عندما نقلت وسائل الإعلام المختلفة أنباء قيام حماس بعمليتها في جنوب إسرائيل، كنت أزور ابن أخي في سانت بطرسبورغ، في الشقة التي نشأت وعشت فيها قبل مغادرة الاتحاد السوفيتي قبل أكثر من نصف قرن من الزمان. في صباح اليوم التالي، خلال سيري في وسط العاصمة الإمبراطورية السابقة، تذكرت فجأة أن كثيرًا من الشوارع في العصر السوفيتي كانت تحمل أسماء منظري الإرهاب السياسي وممارسيه في أواخر القرن التاسع عشر، ومن بينهم بيوتر لافروف، وإيفان كالييف، وستيبان خالتورين، وأندري جيليابوف، وصوفيا بيروفسكايا. لقد أطلقوا على أنفسهم- بكل فخر- اسم الإرهابيين. تقع جميع هذه الشوارع على مسافة قريبة من كنيسة المُخلِّص على الدم المراق. شُيّدت الكنيسة المتعدد الألوان ذات القبة البصلية، وهو أمر غير معتاد بالنسبة للمناظر الطبيعية الحضرية القاسية لسانت بطرسبورغ، تخليدًا لذكرى الإمبراطور ألكسندر الثاني بالقرب من موقع اغتياله عام 1881. وخلال السنوات السوفيتية، كانت الشوارع المحيطة بها تحمل أسماء الثوار الذين ارتكبوا هذه المحاولة.
كان الإرهاب وسيلة لهم لتحقيق التغيير الاجتماعي والسياسي. وفي غياب الانتخابات، وأي شكل آخر من أشكال المشاركة الشعبية في حكم البلاد، كان هدفهم تخويف الدوائر الحاكمة، وإجبارها على تقديم التنازلات. عندما أُجبر نيقولاس الثاني على إصدار بيان أكتوبر (تشرين الأول) 1905، الذي يعد فيه بحقوق سياسية محدودة للسكان، شعر الكثيرون بأن هدفهم قد تحقق، لكن الثوريين الأكثر مبادئ، لم يكونوا راضين عن هذه التنازلات، وواصلوا الإرهاب ضد النظام القيصري.
ثم اجتذبت الجماعات الإرهابية كثيرًا من الأقليات، مثل: البولنديين، واليهود، واللاتفيين، وغيرهم، ممن واجهوا اضطهاد الدولة الروسية السياسي، والديني، والعرقي. شعر اليهود- بشكل خاص- بهذا: “بعد اغتيال ألكسندر الثاني، بدأت المذابح وعمليات الطرد”، حيث حدثت موجات من المذابح في بداية القرن التالي ضد اليهود، بشكل شديد القسوة في أوكرانيا، ومولدوفا، إذ لم يكن العنف ضد اليهود أمرًا نادرًا في الماضي. وفي بعض الأحيان، نظم اليهود أنفسهم في مجموعات للدفاع عن النفس، لكن الشعور بعدم الأمان لم يختف، وأُجبر ما يقرب من مليوني يهودي على الهجرة، خاصة إلى أمريكا الشمالية والجنوبية.
في ظل هذه الظروف، انجذب كثير من الشباب اليهود إلى أيديولوجيا جديدة، وهي الصهيونية، التي عكسوا عليها معتقداتهم الاشتراكية. وصل عدة آلاف من الثوار غير الراضين عن بيان أكتوبر إلى فلسطين، التي كانت آنذاك إحدى أراضي الإمبراطورية العثمانية؛ بهدف بناء مجتمع اشتراكي، وشخصية يهودية جديدة، قائمة على امتلاك القوة، متحررة من العقيدة الدينية. استعدادًا للعمل والدفاع عن أنفسهم، أنشأوا مجتمعات زراعية (الكيبوتسات)، وسلّحوا أنفسهم كلما أمكن ذلك. وبينما كان غالبية اليهود المهاجرين إلى أمريكا يحلمون بالاندماج في حياة البلد المضيف لهم، وصل المستوطنون الصهاينة إلى فلسطين ليُنشئوا مجتمعهم هناك، بشكل مستقل عن السكان المحليين، لبناء “عالمهم الجديد” الخاص بهم. ومن ناحية أخرى، فإن خططهم تتناسب جيدًا مع الإطار السائد آنذاك للاستعمار الاستيطاني، مقتدين بمثال كندا، أو الجزائر.
