فقط من تنصيب دونالد ترمب رئيسًا جديدًا للولايات المتحدة الأمريكية، وتحديدًا في السابع عشر من يناير (كانون الثاني) الجاري، وقّع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الإيراني مسعود بزشكيان معاهدة الشراكة الإستراتيجية الشاملة. ورغم البنود الحيوية للمعاهدة بشأن التعاون الدفاعي، وتبادل المعلومات الاستخباراتية، وتطوير الطاقة النووية، فإن البلدين لا يزالان متنافسين إقليميين على بسط النفوذ في أنحاء الشرق الأوسط، ويشكلان علاقة تحالف ذات طبيعة معاملاتية إلى حد كبير، ليبقي التساؤل الأهم مطروحًا: هل ستغير آمال توثيق الشراكة الإستراتيجية بين موسكو وطهران جوهر العلاقة المعقدة والمتشابكة بين البلدين؟
قبل الخوض في تفنيد بنود المعاهدة التي وقعتها روسيا وإيران منذ أيام، لا بد من التطرق إلى الإطار العام الذي يحكم علاقة البلدين ذوي التاريخ الطويل والقواسم المشتركة، والعلاقات الاقتصادية العميقة، والتعاون في سياق المنظمات الإقليمية والدولية، التي يعد من أبرزها منظمتا شنغهاي والبريكس، وفي هذا الصدد يعود تاريخ التعاون الإستراتيجي بين روسيا وإيران إلى أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حين وُقِّعَ اتفاق إستراتيجي وضع مبادئ التعاون بين البلدين لمدة 10 أعوام، وكانت الاتفاقية الأولية تتعلق بتوسيع العلاقات الاقتصادية والثقافية والسياسية، مع التركيز -على نحو أقل- على التعاون الأمني والعسكري، غير أن المتغيرات الجيوسياسية على مدى السنوات القليلة الماضية فرضت الحاجة إلى نسخة جديدة من المعاهدة؛ لذا أعلنت روسيا والجمهورية الإسلامية الإيرانية التوقيع على اتفاقية شراكة إستراتيجية شاملة تمتد إلى عشرين عامًا تعكس مصالحهما المشتركة في الاستقرار الإقليمي، ومواجهة النفوذ الغربي، وتضمنت 47 بندًا تغطي معظم مجالات التعاون، بالتركيز على النقل، وقطاع الطاقة، والدفاع، والأمن الإقليمي، بالإضافة إلى التعاون العسكري والدفاعي، والاهتمام بتطوير التعاون العسكري الفني على أساس الاتفاقيات ذات الصلة بينهما، ولعل المادة الأهم في هذا البند تنص على أن كلا البلدين لن يسمح باستخدام أراضيه لأي عمل من شأنه أن يهدد سلامة البلد الآخر، ولا يقدم أي مساعدة لأي طرف يهاجم أيًّا من البلدين، دون الإشارة إلى تقديم مساعدات عسكرية أو مادية إلى الطرف المحارب.
كما شملت المعاهدة إقامة علاقات اقتصادية مباشرة بين البلدين من خلال عقد البعثات التجارية والمؤتمرات والمعارض والأسواق، وتسهيل تنمية التعاون التجاري والاقتصادي والصناعي، وتطوير التعاون الإقليمي، مع إعطاء أهمية خاصة لتوسيع نطاق العلاقات الثنائية بالكامل، ومن أجل تعزيز حجم التجارة المتبادلة تضمنت المعاهدة استخدام العملات الوطنية في التجارة الدولية، ودعم التعاون الوثيق في مجال النقل، والعمل على تطوير ممرات النقل الدولية، وخاصة ممر النقل الدولي من الشمال إلى الجنوب، إلى جانب توسيع التعاون في مجال الطاقة من خلال التعاون المكثف في مشروعات تطوير حقول النفط والغاز، فضلًا عن التعهد بتنفيذ المشروعات المشتركة في مجال الاستخدام السلمي للطاقة النووية، ومن ذلك بناء منشآت الطاقة النووية.
