لقد برزت آسيا الوسطى إلى الصدارة العالمية في عام 2024، حيث اجتذبت اهتمامًا ملحوظًا من القوى المتنافسة، ففي حين قوضت التطورات الجارية في الشرق الأوسط انخراط القوى الإقليمية، كروسيا، وإيران، وتركيا، في المنطقة، استغلت القوى الدولية مثل الولايات المتحدة، والدول الأوروبية، والصين، وكوريا الجنوبية، حالة الفراغ الراهنة لبسط نفوذها في المنطقة، ونسج علاقات وثيقة مع الجمهوريات الخمس؛ ما يفرض جملة من التحديات الأمنية والاقتصادية والجيوستراتيجية، التي من شأنها تشكيل مستقبل دول آسيا الوسطى في عام 2025.
أولاً- المشهد الأمني:
كان أحد أكبر التحديات الأمنية التي واجهتها آسيا الوسطى منذ عام 2021 هو الانسحاب المفاجئ للقوات الأمريكية من أفغانستان، الذي خلق معضلة أمنية ارتبطت بالتأثيرات الناجمة عن تنامي التطرف والإرهاب في أفغانستان بعد وصول طالبان إلى سدة الحكم. ورغم الحذر من التعامل مع الجماعة الجهادية في البداية فإن الجمهوريات الخمس بدأت مؤخرًا بتطبيع العلاقات تدريجيًّا مع حكومة طالبان، وينبع هذا الاتجاه البراغماتي من الرغبة في تحقيق الاستقرار الإقليمي، والحاجة إلى تجنب تفاقم التحديات الاقتصادية في أفغانستان، وهو ما قد يخلف عواقب واسعة النطاق على الدول المجاورة، حيث يُنظر إلى أفغانستان بوصفها جزءًا لا يتجزأ من جغرافية آسيا الوسطى، وأن عدم الاستقرار على جانبي الحدود له عواقب مباشرة على الجانب الآخر.
فضلًا عن هذا، أسفرت الصراعات في الشرق الأوسط عن تغذية المخاوف المتجددة من الإرهاب الجهادي، حيث تستمر الديناميكيات الإقليمية والعالمية الناشئة للجهادية في فرض تهديدات عابرة للحدود الوطنية، وفي هذا السياق، أدت الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان طوال العام الماضي، والهجمات المتبادلة بين تل أبيب وطهران عبر محور المقاومة في لبنان وسوريا والعراق واليمن، إلى تأجيج تهديدات جلية لدول المنطقة، بالتوازي مع استغلال التنظيمات التقليدية، مثل القاعدة، وداعش، وتنظيم الدول الإسلامية في ولاية خراسان، للمناخ الأمني المضطرب؛ في محاولة لإحياء التنظيمات، وإثبات نفوذها، وإعادة تموضعها في مناطق جديدة.
وبسبب الوضع المضطرب في أعقاب سقوط نظام بشار الأسد، الذي أصبح أكثر تعقيدًا بسبب الجدل بشأن إعادة المقاتلين الأجانب إلى الجمهوريات الخمس، حيث كشفت مشاركة مواطني آسيا الوسطى في مختلف فصائل الصراع السوري، إلى جانب إطلاق سراح السجناء المتطرفين من السجون السورية، عن التهديدات المزدوجة المتمثلة في الإرهاب والتطرف الأيديولوجي؛ ما يشير إلى أهمية وضع الجهود المشتركة لمكافحة الإرهاب، وتعزيز أمن الحدود، ومعالجة العوامل الاجتماعية والاقتصادية للتطرف، على رأس أجندة دول آسيا الوسطى في عام 2025.
ثانيًا- المشهد الاقتصادي:
ظهرت آسيا الوسطى كتلةً اقتصادية مرنة في عام 2024، مما يدل على نمو مطّرد في الجمهوريات الخمس، على الرغم من حالة عدم اليقين العالمية؛ إذ حظيت أوزبكستان بمعدل نمو قوي بلغ 6,6%؛ بفضل الاستثمارات الثابتة، وتطوير البنية التحتية، كما سجلت كازاخستان نموًا في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 4%، بدعم من الأداء القوي في القطاعين الزراعي وغير النفطي، في حين شهدت طاجيكستان أحد أسرع معدلات النمو في المنطقة بنسبة 8.4%؛ بفضل تدفقات التحويلات المالية وصادرات الذهب، وسجلت قرغيزستان نموًا في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 5.7%؛ نتيجة لانتعاش الزراعة، وتوسع التجارة مع الصين والدول المجاورة، فيما نما الاقتصاد التركمانستاني المعتمد على الهيدروكربونات بنسبة 6.2%، مدعومًا بصادرات الغاز الطبيعي القوية إلى الصين.
