تقدير موقف

معادلة بوتين الجديدة:”التغيير على قدر الحاجة”


  • 13 مايو 2024

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: svoboda.org

أجرى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التغيير الوزاري الأول في ولايته الجديدة، وهو تغيير روتيني مُلزم وفق بنود الدستور الروسي، وتعديلاته التي تم التصديق عليها عام 2020، والتي منحت المجلس الأعلى في الجمعية الاتحادية الروسية (برلمان الاتحاد الروسي) الحق في قبول ترشيحات الحكومة الجديدة أو رفضها، بعد قبول ترشيح الرئيس لمن سيتولى رئاستها، وتشاوره مع الرئيس على أسماء الوزراء، ثم طرحها على المجلس لإقرارها، أو طلب ترشيحات أخرى بديلة.

الباقون في الحكومة الروسية الجديدة

ظل ميخائيل ميشوستين رئيسًا لمجلس الوزراء؛ وسيرغي لافروف وزيرًا للخارجية، عكس توقعات الكثيرين بتغييرهما. في المناصب الأمنية ووكالات إنفاذ القانون، ظل كل من: كونستانتين تشويتشينكو وزيرًا للعدل؛ وفلاديمير كولوكولتسيف وزيرًا للداخلية؛ وفلاديمير كولوكولتسيف وزيرًا لحالات الطوارئ والإغاثة؛ وسيرغي ناريشكين على رأس جهاز المخابرات الخارجية؛ وفيكتور زولوتوف على رأس الحرس الوطني الروسي؛ وألكسندر بورتنيكوف مديرًا لجهاز الأمن الفيدرالي؛ وديمتري كوشنيف مديرًا لجهاز خدمة الحماية الفيدرالية في روسيا.

أثبت ميشوستين، عكس كل التخوفات إبان تعيينه في منصبه عام 2020، كفاءة منقطعة النظير في إتمام مشروعه نحو “الأَتْمَتَة” الشاملة للجهاز الحكومي الروسي، كما أنه زاد معدلات العوائد الحكومية دون إرهاق كاهل المواطنين الروس بمزيد من الضرائب. كذلك أثبتت قيادته للحكومة أنه شخص يتمتع باحترافية عالية؛ من خلال قدرته على تخطي جميع الأزمات التي نتجت عن العقوبات الغربية، وهو ما حافظ على استقرار الاقتصاد الروسي، وعدم تعرض المواطنين لهزات عنيفة من زيادات للأسعار، أو تراجع المعروض من السلع والمنتجات.

عميد الدبلوماسية الروسية، سيرغي لافروف، الذي يتولى منصب وزارة الخارجية منذ عام 2004، ويتمتع بخبرة كبيرة، يبدو أن بوتين وجد في بقائه أهمية خاصة، في ظل حاجته إلى دبلوماسي مخضرم، قادر على التعامل مع المواجهة الدبلوماسية الحامية بين روسيا والغرب الجماعي، التي لا تقل أهمية، بل ربما تزيد على المواجهة العسكرية الحالية. يتمتع لافروف بفهم عميق للتوازنات الدولية، والسياسة الغربية والأمريكية على وجه الخصوص، وقد حقق عدة نجاحات، أهمها إفشال المسعى الغربي لعزل روسيا على الساحة الدولية.

وزراء وقادة الأجهزة الأمنية وإنفاذ القانون، كان لهم دور فعال في مواجهة آثار الصراع العسكري والمعلوماتي مع أوكرانيا والغرب الجماعي، ومن المعروف في روسيا أن الاستقرار في قيادة هذه الأجهزة، حتى مع وجود بعض الثغرات، يؤدي إلى نتائج أفضل، وتحسين مستمر في كفاءاتها، من القيام بتغييرات دورية لقادتها؛ لأن هذه التغييرات تتم بالفعل للمسؤولين في جميع أفرع هذه الأجهزة الرئيسة.

يعكس قرار بوتين تثبيت هذه الشخصيات القيادية في مواقعها عقيدته الجديدة، التي تتناسب مع طبيعة المرحلة والمواجهة الحالية، التي تبدو مبنية على أن “التغيير على قدر الحاجة”، وليس “تغييرًا لأجل التغيير” فقط.

رجل الاقتصاد وزيرًا للدفاع

لعل إقالة سيرغي شويغو من منصبه وزيرًا للدفاع، لم تكن مفاجأة في ذاتها؛ نظرًا إلى مطالبة قطاع عريض من المجتمع الروسي باتخاذ هذه الخطوة منذ الشهر السادس من بدء “العملية العسكرية الخاصة” في أوكرانيا، وقد تزايدت هذه المطالبات بعد تمرد فاغنر، الذي كان موجهًا في الأساس إلى شويغو وقيادته للوزارة، لا إلى بوتين وقيادته للبلاد. لكن المفاجأة التي ربما تبدو غريبة لبعضنا عربيًّا، أن يكون بديله شخصًا مدنيًّا، وفي ظل حالة حرب واسعة النطاق مع الغرب في أوكرانيا.