من الصعب المبالغة في تقدير دور الصهاينة القادمين من روسيا في التطور السياسي والعسكري للدولة. ومع أن الهجرة من روسيا تراجعت في أوائل العشرينيات من القرن الماضي، فإنه بعد ثلاثة عقود، كان 60% من أعضاء البرلمان الإسرائيلي من مواطني الإمبراطورية الروسية. وباستثناء نفتالي بينيت، فقد ولد جميع رؤساء الوزراء الإسرائيليين أو آباؤهم هناك.
كان المستوطنون الصهاينة من روسيا يتوقون إلى وضع حد للماضي، وخاصة الشعور بالعجز الذي شعروا به في منطقة الاستيطان الخاصة باليهود، التي أُجبروا على العيش فيها بأمر من السلطات الإمبراطورية الروسية حتى عام 1917. بعد أن تخلوا عن موطنهم الأصلي، بدأوا بالتحدث بالعبرية الحديثة بدلًا من لغتهم اليديشية، التي أُنشئت في إطار الحركة الصهيونية. وبينما لم يُسمح لهم في منطقة الاستيطان الروسية بزراعة الأرض، أصبح كثير منهم في فلسطين يعيشون في الكيبوتسات، واشتغلوا بالزراعة.
رغم تخليهم عن موطنهم ولغتهم الأصلية، فإنهم لم يتمكنوا من التخلي عن العنف، لقد جلبوا إلى فلسطين تجربة الإرهاب السياسي، وذكرى المذابح. جاء معظمهم من القرى اليهودية، حيث كان الاتصال بغير اليهود محدودًا ومملوءًا بالخوف في كثير من الأحيان. قليل منهم فقط كانوا على دراية بحياة مدينة سانت بطرسبورغ العالمية، أو مدينة أوديسا غير المتجانسة.
لقد ألبس الصهاينة هذا النوع من الفصل بشعارات: “تهويد الوظائف” (كيبوش ها أفودا)، “خلق أشياء جديدة وأنفسنا” (ليفنوت يو ليهيبانوت)، “الانفصال” (هافردا)، وما إلى ذلك. وبدأوا بإجبار العرب على ترك وظائفهم في المصانع، وإعادة بناء مدينة يهودية منفصلة في تل أبيب بالقرب من يافا القديمة، وإنشاء شبكة من المؤسسات الخاصة بدون العرب في عشرينيات القرن العشرين وثلاثينياته. لقد منع الصهاينة- باستمرار- انعقاد هيئة تمثيلية لمختلف المجموعات العرقية والدينية في فلسطين؛ لأنه سيصبح من الواضح حينئذ أن المستوطنين الصهاينة يشكلون أقلية، وإن كانت نشطة جدًّا، في الأرض المقدسة. وبطبيعة الحال، مع كل هذا، أثاروا العداء تجاه العرب، وتجاه أنفسهم.
تحت تأثير الاستشراق (حتى قبل ظهور المصطلح نفسه)، شهدوا التفوق المتأصل لدى المستعمرين الأوروبيين فيما يتعلق بالسكان المحليين (اليهود والعرب) على حدٍ سواء. ولم يتعزز هذا الموقف إلا عندما سيطرت بريطانيا على فلسطين بعد الحرب العالمية الأولى. وكما هي الحال في الهند وإفريقيا، استخدم البريطانيون هنا أيضًا القوة “لتهدئة السكان الأصليين”، وفي الوقت نفسه، استخدم البريطانيون قوة أكبر بكثير ضد العرب الذين تمردوا من وقتٍ إلى آخر مقارنة بالمسلحين الصهاينة. ومن خلال اتباع مبدأ “فرِّقْ تسُدْ”، أسهم البريطانيون في تفاقم الانقسام والصراع بين اليهود والعرب.
قام ضابط مخابرات إنجليزي، وهو ابن أحد المبشرين البروتستانت في الهند، المسيحي الصهيوني المخلص، أورد تشارلز وينغيت (Orde Charles Wingate)، بتدريب وقيادة قوات الهاغاناه الصهيونية بشكل فعال. وفقًا للمؤرخ العسكري الإسرائيلي مارتن فان كريفيلد: “دُرِّبَ المقاتلون على كيفية القتل دون ندم، وكيفية استجواب أولئك الذين أُسِروا بإطلاق النار على كل عاشر شخص لإجبار الباقين على التحدث، وكيفية تخويف الإرهابيين المحتملين عن طريق الإيهام بالغرق، حتى يتمكنوا من إخبار الآخرين بما ينتظرهم”. وقد خضع كثير من القادة العسكريين الإسرائيليين المستقبليين لهذا التدريب، ومنهم موشيه ديان.
