منذ زمن، ومن قبل “بداية العملية العسكرية الخاصة”، كما يحلو للروس تسميتها، والناس، من محللين ومفكرين إستراتيجيبن، يتساءلون عن مصير روسيا بعد بوتين، وهل يمكنها الحفاظ على كيانها، والأخذ بأسباب وجودها، والتعلق بعلل بقائها، أم أنها ستسقط وتتفرق، وتنقسم إلى دويلات صغيرة تتنازعها الأهواء المختلفة والمصالح المتضاربة؟
وقد كتبت مقالًا قبل مدة، حاولت فيه الجواب عن هذا السؤال، لكن من غير إطالة في الكلام، أو توسع في إقامة الشواهد والبرهان، وذلك لما يتطلبه المقال الصحفي من الإيجاز والاختصار، وهذا ما حملني على كتابة هذه الدراسة؛ لعلي أجد فسحة فأتوسع أكثر في الإبانة عن نظرتي، والاحتجاج لرأيي الذي ضمنته مقالي الذي تحدثت عنه آنفًا.
والجواب عن السؤال الآتي: “ما مصير روسيا بعد بوتين؟” يحملنا- ابتداءً- على النظر في تاريخ بوتين، وكيف انتهى به الطريق من ضابط في المخابرات السوفيتية إلى رئيس لروسيا الاتحادية.
عمل بوتين أولًا في جهاز المخابرات السوفيتية المعروف اختصارًا بـ”الكي جي بي)”، ثم مع بداية انهيار الاتحاد السوفيتي، وأفول قوته، وتفكك دوله، استقال بوتين من الجهاز، وتوارى فترة عن الأنظار، وبعد فترة من الغياب عيّنه أناتولي سوبتساك مساعدًا له، بعد أن أصبح عمدة لمدينة سانت بطرسبورغ، وبعد ذلك عُيّن بوتين على رأس جهاز المخابرات الروسي الذي خلف جهاز “الكي جي بي”. وحين فكّر الرئيس الروسي بوليس يلتسن في الاستقالة، وبدأت الدائرة الخاصة به والمقربة منه تبحث عن خليفة له، لم يجدوا أمامهم شخصًا أكثر ثقة وكفاءة وانفتاحًا على الغرب من بوتين ليصبح رئيسًا للوزراء، حتى إذا ما قدم بوليس يلتسن استقالته أصبح بوتين رئيسًا لروسيا، وهذا ما كان، وهكذا وصل الرئيس فلاديمير بوتين إلى حكم روسيا، وقُدم له ذلك على طبق من فضة كما يقال.
هذا باختصار شديد هو الطريق الذي سلكه بوتين نحو سدة الحكم، وهو من أول وهلة يظهر على أنه مسار عادي، لا إشكال فيه، ولا غرابة، ولكن مع إرجاع البصر فيه، وتدقيق النظر في ثنايا تلك الأحداث، وما تنطوي عليه من خبايا، تبدو لنا أشياء لم تكن بادية في النظرة الأولى.
فبعد استقالة بوتين من جهاز الكي جي بي، وتواريه عن الأنظار، إلى أن انتهى سقوط الاتحاد السوفيتي، عمل مساعدًا لعمدة سانت بطرسبورغ، هو ومجموعة من كبار رجال الكرملين حاليًا، وبعد ذلك اختير ليعمل رئيسًا للمخابرات الروسية، بعد أن ظهر بمظهر الرجل الليبيرالي والديمقراطي الموالي للقيم الغربية، والمنفتح على أنماط الحياة الأمريكية، حسب قول فالنتين يوماشيف، وهو أحد رجال الدائرة الخاصة للرئيس يلتسن وزوج ابنته، حيث قال: “لقد قدم بوتين نفسه بوصفه رجلًا ليبيراليًّا وديمقراطيًّا، أراد مواصلة تحرير الاقتصاد”، وهذا نفسه ما جعله يحظى باهتمام يوماشيف، ومن معه من دائرة يلتسن المقربة، حين كانوا يبحثون عن خليفة ليلتسن.
ولكن ماذا عن خلفية بوتين في الكي جي بي؟ وكيف يصبح ضابط سابق في ذلك الجهاز الذي يقال عنه أنه سيئ السمعة رئيسًا لروسيا؟ وهنا يأتي الجواب من يوماشيف، فيقول: “إن كثيرًا ممن تركوا الخدمة في جهاز الكي جي بي، ومن بينهم بوتين، أدركوا أن الجهاز فقد كثيرًا من مصداقيته؛ لذا فعمله في الجهاز لم يعن شيئًا” (5)، وهذا ما يفسر تقديم بوتين استقالته من الجهاز، وعمله بعد ذلك مساعدًا لعمدة بطرسبورغ.
