مقالات المركز

لافروف يحسم قواعد اللعبة

لا هدنة بدون خضوع أوكراني.. وموسكو تمهد لتسوية بشروطها وحدها


  • 25 مايو 2025

شارك الموضوع

في خضم التطورات المتسارعة التي تشهدها الأزمة الأوكرانية، تتواصل مواقف القيادة الروسية الدبلوماسية في تكوين مشهد تفاوضي يخدم رؤيتها الإستراتيجية الطويلة المدى. في هذا السياق المتوتر، جاءت تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، بتاريخ 23 مايو (أيار) 2025 لتؤكد مجددًا جملة من الثوابت، وتفتح الباب امام قراءة متعددة الأبعاد للموقف الروسي من التسوية، والمحددات التي تضعها موسكو أمام أي وساطة دولية، بما فيها الأمريكية.

وسوف أحاول في الأسطر القليلة القادمة تقديم تحليل لمضمون تصريحات شيخ الدبلوماسيين الروس، من واقع فهمي لها ولما بين سطورها، وذلك في ضوء ربطها بمعطيات الميدان والتموضعات الجيوسياسية الحالية.

رفض الوساطة الفاتيكانية.. هل البعد ديني أم إستراتيجي؟

في تصريحات اليوم، أعرب لافروف عن رفض موسكو فكرة عقد جولة جديدة من مفاوضات السلام مع كييف برعاية الفاتيكان، معتبرًا أن وجود طرفين أرثوذكسيين على طاولة المفاوضات داخل دولة الكاثوليك الرمزية الرئيسة أمر “غير مريح دينيًّا، وغير مقبول سياسيًّا”، والتعبير له.

ورغم الصيغة الدينية للطرح الذي يقدمه لافروف رفضًا للفاتيكان، فإن هذا الرفض يعكس، من وجهة نظري، تخوفًا روسيًّا من تدويل مسار التفاوض تحت مظلة أخلاقية ودينية- غربية، خاصة أن الفاتيكان يمثل بعدًا رمزيًّا للمنظومة القيمية الغربية؛ ومن هنا تسعى موسكو إلى تفكيك مشروعية أي وسيط لا يحظى بتوازن مصلحي، وتفضل إطارًا تفاوضيًّا ينطلق من إقليم أوراسي كتركيا أو الصين مثلًا، في ظل اعتبارهما أكثر انسجامًا مع محددات الأمن الأوراسي.

العودة إلى مقاربة “جذور النزاع” أساسًا للتسوية 

الوزير لافروف عاد ليؤكد مجددًا أن روسيا لا ترى جدوى في إبرام أي هدنة مؤقتة، ما لم تعالج جذور النزاع، وشدد في الوقت نفسه على أن بلاده “لم تعد راغبة في وقف إطلاق النار من أجل التفاوض على تفاصيل سطحية”.

وأرى في هذا التصريح “اللافروفي” انعكاسًا لإستراتيجية روسية ثابتة لا تتزعزع، ترفض الحلول المؤقتة، وتصر على رسم تسوية تعيد صياغة البيئة الأمنية لأوكرانيا جذريًّا، وهو ما يترجم في اشتراط موسكو مجددًا حياد كييف بوصفه مطلبًا حديديًّا لا يقبل النقاش، واعترافًا غربيًّا بوضع المناطق التي ضمتها -ولو حتى بحكم الواقع- في المرحلة الحالية والقبول بذلك، فضلًا عن تراجع البنية التحتية العسكرية الغربية في شرق أوروبا.

وبهذا تسعى موسكو -في رأيي- إلى فرض منطق “تسوية شاملة طويلة الأمد لا مؤقتة” للحيلولة دون عودة الحرب بعد جولات من التفاوض العقيم، كما حدث سابقًا بعد اتفاقي مينسك عامي 2014 و2015، فقد تعلم بوتين الدرس.

المذكرة الروسية المقترحة.. هل هي لصياغة إطار تفاوضي جديد؟

أعلن لافروف -من بين جملة تصريحاته كذلك- أن وزارته بصدد إعداد مذكرة دبلوماسية تتضمن تصورًا شاملًا لمعالجة الأزمة الأوكرانية من جذورها، وشبهها بـ”استئصال الورم”، في إشارة إلى أن المقاربة الروسية تنطلق من منطق الجراحة السياسية لا الترميم.

ومن الواضح أن إطلاق هذه الوثيقة يحمل في أطوائه دلالة دبلوماسية، ورسالة موجهة إلى الأطراف الغربية، مفادها أن روسيا لم تفقد زمام المبادرة، وأنها بصدد صياغة رؤيتها السياسية الرسمية المتماسكة.

ويمكن اعتبار الوثيقة التي يتحدث عنها لافروف، وسبقه بإعلانها بوتين عقب مكالمته الهاتفية الأخيرة مع ترمب، أداة ضغط دبلوماسي، تُستخدَم في المحافل الدولية مرجعيةً مضادة للمبادرات الغربية، وخاصة ما عُرفت بـ”صيغة زيلينسكي للسلام”، التي لا يمل المسؤولون الروس من وصفها بـ”سيئة السمعة”.

تبادل الأسرى.. إنسانية منعزلة عن المسار السياسي

بدأت في 23 مايو (أيار) 2025 عملية تبادل الأسرى بين موسكو وكييف، وهي أكبر عملية تبادل منذ عام تقريبًا، وشملت 390 أسيرًا من كل طرف، أغلبهم عسكريون وبينهم مدنيون. وعلى الرغم من رمزية هذه العملية، فإن الوزير لافروف كان حريصًا في تصريحاته على التشديد على أن هذه الخطوة لا تعني اقتراب أي مسار سياسي جاد للتسوية.

ومن هذه الكلمات يتضح الموقف الروسي من عملية تبادل الأسرى، وأنه يتعامل مع هذا الملف على أنه ملف إنساني بحت، ولا يراد له أن يُستثمر كجسر تفاوضي، وهو موقف يبرز النزعة الروسية للفصل الصارم بين الملفات العسكرية والسياسية والإنسانية، وهذا -بلا شك- يُعقِّد احتمالات استخدام هذا النوع من المبادرات بوابةً إلى التهدئة.

وفي الختام، يمكنني القول إن تصريحات الوزير لافروف، الجمعة 23 مايو (أيار) 2025، تشير -من جديد- إلى أن موسكو ثابتة في تمسكها بإستراتيجية التفاوض على أسس جذرية تتجاوز مسألة وقف إطلاق النار المؤقت، أو حتى التفاهمات التكتيكية.

ويتضح من ذلك أن روسيا ترى نفسها في موقع المبادرة، بل السيطرة، وتتعامل مع أدوات السياسة الخارجية من منطلق هجومي يهدف إلى فرض سرديتها وشروطها.

وأوصي بما يلي “لمن ألقى السمع وهو شهيد”:

1- للمراكز البحثية العربية: ضرورة مراقبة تطورات هذه “المذكرة الروسية” المرتقبة، وتحليل مفرداتها عند صدورها؛ لما لها من أثر مباشر في سيناريوهات التسوية.

2- لصناع القرار في العالم العربي: عدم الاكتفاء بتحليل المواقف الروسية من منظور رد الفعل، بل وجب الانتباه للأدبيات المتنامية داخل روسيا بشأن ما يعرف هنا بـ”النظام الأمني البديل لأوروبا”.

3- لوسائل الإعلام العربية: عدم الوقوع في فخ التفسيرات السطحية لتبادل الأسرى، أو التصريحات الإنسانية، والتمييز بين المبادرات التكتيكية والمواقف الإستراتيجية الثابتة.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع