توطئة
في أحد المشاهد التي تثير التساؤل بشأن محددات التآكل التدريجي للبنية الأمنية الأوروبية في الآونة الأخيرة، جاء تعليق تركيا مشاركتها في معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا بدءًا من 8 أبريل (نيسان) 2024. ومع أن تركيا سبق أن أعربت عن خيبة أملها إزاء انسحاب روسيا من المعاهدة في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وتعليق الولايات المتحدة التزاماتها بشأن المعاهدة، فإن أنقرة ترى أهمية هذه الخطوة، متذرعةً بأن المعاهدة لم تعد منطقية، ولم تعد ملزمة للأطراف.
يفرض هذا بدوره عدة تساؤلات عن أهمية معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا، وعن الدول التي علقت مشاركتها، أو انسحبت من المعاهدة، والسؤال الأهم هو: لماذا علقت تركيا مشاركتها في معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا؟ وهل تستطيع تركيا أن تبدأ برنامج تسليح يتجاوز الحدود الحالية لمعاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا؟ وأخيرًا، ما تأثير تعليق مشاركة تركيا في أمن المنطقة في ظل سباق التسلح الجاري؟
أعلنت تركيا تعليق مشاركتها في معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا، الموقعة في باريس في 19 نوفمبر (تشرين الثاني) 1990 بين دول حلف شمال الأطلسي ودول حلف وارسو، وهدفت المعاهدة إلى تقييد عدد الأسلحة التقليدية التي يمكن للدول اقتناؤها، وإعلان أماكن تخزينها، لتؤدي حالة الشفافية هذه إلى زيادة الثقة بين الدول الموقعة على الاتفاقية.
وفي سبيل إدارة الأزمة في وقت الحرب الباردة، وزيادة الثقة بين دول حلفي الناتو ووارسو، والحيلولة دون حرب جديدة، جرت مراقبة التزام الدول بالاتفاقية من خلال الاعتماد على ما سمي اتفاقية السماوات المفتوحة، فعندما تريد أي من الدول الموقعة على الاتفاقية معرفة مدى التزام الدولة الأخرى تطلب إجراء تفتيش عبر تقديم طلب قبل يوم واحد من عملية التفتيش، وإرسال طائرة مراقبة إلى الموقع الذي تدّعي فيه وجود الأسلحة، وتصويره جوًّا، وإذا وجدت أي من الدول أسلحة غير متفق عليها، مثل الدبابات والمدافع، تنشّط آليات اتفاقية فيينا، وتذكر الدولة المعنية بمسؤولياتها تجاه الاتفاقية. وفي حال نقل أي دولة من الدول الموقعة على الاتفاقية أيًّا من القطع أو الأنظمة العسكرية إلى منطقة أخرى، فيجب عليها إبلاغ الدول الأخرى الموقعة على الاتفاقية بهذا الإجراء، كما تنظم عملية الجمع الاستخباري المفتوح بين الدول الموقعة على الاتفاقية خلال عمليات النقل.
وكانت المعاهدة تهدف إلى القضاء على التفوق الساحق للاتحاد السوفيتي في الأسلحة التقليدية بالقارة الأوروبية، من خلال فرض حدود متساوية على عدد الدبابات والمركبات القتالية المدرعة، وأنظمة المدفعية الثقيلة، والطائرات الحربية، والمروحيات الهجومية التي يمتلكها حلف الناتو وحلف وارسو؛ ولذلك صُممت المعاهدة لمنع أي من التحالفين من حشد القوات لشن هجوم خاطف ساحق، ولإنشاء توازن عسكري بين أعضاء حلفي الناتو ووارسو على مستوى أسلحة أقل. وعلى الرغم من اختفاء التهديد بمثل هذا الهجوم مع نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي، فإن الدول الأعضاء مستمرة في الترويج للقيمة المتواصلة لنظام حدود الأسلحة وضوابطها في المعاهدة، مما يوفر درجة غير مسبوقة من الشفافية في القضايا العسكرية.