لا يمكن لرجل أن يخرج من الكي جي بي مستقيلًا قبل أن يتفكك الجهاز، ثم يتوارى عن الأنظار زمنًا، ولا يظهر إلا مساعدًا لعمدة بطرسبورغ، ثم تلمع صورته إلى أن يصبح بين ليلة وضحاها رئيسًا للجهاز الاستخباراتي الجديد ويلج الكرملين، ثم تلمع صورته أكثر، خاصة في أعين يلتسن ودائرته المقربة، حتى يرشح لمنصب رئيس الوزراء، ويتم له ذلك من أجل تهيئته ليحكم روسيا، وهو في كل هذا وذاك يظهر بمظهر الرجل الليبيرالي المنفتح على الولايات المتحدة الأمريكية، الحامل لقيمها، المتبني لسياستها، وعلى رأسها تحرير الاقتصاد، والمبادئ الديمقراطية، لا يمكن لرجل تلمع صورته بهذا الشكل المتوافق مع ما يصبو إليه كل عدو للسوفيت، ألا تكون خلفه أجهزة عميقة، ومؤسسات عريقة، لم تسقط مع سقوط الاتحاد السوفيتي، وتمكنت من الحفاظ على بقائها أمام ذلك السيل الجارف الذي يحاول أن يأخذ معه كل البقايا السوفيتية، وإخضاع روسيا الجديدة للتبعية الغربية.
وهنا حقيق بكل قارئ ومتابع ومهتم أن يسأل: هل في روسيا دولة عميقة ومؤسسات عريقة تعمل من وراء ستار، ومن خلف الحجب المسدلة، يمكنها أن تمنع روسيا من الانهيار، وتقف دون تفرقها إلى دويلات قومية متناحرة وخاضعة للأهواء المختلفة، والنزعات المتباينة، والمصالح المتضاربة؟
من وجهة نظري، فإن أقوى دليل على وجود هذه الدولة العميقة والمؤسسات العريقة هو بوتين نفسه، وكيفية وصوله إلى الحكم، فلا يمكن أن يتخيل عاقل أن رجلًا وحيدًا منفردًا انتهى به المطاف بلا عمل، في دولة منهارة، أن يتمكن وحده من الترويج لنفسه وإظهارها بشكل يخدع الغرب، الذي كان يسيطر آنذاك على روسيا، ويظهر أمامهم بمظهر الليبيرالي، والديمقراطي، والمنفتح على الأفكار الغربية، والقيم الأمريكية، إلى درجة أن يُهَمل تاريخه وأنه كان من رجال الكي جي بي الذي فُكِّكَ قبل حين، وهو في داخله ينطوي على عداء كبير للغرب، وقيمه، وتقاليده، فلا يمكن لمتخيل أن يتخيل هذا مهما اتسعت حدود خياله، ومهما استحكم الخيال من نفسه، إلا أن يكون خلف ذلك الرجل ( أي بوتين) جهاز، أو مؤسسة تعمل في خفاء، ومن وراء الستر المسدلة، تمهد له الطريق، وتفتح له الأبواب، وتزكي صورته وتلمعها بأسلوب بلغ منتهى الحرفية آنذاك، وهذا وإن لم يقبله القارئ على أنه دليل مادي، ورأى أنه مجرد استنباط، فإنه يصعب دحضه، أو على الأقل لا يمكن إهماله.
ومما يعزز هذا الطرق ويقويه ما جاء على لسان ألكسندر دوغين، المفكر الروسي المعروف، حين سأله الإعلامي عمرو عبد الحميد في برنامج “رأي عام”: إذا اختفى السيد بوتين فجأة، فماذا سيجري لروسيا والروس؟”، فجاء الجواب: “حضرتك تعلم أن كل الأمور مرهونة ومتوقفة على بوتين، ولو تصورنا أنه سيختفي، وبالمناسبة أحيانًا نرغب في أن نتصور هذا الوضع، بالتأكيد في لحظة ما ربما سيحدث ذلك لا قدر الله، ولكن 20 عامًا لحظة ليست بالقصيرة، بل هناك 16 سنة قادمة، هذا الشيء يجعل رأسك يشعر بالدوران تعبًا من كثرة ما تتصور ذلك، فلنتخيل أن بوتين قد رحل، وهو غير موجود الآن، لكن انظر إلى النظام السياسي الذي تركه بوتين بعد رحيله؛ فللوهلة الأولى ستجد أنه نظام غير مُرضٍ لنا، وهو نظام أجوف، حيث لم ينشئ بوتين نظامًا حقيقيًّا للسيادة ذات قيم، لم يغيّر التعليم، ولم يسهم بتغييرات في الثقافة، هو فقط رتّبَ بعض الأمور الجيوسياسية الخارجية، ولكن مجتمعنا في الداخل في حالة كارثية، وهذا لعدة أسباب، منها التأثيرات الغربية والمادية السوفيتية، وكذلك الريبة وعدم الاستقرار في الهوية، بعبارة أخرى، اضطراب الوعي، فلو أعطينا مجتمعنا الحرية الكاملة في أن يقرر مصيره بنفسه، بدون هذه الشخصية الوطنية، فإنه سيختار شيئًا غير صحيح؛ لأن مجتمعنا لم يستعد لهذه الفترة التي ستأتي بعد بوتين”، ثم قال: ” لكن على الجانب الآخر، فمن غير المستبعد أن يظهر أحد السياسيين الأفضل من بوتين بكثير، لكننا لا نرى أي بدائل لبوتين عند مقارنته بالماضين، لكن ربما يظهر أحد العسكريين الوطنيين الذين لا علاقة لهم بيلتسن، وبالتسعينيات، وبفترة التفكك، وببيع المصالح الوطنية.. لماذا لا تلد روسيا بوتين سياسيًّا جديدًا؟ وعامة، هؤلاء الأشخاص يتشكلون حاليًا، ولكننا لا نعرف أسماءهم حتى الآن، فإذا حدث لبوتين شيء ما، فمن المحتمل أن تظهر شخصية من بين هؤلاء… وأنا أعتقد أن ذلك الشخص كلما كان أقل شهرة كان حاكمًا جيدًا”.