مرشح بوتين لوزارة الدفاع، أندري بيلوسوف، البالغ من العمر 65 سنة، ينتمي إلى عائلة سوفيتية بيروقراطية عملت في مجال الاقتصاد، وعلى خطاهم درس بيلسوف الاقتصاد، وحصل على الدكتوراة في العلوم الاقتصادية عام 1986، وعمل طيلة العهد السوفيتي، حتى عام 2006، في القطاع الأكاديمي.

بعد تولي بوتين الرئاسة، وفي ظل عملية التجديد الشاملة التي قام بها لجميع مؤسسات الدولة، بدأ بيلسوف أول أعماله الحكومية؛ ففي الفترة من عام 2000 إلى عام 2006، عمل مديرًا عامًا لمركز التحليل الاقتصادي والتنبؤ، ومستشارًا مستقلًا لرؤساء الحكومة الروسية. ومن عام 2006 إلى عام 2008، شغل منصب نائب وزير التنمية الاقتصادية والتجارة في الاتحاد الروسي، وفي الفترة من عام 2008 إلى عام 2012، تولى منصب مدير دائرة الاقتصاد والمالية في حكومة الاتحاد الروسي. أول مناصبه الوزارية كان في الفترة من مايو (أيار) 2012 إلى يونيو (حزيران) 2013، حين أصبح وزيرًا للتنمية الاقتصادية، والمدير المُعين من روسيا في البنك الأوروبي للإنشاء والتعمير، ونائب البنك الدولي للإنشاء والتعمير.

نظرًا إلى خبراته، وما حققه من نجاحات فيما أسند إليه من مهام، قرر بوتين تعيينه، في 24 يونيو (حزيران) 2013، في منصب مساعد رئيس الدولة في القضايا الاقتصادية، حتى 21 يناير (كانون الثاني) 2020، ليتولى منصب النائب الأول لرئيس الوزراء الروسي ميخائيل ميشوستين. ومنذ عام 2022، أشرف أيضًا على تطوير تقنيات إنشاء مركبات النقل وغيرها من أنظمة التحكم الذكية. وتقديرًا لمجهوداته؛ منحه الرئيس الروسي وسام الشرف عام 2009. كما أن له كثيرًا من المؤلفات والدراسات الاقتصادية، وكتابًا بعنوان “تطور نظام إعادة إنتاج الاقتصاد الروسي.. من الأزمة إلى التنمية”، صدر عام 2006.

مختصر سيرة بيلوسوف المهنية ربما تعطينا لمحة تساعدنا على فهم طبيعة المهمة الجديدة الموكلة إليه، وهنا ينبغي التأكيد أن تعيين مدني في منصب وزير الدفاع، وهو تقليد غربي مخالف للتقاليد السوفيتية، قد بدأه بوتين منذ توليه السلطة، حيث عين أول وزير دفاع في حكومته، وهو سيرغي إيفانوف، الذي جاء من عالم المخابرات، ولم يخدم في الجيش، وبعده تولى المنصب نفسه كبير موظفي الضرائب السابق أناتولي سيرديوكوف، ثم سيرغي شويغو، وهو مهندس مدني، ومنشئ وزارة حالات الطوارئ، وحاكم منطقة موسكو؛ ومن ثم فإن خلفية بيلوسوف المدنية لا تمثل شيئًا مبتدعًا جديدًا في ظل تغيير بوتين للنظام القديم المتبع منذ السوفيت، واستمرارية حفاظه على هذا التقليد الذي بدأ منذ توليه الرئاسة عام 2000.

على مستوى التفكير الإستراتيجي، والإلمام بطبيعة المواجهة الحالية بين روسيا والغرب، وموازين القوى في النظام العالمي الجديد قيد التشكل، برز بيلوسوف بوصفه شخصًا لديه إلمام واسع بكل هذه الأمور، وهو ما ظهر جليًّا في مقابلة طويلة أجراها مع وكالة (RBC) الروسية، ومنتدى بطرسبورغ الاقتصادي الدولي عام 2023. كما أن لديه تصريحات متوازنة تجاه الغرب، رافضًا اعتباره بالكامل “عدوًا” لروسيا، لوجود كثير من الجهات المؤثرة التي تشاطرها القيم نفسها، قائلًا: “روسيا يمكن أن تصبح الوصي على القيم التقليدية للغرب”. كما أكد مفهوم الرئيس بوتين للنظام العالمي المتعدد الأقطاب، القائم على خصوصية كل أمة، قائلًا: “لكي تكون دولة ما ذات سيادة، من الضروري أن يكون لها معانيها ورؤيتها الخاصة للحياة المستمدة من ثقافتها”.