وفي هذا السياق، نصت المادة الثانية من المعاهدة- بوضوح- على الأسلحة المقسمة إلى خمس فئات، في حين تعبر المواد الثالثة والرابعة والخامسة عن القيود التي ستفرضها على الطرفين، وتوضح البروتوكولات الإضافية للمعاهدة كيفية تنفيذ عمليات التدمير أو نزع السلاح، والإجراءات التي ستتخذها الدول عند جرد الأسلحة التي ستخضع للتخفي، حيث شملت المعاهدة تخفيضات في عدد إجمالي خمس فئات من الأسلحة التقليدية، وهي المركبات القتالية المدرعة، والدبابات القتالية، والطائرات الحربية، والمدفعية، والمروحيات الهجومية، كما تشمل المعاهدة تبادل المعلومات والقيود التي ستفرضها على الأطراف لكل فئة، كما تغطي المعاهدة جغرافيًّا المنطقة الممتدة من الساحل الأطلسي لأوروبا إلى جبال الأورال في الاتحاد السوفيتي.
وفيما يتعلق بإجمالي القيود العددية التي فرضتها معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا على الطرفين، فهي: 40 ألف دبابة قتالية، و60 ألف مركبة قتالية مدرعة، و40 ألف مدفعية، و13 ألفًا و600 طائرة حربية، و4 آلاف مروحية هجومية، وتُستثنى جميع العناصر البحرية في البحر من نطاق هذه المعاهدة. وخلال عملية تخفيض القوات، حظر بيع المعدات العسكرية المعنية، وتقرر تدميرها أو إتاحتها للأغراض السلمية.
الجدير بالذكر أن معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا الأصلية، التي وقعها حلف شمال الأطلسي والاتحاد السوفيتي عام 1990، كانت تهدف إلى الحد من نشر الدبابات والمركبات القتالية المدرعة، والمدفعية والطائرات، بين ساحل المحيط الأطلسي وجبال الأورال، غير أن الاتفاقية عُدّلت لاحقًا في أواخر التسعينيات لتأخذ في الحسبان تفكك الكتلة السوفيتية، وتوسع الناتو شرقًا، وخسارة حلف وارسو للسلطة، وتفكك الاتحاد السوفيتي. ومع ذلك، لم تدخل تلك التعديلات حيز التنفيذ، ولم تصدق على التعديلات سوى بيلاروس، وكازاخستان، وأوكرانيا، وروسيا.
كان رفض أعضاء منظمة حلف الناتو التصديق على النسخة المعدلة من معاهدة القوات التقليدية في أوروبا، فضلًا عن تعليق روسيا للمعاهدة عام 2007، وانسحابها رسميًّا عام 2023، وتعليق الولايات المتحدة التزاماتها أيضًا، سببًا في تفاقم التوترات الأمنية في المنطقة، وتهديد منظومة الأمن الأوروبي، والتشكيك في قدراتها على تقييد سباق التسلح العالمي.
وقع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مرسومًا يعلن فيه تعليق تنفيذ معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا (CFE) بين جمهورية تركيا والدول الأطراف الأخرى، بدءًا من 8 أبريل (نيسان) الجاري، ونُشر المرسوم في الصحيفة الرسمية التركية، وكانت الحكومة التركية قد صدقت على معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا، في 1 يوليو (تموز) 1992، حيث تحدد المعاهدة عدد الأسلحة والمعدات في خمس فئات أساسية؛ (دبابات القتال، والمركبات القتالية المدرعة، وأنظمة المدفعية مع عيار 100 ملم وما فوق، والطائرات الحربية، والمروحيات الهجومية) للقوات المسلحة لـ30 دولة، كما تنص على تبادل المعلومات وعمليات التفتيش.
وفي هذا الصدد، أوضح المتحدث باسم وزارة الخارجية التركية أونجو كيسيلي أن أنقرة لم تنسحب من المعاهدة، ولكنها أوقفت تنفيذها مؤقتًا، مع إمكانية التراجع عنها، حيث جاء القرار الحالي بسبب تصاعد التوترات العالمية، فبعد انسحاب روسيا، وتعليق الولايات المتحدة التزاماتها، لم تعد المعاهدة منطقية في نظر أنقرة؛ لأنه لا أحد يلتزم فعليًّا بشروطها في الوضع الحالي؛ ومن ثم يمكن الوقوف على أبرز المسوغات وراء قرار تركيا المفاجئ فيما يلي:
كان انسحاب روسيا الرسمي من معاهدة القوات التقليدية في أوروبا في نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، بسبب الدعم العسكري الغربي لأوكرانيا، الذي أعقبه تعليق الولايات المتحدة أيضًا مشاركتها في معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا، بمنزلة تصعيد كبير في التوترات الجيوسياسية، مما زاد تعقيد الجهود المبذولة لإنقاذ الاتفاقية، حيث سلط تعليق المشاركة التركية في المعاهدة الضوء على التدهور الأوسع في جهود الحد من الأسلحة والتوترات المتصاعدة بين روسيا والدول الغربية. وبالتوازي مع ذلك، بدأ نظام ألكسندر لوكاشينكو خطواته نحو تعليق مشاركة بيلاروس في معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا، وهو ما سيمنع نقل المعلومات إلى الدول الغربية عن القوة العددية والأصول للجيش البيلاروسي، ومن ناحية أخرى سيخفي عن المفتشين والمدققين الغربيين الأنشطة المتعلقة باستعداد القوات المسلحة للدخول في الحرب، كل هذا من المرجح أن يؤدي إلى تعليق مزيد من دول الناتو العمل بالمعاهدة، ما يفرض سباق تسلح شرس بين تلك الدول في الفترة الحالية.