ووفقًا لتوقعات التنمية الآسيوية (ADO) لشهر ديسمبر 2024، عُدِّلت توقعات النمو لمنطقة القوقاز وآسيا الوسطى لترتفع إلى 5.2٪ في عام 2025، ويعود هذا الارتفاع إلى عوامل رئيسة ترتبط بتدفقات التحويلات المالية القوية، والاستثمار العام، وجهود التنويع الاقتصادي. ودعمًا للنمو الاقتصادي، أصبحت آسيا الوسطى لاعبًا رئيسًا في الاتصال الأوراسي، فمن بين المشروعات التي من المقرر أن ترفع دور المنطقة طريق النقل الدولي عبر بحر قزوين، المعروف باسم الممر الأوسط، الذي توسع استخدامه خلال عام 2024، حيث زادت حركة الشحن بنسبة 68٪؛ نظرًا إلى أنه يختصر أوقات العبور، إذ يمثل أقصر طريق بين غرب الصين وأوروبا، كما يوفر وصولًا أسرع إلى جنوب القوقاز، وبحر قزوين، وآسيا الوسطى من خلال المواني في جورجيا وتركيا.
وفي هذا الصدد، التزمت دول أخرى بتوسيع الممر الأوسط بهدف تنويع سلاسل التوريد العالمية؛ فقد عززت الصين مشاركتها في آسيا الوسطى وجنوب القوقاز، كما انطوت مبادرة البوابة العالمية للاتحاد الأوروبي على نحو 300 مليار يورو من الاستثمارات في البنية الأساسية في مختلف أنحاء أوراسيا، وفي خطوة موازية، وضعت كازاخستان وروسيا وإيران وتركمانستان خطة لتطوير الفرع الشرقي للممر الدولي للنقل من الشمال إلى الجنوب في يوليو (تموز) الماضي في أكتاو بكازاخستان. وبحلول نهاية هذا العقد، تهدف الاتفاقية بين الدول الأربع إلى زيادة قدرة الفرع إلى 20 مليون طن.
ثالثًا- المشهد الجيوستراتيجي:
لقد تطورت آسيا الوسطى من كونها مجرد ساحة لصراعات القوة بين الدول الأخرى إلى قوة متوسطة تقيم شراكات وثيقة مع القوى الإقليمية والدولية، ففي ظل انشغال تركيا وإيران بالحرب الإسرائيلية في الشرق الأوسط، شهد العام المنصرم تكثيف روسيا والصين لانخراطهما تجاه آسيا الوسطى؛ فقد زار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كازاخستان وأوزبكستان وتركمانستان، إذ أكدت هذه الاجتماعات رفيعة المستوى أهمية الحفاظ على العلاقات القوية، والسعي إلى إيجاد حلول للعقوبات الدولية المفروضة على روسيا، فيما أشارت زيارات الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى كازاخستان وطاجيكستان إلى أن نفوذ الصين في المنطقة لا يزال قويًّا، في إطار منظمة شنغهاي للتعاون؛ ما يعكس الحضور الاقتصادي المتوسع للصين في المنطقة.
وفي مقابل هذا، تطلعت القوى الغربية إلى تعزيز علاقاتها مع جمهوريات آسيا الوسطى، وخاصة في مجالات المعادن الحيوية، والممر الأوسط، حيث سعى الاتحاد الأوروبي إلى منع الجمهوريات الخمس من الوقوع تحت النفوذ المالي للصين، فبالإضافة إلى مشروع البوابة العالمية، تُعقد اجتماعات دورية لإنشاء نظام اتصال متكامل يربط آسيا الوسطى بالغرب، كما تركز الولايات المتحدة على المعادن الحيوية في آسيا الوسطى؛ لتقليل اعتماد المنطقة على بكين.