الدوافع الاقتصادية تبدو واضحة في أسباب هذا الخيار، وهو ما أكده السكرتير الصحفي الرئاسي ديمتري بيسكوف، الذي صرح للصحفيين أن تعيين بيلوسوف يرجع إلى زيادة الإنفاق العسكري: “كانت ميزانية وزارة الدفاع والكتلة الأمنية في الآونة الأخيرة لا تزال تبلغ نحو 3 % من الناتج المحلي الإجمالي، ثم ارتفعت إلى 3.4 %، ومؤخرًا إلى 6 %، وقد تصل إلى 7 % في المستقبل القريب، وهو ما يماثل مستوى منتصف الثمانينات، عندما كانت حصة الإنفاق على الكتلة الأمنية في الاقتصاد  7.4 %”. وبحسب بيسكوف: “يتطلب هذا الوضع قرارات مهمة بشكل خاص. ومن المهم جدًا دمج اقتصاد الكتلة الأمنية في اقتصاد البلاد، بحيث تتوافق مع ديناميكيات اللحظة الحالية”.

وصفت كييف خبر تعيين بيلوسوف في منصب وزير الدفاع بأنه خيار “مأساوي” لأوكرانيا. كما أكد عدد من المسؤولين والخبراء الأوكرانيين أن هذا التغيير يعني “مزيدًا من الإنفاق والتطوير للمجمع الصناعي العسكري الروسي”، وبدء مرحلة جديدة تتمتع فيها روسيا بقدرات عسكرية خاصة، أكثر قدرةً وقوةً من ذي قبل.

الخاتمة

دعم مجلس الدوما جميع المرشحين الجدد من جانب رئيس مجلس الوزراء والرئيس، وقد اعتمد التغيير الوزاري على تصعيد عدد كبير من الشباب، بعدما ثبت بالتجربة قدرتهم وكفاءتهم. ومن الملاحظ أن كثيرًا منهم تولى مناصب إدارة مناطق فيدرالية روسية، ويتمتعون بخبرة التعامل المباشر مع فئات الشعب المختلفة، ومشكلاتها اليومية.

الحفاظ على الوضع الاقتصادي المستقر، والتركيز على تطوير الصناعة، والتكنولوجيا، والنقل، والقطاع الزراعي، وضمان السيادة التكنولوجية، تمثل هذه الأمور المهام المركزية للحكومة الروسية الجديدة. تطوير قطاعات التصنيع والتكنولوجيا، وربطها بقطاعي النقل والزراعة، أولوية لدى الكرملين، وقد جاء التشكيل الوزاري لخدمة هذا الهدف.

تعيين شيرغي شويغو أمينًا عامًا لمجلس الأمن القومي الروسي، يعني أنه أصبح نائب الرئيس بوتين، الذي يتولى منصب رئيس المجلس، الذي يتمتع بصلاحيات واسعة، ودور كبير فعال. على سبيل المثال، ضمان الظروف الملائمة لممارسة رئيس الاتحاد الروسي صلاحياته في مجال الأمن؛ وتشكيل سياسة الدولة في مجالات الأمن والمراقبة والمخابرات؛ والتنبؤ بالتهديدات الأمنية وتحديدها وتحليلها وتقييمها، وتقييم الأخطار والتهديدات العسكرية، ووضع تدابير لتحييدها؛ وعليه يظل شويغو يتمتع بمكانة رفيعة المستوى داخل المنظومة الحاكمة.

تعيين بيلوسوف في منصب وزير الدفاع تكريس للتقليد الذي وضعه بوتين في تولي المدنيين مهام الوزارة المعنية في الأساس بالشؤون الإدارية، وعقد صفقات التسليح، سواء استيرادها أو تصديرها، وتوفير جميع مستلزمات الجيش من توريدات، وتعيين جميع الجنرالات في جميع مناصب القيادة وإقالتهم، وتحديد المهام والأهداف للجنرالات والجيش، أي تطبيق مبدأ سيادة المدنيين على العسكريين، أي سيادة سكان البلاد على جيش البلاد، وفقًا لتعبير الباحث السياسي الروسي سيرغي ماركوف، وهو ما سعى بوتين منذ توليه الرئاسة إلى تأكيده، في حين تنظم هيئة الأركان العامة العمليات العسكرية التي تحتاج إلى عسكريين محترفين.

لم يتعجل بوتين في إجراء التغيير المنشود على نحو كبير؛ لتحقيق التوازن بين الجيلين القديم والجديد، والوضع على الجبهتين العسكرية والدبلوماسية، وحاجته إلى ذوي خبرة قادرين على هذه المواجهة، مع إمكانية القيام بتغييرات ربما أوسع بعد نهاية العام الحالي، وظهور نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية، والبرلمانية والرئاسية في عدد من الدول الأوروبية، ليكون أي تغيير قادم “وفق الحاجة”، وبما تقتضيه مصلحة البلاد، ويضمن لها الانتصار في مواجهتها الحالية مع الغرب الجماعي.


شارك الموضوع