وهكذا، فإن الثقافة السياسية الصهيونية، الحاكمة لإسرائيل منذ نشأتها حتى يومنا هذا، تقوم على ثلاثة عناصر، اثنان منها مستوردان من روسيا: 1) ممارسة الإرهاب السياسي. 2) ارتكاب المذابح. 3) السياسات الاستعمارية العنصرية لبريطانيا العظمى.
بجانب بصمة أعمق، خلّفتها عواقب الإبادة الجماعية النازية، التي صُمِّمَت في أوروبا ونفذها الأوروبيون ضد الأوروبيين. وكان من المُسلم به أن العرب لا يفهمون إلا لغة القوة. وقد استشهد كل من المستوطنين (على الرغم من إلحادهم) والبريطانيين بالكتاب المقدس لتبرير حق اليهود في استخدام العنف الوقائي في الأرض المقدسة. وبصرف النظر عن الشيوعيين، وجزء من حزب عمال صهيون، فإن المثل الاشتراكي لأخوة الشعوب استسلم عمليًّا لهجمة القومية اليهودية.
منذ البداية، بدأ المستوطنون الصهاينة يعتمدون على القوة. وفي وقت لاحق، وخاصة من أجل إزالة العقبات أمام مسارهم السياسي، بدأوا باللجوء إلى الإرهاب. وهكذا، في عام 1924، قُتل جاكوب دي هان، وهو يهودي هولندي، تعاون بنشاط مع الحاخامات الذين رفضوا الصهيونية، وحاولوا الحفاظ على علاقات جيدة مع العرب. نُفِّذَ الهجوم الإرهابي بناء على أوامر من منظمة الهاغاناه، وهي منظمة عسكرية تأسست في الثلاثينيات على يد مهاجرين من روسيا. كما أسسوا عددًا من المنظمات الإرهابية الأخرى، وقاموا بدور كبير في أنشطتها. في البداية، نفذت هذه الجماعات هجمات إرهابية ضد العرب المحليين، لكنها وسعت أنشطتها فيما بعد؛ فقد بدأت بقتل أفراد عسكريين ومدنيين بريطانيين في فلسطين، وفي البلدان المجاورة، حتى إن ممثلًا رفيع المستوى للأمم المتحدة من السويد سقط في أيديهم. يقدم “متحف أسرى العصابات” تحت الأرض في القدس، تفاصيل عن تاريخ المنظمات الصهيونية المسلحة، ويعرض قنابل محلية الصنع، وأسلحة إرهابية أخرى.
في مايو (أيار) 1948، أُعلِنَت دولة إسرائيل، وقد تم ذلك من جانب واحد، ضد إرادة غالبية سكان فلسطين، ومنهم كثير من اليهود، وكذلك جميع الدول المجاورة. وكما كان متوقعًا، أثار هذا هجومًا من جانب كثير من الدول العربية. لكن قبل أشهر قليلة من ذلك، لجأ المسلحون الصهاينة إلى الإرهاب لترهيب العرب الفلسطينيين، وتطهير حيفا، وصفد، وطبريا، والقدس الغربية، ومئات القرى منهم كليًّا أو جزئيًّا. وقد وُثِّقَت الآن سياسة التطهير العرقي هذه بالتفصيل، بما في ذلك من جانب المؤرخين الإسرائيليين.
بعد وقت قصير من قيامها، فرضت إسرائيل الأحكام العرفية على العرب الفلسطينيين، التي استمرت حتى عام 1966. تم طرد أو اعتقال أو قتل اللاجئين والمنفيين الفلسطينيين الذين حاولوا العودة إلى ديارهم، وأصبح مزيد من الفلسطينيين لاجئين بعد انتصار إسرائيل في حرب عام 1967. ومنذ ذلك الحين، اعتمدت إسرائيل على الإجراءات العسكرية والشرطية للسيطرة على الفلسطينيين في الضفة الغربية، وقطاع غزة. إنهم، على عكس الفلسطينيين “مواطني إسرائيل”، عاجزون عمليًّا؛ ومن ثم تُشكَّل خلايا المقاومة في وسطهم، وغالبًا ما تلجأ إلى الإرهاب.