وفي السياق نفسه، وضعت المملكة المتحدة سياسة جديدة تجاه آسيا الوسطى، في ضوء الحرب بين روسيا وأوكرانيا، والمخاوف المتزايدة بشأن نفوذ الصين في المنطقة، إذ بشرت الزيارة الموسعة التي قام بها وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون في أبريل (نيسان) الماضي ببداية “عصر جديد” للعلاقات بين بريطانيا والجمهوريات الخمس في مجالات الطاقة والاقتصاد والتعليم، كما أصدرت الحكومة البريطانية تقريرًا بعنوان “الدول عند مفترق الطرق.. مشاركة المملكة المتحدة في آسيا الوسطى”، كشف عن إستراتيجية المملكة المتحدة لمواجهة المنافسة من روسيا والصين من خلال حماية آسيا الوسطى.
وبالنظر إلى ألمانيا، زار المستشار الألماني أولاف شولتز المنطقة في سبتمبر (أيلول) الماضي لحضور القمة الثانية بين ألمانيا وآسيا الوسطى. وعلى غرار المملكة المتحدة، وصفت الحكومة الألمانية الزيارة بأنها تبث روحًا جديدة في العلاقات، وأكد شولتز أن الحرب بين روسيا وأوكرانيا خلقت واقعًا جيوسياسيًّا جديدًا يدفع إلى الانخراط المتزايد لآسيا الوسطى، وقد نتج عن تلك الزيارة دعم دول آسيا الوسطى لمشروع البوابة العالمية، والسماح لألمانيا بترحيل المجرمين الأفغان إلى أفغانستان عبر أوزبكستان.
ولعل زيارة الرئيس الكوري الجنوبي المعزول يون سوك يول في يونيو (حزيران) 2024 حملت أهمية مختلفة مقارنة بزيارات الزعماء الأوروبيين، فمن خلال تبني إطار سياسي تقليدي وقوي لآسيا الوسطى، عمقت كوريا الجنوبية علاقاتها في المنطقة من خلال “مبادرة طريق الحرير الكوري” التي أعلنها الرئيس يون، غير أن سيول لم تتبنَ الخطاب الذي قد يؤدي إلى تصعيد التوترات، واعتمدت -بدلًا من ذلك- نهجًا يرتكز على دبلوماسية الموارد القائمة على الشراكة، وهي الخطوة التي رحبت بها دول آسيا الوسطى.
وينعكس جانب آخر من الثقة المتنامية لآسيا الوسطى في العلاقات المتنامية بين المنطقة والشرق الأوسط مع دول مجلس التعاون الخليجي، حيث تدرك المنطقتان تداخل الرؤى الاقتصادية والجيوسياسية، ومع تزايد أهمية آسيا الوسطى في السنوات القليلة الماضية، تجلى هذا الاتجاه حتى عام 2024، حيث استضافت أوزبكستان قمة أخرى بين دول آسيا الوسطى ومجلس التعاون الخليجي في أبريل (نيسان) الماضي، ركزت على تعزيز التعاون في مجالات السياسة، والاقتصاد والاستثمار، والنقل، والاتصالات.
مجمل القول أن منطقة آسيا الوسطى لم تعد الفناء الخلفي لأي قوة عظمى منفردة، حيث برزت المنطقة كنقطة محورية في الجغرافيا، وأصبحت ذات أهمية متزايدة في ربط أوراسيا وأمنها. وفي عصر المنافسة بين القوى العظمى، عملت دول المنطقة الخمس على تعزيز مصالحها الجيوسياسية من خلال الانخراط في سياسة خارجية متعددة الأطراف؛ ما ينبئ بنظام عالمي جديد ناشئ، تتنافس فيه عدة قوى على النفوذ، وسوف تتمتع البلدان الأصغر، أو ما يسمى بالقوى المتوسطة، كإيران وتركيا، بحيز أكبر للمناورة في آسيا الوسطى، ومن المتوقع أن تولي الجمهوريات الخمس أهمية للعلاقات المتعددة الأطراف، والتشكيلات التنظيمية، في إطار صيغة (C5+)، خاصة بعد وصول رئيس جديد للولايات المتحدة، في ظل التوقعات الاقتصادية لآسيا الوسطى الإيجابية، التي تدفعها أن تكون بيئة جاذبة للاستثمارات الإستراتيجية، والتنويع والتعاون الإقليمي، لكن إدارة التضخم، ومعالجة المخاطر الجيوسياسية، وضمان النمو الشامل، ستكون أمورًا حاسمة للحفاظ على هذا الزخم في عام 2025.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.