تُعد العلاقات بين أرمينيا وأذربيجان من أكثر الملفات تعقيدًا في منطقة القوقاز، حيث تمتد جذورها إلى عقود من الصراع المحتدم، الذي بلغ ذروته في النزاع على إقليم ناغورني قره باغ. ومع أن عام 2023 شهد تطورات دراماتيكية بإعادة الإقليم إلى السيادة الأذربيجانية بعد عملية عسكرية خاطفة، فإن الطريق نحو سلام دائم لا يزال محفوفًا بالعقبات والمخاوف المتبادلة؛ فبينما تسعى باكو إلى فرض واقع جديد يُعزز نفوذها الإقليمي، ويُكرّس مكاسبها الجيوسياسية، تواجه يريفان تحديات داخلية وخارجية تجعلها في موقف صعب بين القبول بالمعادلة الجديدة أو البحث عن خيارات بديلة قد تُعيد إشعال التوترات.
إن الحديث عن مستقبل العلاقات الأرمينية الأذربيجانية لا يمكن أن ينفصل عن التغيرات الجيوسياسية الكبرى في المنطقة، حيث تؤدي القوى الدولية دورًا متباينًا بين الدعم الحذر والتدخل الحاسم؛ مما يُضيف طبقة جديدة من التعقيد إلى المشهد؛ فمن جهة، يواجه الطرفان تحديات تتعلق بترسيم الحدود، وإعادة النازحين، وفتح ممرات النقل، ومن جهة أخرى، فإن الثقة المتزعزعة وانعدام التوافق حول المبادئ الأساسية للسلام يشكلان عقبات يصعب تجاوزها دون التزام صارم، وإرادة سياسية حقيقية.
ورغم الجهود المبذولة لتطبيع العلاقات، تبقى التساؤلات قائمة عن مدى إمكانية تجاوز الجراح العميقة التي خلفتها سنوات الحرب والعداء، وهل ستتمكن الدولتان من تجاوز إرث الماضي لتحقيق تعاون اقتصادي وسياسي مستدام، أم أن المصالح المتضاربة والأطماع الإقليمية ستُعيد النزاع إلى الواجهة؟ الإجابة عن هذه الأسئلة ستُحدد -بلا شك- مسار المنطقة ومستقبلها عقودًا مقبلة.
تعود جذور العلاقات بين أرمينيا وأذربيجان إلى قرون مضت، حيث تداخلت العوامل الجغرافية والتاريخية في تحديد مصير هذه العلاقات. خلال الحقبة القيصرية الروسية، كانت كلتا الدولتين جزءًا من الإمبراطورية الروسية، مما أدى إلى إذكاء التنافس بينهما على الأراضي والموارد. ومع انهيار الإمبراطورية الروسية عام 1917، أعلنت أرمينيا وأذربيجان استقلالهما في عام 1918؛ مما أدى إلى اندلاع نزاعات دموية بشأن إقليم ناغورني قره باغ، وهو إقليم تقطنه أغلبية أرمينية، ولكنه كان ضمن الحدود الإدارية لأذربيجان وفقًا لترسيم الاتحاد السوفيتي لاحقًا. بعد فترة قصيرة من الاستقلال، سيطر الاتحاد السوفيتي على الجمهوريتين في عام 1920؛ ما أدى إلى تهدئة الصراع مؤقتًا، ومع ذلك، لم تُحل القضايا الجوهرية المتعلقة بالإقليم.
مع تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991، تفاقم النزاع مجددًا عندما أعلن إقليم ناغورني قره باغ استقلاله من جانب واحد بدعم من أرمينيا؛ مما أدى إلى اندلاع حرب دموية استمرت حتى عام 1994، وأسفرت عن مقتل ما يقرب من 30 ألف شخص، وتشريد مئات الآلاف من الأذريين من مناطقهم. انتهت الحرب باتفاق لوقف إطلاق النار بوساطة منظمة الأمن والتعاون في أوروبا (مجموعة مينسك)، لكن الوضع ظل متأزمًا في ظل غياب تسوية سياسية نهائية، وظل الإقليم تحت سيطرة أرمينيا؛ ما أجج المشاعر القومية في أذربيجان، التي اعتبرت هذه السيطرة احتلالًا لأراضيها السيادية.