ولعل أحدث مثال على بدء معالم هذا السباق، هو بدء ألمانيا بالفعل برنامج تسليح بقيمة 100 مليار يورو، وعلى غرار ذلك، وبعد عمليات الانسحاب والتعليق الأخيرة من تركيا، وروسيا، والولايات المتحدة، قد توسع دول الناتو الأخرى في أوروبا ترساناتها، وتتجاوز حدود القوات التقليدية في أوروبا، ما يلقي بظلاله على دول مثل اليونان، التي تشعر بقلق بالغ إزاء هذا السيناريو؛ بسبب صناعة الدفاع الوطنية، وقدراتها التكنولوجية، وبهذا المعنى، ربما يبدأ حلف الناتو مبادرة لتبادل مزيد من المعلومات عن مستويات شراء الأسلحة من أجل تخفيف القيود المفروضة على الدول الأعضاء؛ في محاولة أخيرة لإنقاذ اتفاقية القوات المسلحة التقليدية في أوروبا.
وفقًا للمعطيات السابقة، يمكن القول إن قرار تركيا تعليق معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا جاء في إطار محاولتها التنصل من الاتفاقيات التي باتت جامدة، كسياسة دولية جديدة لنظام أردوغان. في مقابل هذا تبحث عن الاتفاقيات العسكرية الأكثر واقعية، كما تفعل في الاتفاقيات الثنائية مع أذربيجان مثلًا، إذ إن القرار الذي اتخذته تركيا بتعليق مشاركتها في معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا، يسلط الضوء على التحديات المتزايدة التي تواجه الجهود الدولية الرامية إلى الحفاظ على السلام والاستقرار في أوروبا، ومع انهيار اتفاقيات الحد من الأسلحة الرئيسة، وتصاعد التوترات العسكرية، تظل احتمالات حل الصراعات، ومنع مزيد من التصعيد غير مؤكدة، ومع اشتداد المنافسات الجيوسياسية، أصبحت الحاجة إلى المشاركة الدبلوماسية أكثر إلحاحًا لمعالجة الأسباب الجذرية للخلاف، وتعزيز الثقة المتبادلة والتعاون بين الدول.
وبالنظر إلى الجانب الأكثر خطورة، نجد أن انسحاب الأطراف من هذه الاتفاقية قد يشجع على سباق تسلح عالمي غير مسبوق منذ انهيار الاتحاد السوفيتي؛ مما يزيد من الأخطار والتوترات في المنطقة، ولن تنحصر التبعات في المنطقة وحدها؛ بل ستشمل القارة الأوروبية بأسرها. بالإضافة إلى ذلك، قد تسعى روسيا، التي انسحبت من الاتفاقية في نوفمبر (تشرين الثاني) المنصرم إلى زيادة الإنتاج العسكري، وهذا قد يكون دافعًا للدول الأوروبية إلى اتخاذ إجراءات مماثلة، وزيادة التسلح، إذ تخلق الانسحابات المتتالية من المعاهدات والآليات التي تنظم الرقابة على التسلح، وضعًا جديدًا في أوروبا والعالم؛ لأنها تُلغي كل قنوات الاتصال والحوار؛ ونتيجة لهذا قد تطلق يد دول الناتو للقيام بأنشطة عسكرية تشمل السلاح النووي، والقدرات التقليدية من دون رقابة، وهو ما ستستفيد منه تركيا في تعزيز إنتاجها العسكري، وزيادة عدد آلياتها العسكرية التقليدية في المستقبل القريب.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.