من الطبيعي أن يثير الهجوم الوحشي الذي شنه مقاتلو حماس في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 غضب معظم الإسرائيليين ورعبهم. ومن دون تردد، وعلى الفور، أخضعت القيادة العسكرية والسياسية في البلاد غزة لقصف مكثف، أعقبه غزو بري قام به مئات الآلاف من الجنود. لقد استخدمت إسرائيل القوة المدمرة لإرهاب الفلسطينيين وقمعهم. وقد أدى ذلك إلى سقوط عدد كبير من الضحايا (وقت كتابة هذا المقال وصل عددهم إلى أكثر من 10 آلاف قتيل، و32 ألف جريح)، وأزمة إنسانية. يصنف الخبراء المستقلون تصرفات إسرائيل في غزة على أنها إبادة جماعية.
وفي هذه الأثناء، في الضفة الغربية، زاد المستوطنون الصهاينة الضغط على الفلسطينيين، وترهيبهم، وتنفيذ المذابح، وإحراق المنازل، وأخضعت قوات الأمن الإسرائيلية مئات الفلسطينيين للاعتقال الإداري، حيث احتُجِزَ عدة آلاف من الأشخاص سنوات. وفي إسرائيل نفسها، في الأسابيع الأخيرة، حُرم الفلسطينيون من وظائفهم، وطردوا من الجامعات.
كما أصبحت شيطنة الفلسطينيين- بشكل عشوائي- هي القاعدة. حتى رئيس البلاد المتحفظ إسحاق هرتسوغ، الذي كان ذات يوم يشعر بالقلق إزاء صعود الفاشية في إسرائيل، يعلن الآن أنه لا يوجد “مدنيون أبرياء” في غزة. وقالت ميراف بن أري، البرلمانية عن حزب هناك مستقبل “يش عتيد”، الذي هو حزب وسط ليبرالي في إسرائيل، متحدثة عن آلاف الأطفال الفلسطينيين الذين قتلوا بسبب القصف الإسرائيلي: “إن أطفال غزة جلبوا ذلك لأنفسهم. نحن أمة محبة للسلام، ومحبة للحياة”.
في عام 1948، في أثناء حرب “الاستقلال” الإسرائيلية (يسميها الفلسطينيون النكبة، أي “الكارثة”)، حذرت حنة آرنت، اللاجئة اليهودية من ألمانيا النازية، التي أصبحت فيلسوفة سياسية أمريكية مشهورة: “حتى لو انتصر اليهود في هذه الحرب… سيجد المنتصرون أنفسهم محاصرين بسكان عرب معادين، في حالة تهديد وقلق مستمر داخل حدودهم بشأن الأمن… وهو أمر يصعب على أي شعب تحمله، مهما كانت المكاسب”. كما تنبأت بأن: “المزيد من السكان سيهاجرون، وهكذا سيظل الإسرائيليون شعبًا صغيرًا جدًّا محاطًا بجيران معادين ومتفوقين جدًّا عليهم”.
تؤكد حرب إسرائيل على غزة صحة نظرية آرنت. يمكن لإسرائيل أن تربح هذه الحرب، لكن لن يتحقق الأمن أو السلام لإسرائيل؛ بسبب المواقف السياسية الموروثة من المستعمرين البريطانيين والمستوطنين الصهاينة الذين فروا من المستوطنات اليهودية الروسية قبل أكثر من مئة عام.
وفقًا للفيلسوف الإسرائيلي جوزيف أغاسي، فإن كل الحكومات الإسرائيلية: “تتصرف وكأنها تدير مجتمعًا في بلدة صغيرة، أو نوعًا من الغيتو، فهي تتجاهل مصالح السكان غير اليهود، ومن ثم تؤجج نيران حرب لا نهاية لها”.
ترفع إدارة بايدن مستوى الخطر باستخدام الفكر المسيحاني للقادة الإسرائيليين، معلنين أنهم يخوضون صراعًا عالميًّا ضد الشر في قطاع غزة، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى تعزيز التركيز على القوة ـ وهو الإرث الذي خلفه الشعبيون والثوريون الاشتراكيون، من ناحية، والذين استخدموا الإرهاب، من ناحية أخرى، إرث القوى الأوروبية التي حاولت- بكل ما أوتيت من قوة- كبح جماح عملية إنهاء الاستعمار.
فهل تنجح إسرائيل- مرة أخرى- في ترهيب الفلسطينيين وقمعهم على حساب آلاف الأرواح؟ أم ستبحث عن حل آخر “للقضية الفلسطينية” التي خلقتها الدولة الصهيونية؟[1].
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.