شهدت العلاقات بين البلدين تصعيدًا جديدًا في سبتمبر (أيلول) 2020؛ عندما شنت أذربيجان حملة عسكرية لاستعادة السيطرة على أجزاء كبيرة من ناغورني قره باغ والمناطق المحيطة به. انتهت هذه الحرب التي استمرت 44 يومًا بانتصار أذربيجان، واستعادة معظم الأراضي التي فقدتها في التسعينيات، وفق اتفاق لوقف إطلاق النار وقع في 10 نوفمبر (تشرين الثاني) 2020 بوساطة روسية، وقد أسفر الاتفاق عن تمركز قوات حفظ سلام روسية في المنطقة؛ ما أثار جدلًا كبيرًا بشأن الدور الروسي، ومستقبل العلاقات بين البلدين.
رغم التقدم في تسوية بعض القضايا، فإن كثيرًا من الملفات الشائكة لا تزال عالقة، أبرزها:
تؤدي القوى الإقليمية والدولية دورًا رئيسًا في العلاقات بين البلدين، حيث تسعى روسيا إلى الحفاظ على نفوذها التقليدي في القوقاز من خلال نشر قوات حفظ السلام، في حين تحاول تركيا تعزيز تحالفها الإستراتيجي مع أذربيجان، في الوقت الذي يدفع فيه الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة نحو تسوية سلمية تُحقق الاستقرار الإقليمي، وتُبعد النفوذ الروسي والتركي عن المنطقة.
تُعد التنمية الاقتصادية والتعاون المشترك أحد المفاتيح الرئيسة لمستقبل العلاقات بين البلدين؛ ففي ظل الاستثمارات المتوقعة في البنية التحتية والطاقة، يمكن أن تؤدي مشروعات النقل، مثل ممرات العبور الإقليمية، ومن ذلك مشروع طريق الحرير الجديد، دورًا في إعادة بناء العلاقات الاقتصادية. ومع ذلك، تظل الخلافات السياسية والجغرافية عائقًا رئيسًا أمام تحقيق شراكات اقتصادية حقيقية يمكن أن تُسهم في تعزيز الاستقرار.
يمكن تصور عدة سيناريوهات لمستقبل العلاقات بين البلدين، تشمل:
رغم الجهود الدولية والمحلية، يبقى الطريق طويلًا أمام تحقيق مصالحة حقيقية بين البلدين، حيث تعتمد هذه العملية على الإرادة السياسية، ومدى استعداد الطرفين لتقديم تنازلات متبادلة تُحقق استقرارًا طويل الأمد.
مستقبل العلاقات الأرمينية الأذربيجانية مرهون بتجاوز إرث الماضي الثقيل، والتعامل مع القضايا العالقة بحكمة وواقعية. فمع أن عام 2023 شهد تطورات حاسمة، فإن الطريق نحو السلام لا يزال محفوفًا بالتحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. يبقى ترسيم الحدود، وحقوق النازحين، وممر زنغزور، والعلاقة مع القوى الدولية، عوامل رئيسة في صياغة مستقبل هذه العلاقة. إن التوازن بين المصالح الوطنية والانفتاح على التعاون الإقليمي هو المفتاح لتحقيق استقرار دائم، لكن أي تقدم سيكون هشًا دون إرادة سياسية واضحة، ورغبة جادة في تحقيق المصالحة. ورغم الجهود الدبلوماسية المبذولة، فإن السيناريوهات المحتملة تتراوح بين التصعيد، والجمود، والسلام التدريجي؛ ما يفرض على الطرفين مسؤولية تاريخية في تجنب العودة إلى الصراع، والعمل على بناء شراكات تضمن الاستقرار والتنمية للمنطقة بكاملها.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.