أعتذر عن هذا الإسهاب في النقل، لكن الضرورة حملتني على ذلك.
وكلام ألكسندر دوغين يمكن تقسيمه إلى ثلاث فقرات، أما الأولى فهي من بداية جوابه إلى قوله: “من كثرة ما تتصور ذلك”، وفي هذه الفقرة لم يقل دوغين شيئًا، وإنما هو لغو لا غناء فيه ولا طائلة، وهو مجرد لعب بالألفاظ.
وأما الفقرة الثانية فهي من قوله: ” فلنتخيل أن بوتين قد رحل” إلى قوله “لم يستعد لهذه الفترة التي ستأتي بعد بوتين”، وهي تمهيد لما سيأتي من كلامه، وعمل منه على امتصاص الصدمة التي قد تنشأ عند الشعب الروسي.
وأما الفقرة الثالثة، فتبدأ من قوله: “لكن على الجانب الآخر” إلى النهاية، وهي الفقرة التي يعلن فيها ما بداخله، من حيث يدري أو لا يدري، وذلك أن كل كلام فيه شيء مما يخفيه قائله ويكنه في نفسه، وخاصة قوله: “وعامة، هؤلاء الأشخاص يتشكلون حاليًا “، فهناك جزم بأن هناك أشخاصًا يتشكلون ويتهيؤون حاليًا في الخفاء لخلافة بوتين، وهذا التشكل والتكوين لا يمكن أن يكون إلا على مستوى أجهزة الدولة، مما يستدل به على وجود تلكم الأجهزة العريقة والعميقة، كما أن قوله: ” كلما كان أقل شهرة كان حاكمًا جيدًا” يعيد إلينا كيف وصل بوتين إلى الحكم، فقد كان شخصًا مجهولًا، فتدبر.
كما أنه في برنامج “في رواية أخرى”، في الحلقات التي استُضيف فيها أوليغ كالوغين، الذي كان مسؤولًا عن قسم الكي جي بي في أمريكا، ورئيس قسم محاربة التجسس، قال كالوغين وهو يصف الفارق بين مؤسسات الدولة في الحقبة السوفيتية والحالية: “في العهد السوفيتي، كان الحزب الشيوعي على رأس المؤسسات في البلاد، تليه أجهزة الأمن، ثم مؤسسة الجيش. أما في روسيا الحالية، في عهد السيد بوتين، فالأمور تغيرت، في المرتبة الأولى يأتي جهاز الكي جي بي؛ لأنه يدير البلاد، ويأتي في المرتبة الثانية الجيش، وهو تحت سيطرة الكي جي بي الكلية، وأخيرًا تأتي الكنيسة الأرثوذوكسية الروسية”.
هذه المقارنة يستخلص منها عدة أشياء، أهمها بقاء أهم المؤسسات التي كانت في العهد السوفيتي، واستمرارها إلى يوم الناس هذا، وهذا يفسر أكثر ما قلناه عن كيفية وصول بوتين إلى الحكم.
إن سقوط الاتحاد السوفيتي لم يؤدِّ إلى سقوط أجهزته العميقة ومؤسساته العريقة؛ وإنما استمرت تلكم الأجهزة وهذه المؤسسات في العمل من وراء الحجب المسدلة، وداخل الأروقة الخفية، حتى تسنى لها السيطرة على البلاد مرة أخرى، وخاصة إذا علمت أن تلكم الأجهزة والمؤسسات لم تكن عادية؛ بل كانت تعلم بما يصل إليه مشروع مانهاتن النووي قبل أن يعلم به رئيس الولايات المتحدة.
كل هذا يجعلنا نُرجع البصر كرّتين، والفكر مرتين، في القول القائل إن روسيا ستتفكك بعد بوتين؛ لأننا أمام دولة قوية، تقوم على مؤسسات عريقة، يصعب تفكيكها وتفريقها إلى دويلات، ولا يشكل بوتين فيها إلا جبل الجليد الظاهر على سطح الماء.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.