لقد أصبحت العلاقة بين روسيا وإيران أقوى منذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية، وأصبح التحالف عبارة عن شراكة جيوسياسية أساسية، مبنية على المصالح المتبادلة، وتكتسب هذه الصلة أهمية خاصة في الوقت الذي تواجه فيه إيران تحديات ترتبط بالحرب الإسرائيلية على حلفائها في المنطقة، التي أسفرت عن ضعف قوى محور المقاومة وتفكيكها، فضلًا عن انهيار النظام السوري والإطاحة ببشار الأسد؛ ما عرض النفوذ الإيراني والمصالح الإستراتيجية لطهران في المنطقة للخطر؛ لذا تسعى الجمهورية الإسلامية من خلال توثيق علاقاتها مع روسيا إلى:
مع أن المعاهدة التي وُقِّعَت يوم الجمعة الماضي تشير إلى شراكة أعمق، فإنها لا تتضمن بند الدفاع المتبادل، ولا تشير إلى تشكيل تحالف رسمي، ولعل هذا يعكس حدود العلاقة بين إيران وروسيا، التي ظهرت بالفعل في سوريا، فلم تتمكن طهران وموسكو من إيجاد أرضية مشتركة، وفي كثير من الأحيان كانت كل منهما تعمل على تقويض الأخرى، أو كانتا غير قادرتين على الارتقاء إلى مستوى التحدي المتمثل في إعادة بناء البلاد، وقد تصبح الإدارة السورية الجديدة أيضًا نقطة خلاف بين روسيا وإيران، مع احتفاظ موسكو بنهج أكثر تصالحية مع النظام الجديد.
وفضلًا عن مستقبل سوريا، فإن العلاقات بين إيران وروسيا ليست خالية من التحديات، حيث يواجه البلدان تحديات اقتصادية من شأنها أن تعوق استدامة شراكتهما على المدى الطويل، فقد أثرت العقوبات الاقتصادية في قدرة روسيا على الاستفادة الكاملة من احتياطياتها من الطاقة، في حين أدى اعتماد إيران على صادرات الطاقة إلى جعل اقتصادها عُرضة لتقلبات أسعار النفط العالمية، وبالإضافة إلى ذلك، تواجه إيران تضخمًا شبه مفرط بمعدل تضخم يبلغ 35%، وهو ما يشل قدرة البلاد على تطوير قوتها الاقتصادية، وتتطلب هذه التحديات من كلا البلدين أن يوجها سياساتهما الاقتصادية والدبلوماسية بعناية لتجنب تفاقم نقاط الضعف القائمة.
ولعل الاختلافات في الأجندات الجيوسياسية تمثل حواجز أمام الإمكانات الكاملة لهذه الشراكة، إذ إن روسيا لا تريد أن تُزوَّد إيران بالأسلحة النووية؛ لأن هذا من شأنه أن يغير ميزان القوى في الشرق الأوسط ضد مصالح روسيا؛ ومن ثم فقد يكون السيناريو الأفضل لموسكو هو أن تظل إيران تحت العقوبات، وتتحدى الولايات المتحدة وأوروبا بشأن برنامجها النووي؛ لأن هذا سيوفر فرصة لروسيا في التعاون مع الدول الغربية لاحتواء إيران في مقابل الحصول على تنازلات من الولايات المتحدة بشأن القضية الأوكرانية.
ومن ثم، ولأن إيران وروسيا دولتان كبيرتان وقويتان عازمتان على متابعة سياستهما الخارجية المستقلة، فإن هذا يعقد فكرة التحالف الشامل والكامل بينهما؛ ارتباطًا بأن الدولتين تسعيان تقليديًّا إلى تعظيم استقلالهما الجيوسياسي ومرونتهما، والتحالف الرسمي من شأنه أن يحرمهما من ذلك؛ ومن ثم سوف تفضل طهران وموسكو دائمًا ترتيبًا أكثر مرونة، يسمح لهما بالتعاون على تحقيق أهداف مشتركة، خاصة في الشق الاقتصادي، مع الحفاظ على الحرية في متابعة مصالحهما الخاصة والمتضاربة في كثير من الأحيان.
تسعى إيران وروسيا لتعزيز شراكتهما في ظل عدم الاستقرار الجيوسياسي العالمي. وبالنظر إلى المستقبل، فمن المرجح أن تتوطد الشراكة العسكرية بين إيران وروسيا، مع التركيز على جهود مكافحة الإرهاب المتبادلة، وضمان الاستقرار الإقليمي، ومزيد من التعاون في مجال صفقات التسلح، وسوف يؤدي هذا دورًا محوريًّا في تعزيز أمن البلدين وقدرتهما على ممارسة النفوذ الجيوسياسي في الشرق الأوسط وخارجه، بما في ذلك ديناميكيات القوة بين الولايات المتحدة وروسيا والصين؛ ومن ثم فإن مفتاح نجاح تحالف طهران وموسكو يكمن في تحقيق التوازن بين أولوياتهما المتنوعة والمتناقضة في كثير من الأحيان، والتغلب على العقبات الداخلية والخارجية، والتركيز على الأهداف الإستراتيجية الطويلة الأجل.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.