بخلاف المعتاد، سارع المستشار المقبل لألمانيا إلى إعلان موقفه بشأن العلاقة مع الولايات المتحدة؛ ففي أحد البرامج التليفزيونية، قال فريدريش ميرز إنه لم يكن يتصور قط أنه سيضطر إلى قول شيء كهذا على الهواء، لكن بعد تصريحات ترمب الأخيرة التي انتقد فيها الاتحاد الأوروبي، وهاجم أوكرانيا قبل بدء محادثات السلام مع روسيا، وألمح إلى انتهاء عهد الالتزام الأمريكي التقليدي بأمن أوروبا، يبدو أن هذه الإدارة الأمريكية الجديدة لا تكترث بمصير أوروبا.
أكد فريدريش ميرز، المعروف بدعمه القوي للعلاقات عبر الأطلسي، أن أولويته القصوى هي تعزيز قوة أوروبا تدريجيًّا، وصولا إلى استقلال إستراتيجي عن الولايات المتحدة. يطمح ميرز إلى استعادة دوره بقوة في الساحة السياسية الأوروبية والدولية، في بلد يعتقد 79% من سكانه أن روسيا تمثل التهديد الأكبر للسلام، في حين تشكل الحرب في أوكرانيا مصدر قلق كبير لهم، في ظل تراجع ثقتهم بالحليف الأمريكي. فقط 39% من الألمان يرى أن التحالف مع الولايات المتحدة لا يزال مستقرًا.
السياسة الشرقية
منذ الحرب الباردة، شكّلت السياسة الشرقية (Ostpolitik) محور نهج ألمانيا الغربية تجاه الاتحاد السوفيتي لعقود. تبنّى الحزب الديمقراطي الاجتماعي هذا المسار بعد وصوله إلى السلطة (1969-1982)، مدفوعًا بتحولات داخلية، أبرزها الاحتجاجات الطلابية، وصعود جيل ما بعد الحرب كقوة انتخابية رافضة للنهج المحافظ الذي هيمن في أديناور، ومعارضة للتدخل الأمريكي في فيتنام، وناقمة على صمت الجيل السابق بشأن تاريخ الرايخ الثالث.
استثمر المستشار الألماني ويلي برانت هذه الانعطافة لإعادة صياغة السياسة الخارجية الألمانية، إذ أدرك أن الرهان على انهيار مفاجئ للأنظمة الاشتراكية كان طرحًا ساذجًا. كان برانت يأمل إقامة علاقة ثقة مع الشرق، كما فعل سلفه من الاتحاد المسيحي، المستشار كونراد أديناور، مع الغرب. اعتمدت سياسة برانت على الاعتراف بالوضع القائم، ضمن نهج براغماتي قاده برانت إلى جانب الوزير إيجون بار، مهندس سياسة التقارب، الذي لخّص جوهرها بعبارته الشهيرة: “الاعتراف بالوضع الراهن من أجل تغييره في المستقبل”. استند إيجون بار إلى رؤية جون كينيدي القائلة بأن “تطوير التجارة مع دول الكتلة الشرقية يجب أن يتم دون تعريض أمننا للخطر”. كانت الفكرة المحورية أن تطوير العلاقات الاقتصادية سيخلق ترابطًا اجتماعيًّا، وأن تحسين مستويات المعيشة في الاتحاد السوفيتي وألمانيا الشرقية قد يسهم في تخفيف نهج الأنظمة الحاكمة، وتقليل الاستقطاب الأيديولوجي، على أمل أن يؤدي ذلك مستقبلًا إلى تقارب قد يفضي إلى إعادة توحيد ألمانيا. أدت السياسة الشرقية دورًا في إستراتيجية الغرب لتخفيف التوتر بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي.
على المستوى العملي، أبرمت ألمانيا الغربية سلسلة من “المعاهدات الشرقية” مع دول حلف وارسو، شملت اتفاقيات لتعزيز الاتصالات وتسهيل العبور، في أغسطس (آب) 1970، جاءت معاهدة موسكو لترسخ هذا التوجه، إذ اتفق الطرفان على التخلي عن استخدام القوة، والاعتراف بالحدود الأوروبية التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية. وفي ديسمبر (كانون الأول) من العام نفسه، عززت معاهدة وارسو هذا النهج، إذ اعترفت ألمانيا الغربية رسميًّا بخط أودر- نايسه كحدود غربية لبولندا؛ مما أنهى النزاع الحدودي الذي خلفته التغيرات الإقليمية بعد الحرب. كان هذا الاعتراف نقطة تحول أسهمت في تهدئة التوترات التاريخية بين البلدين. وفي ديسمبر (كانون الأول) 1972، جاء توقيع المعاهدة الأساسية بين ألمانيا الغربية وألمانيا الشرقية، إذ اعترف كل طرف بسيادة الآخر؛ مما فتح الباب أمام توسع التبادل الدبلوماسي والاقتصادي والثقافي بين الدولتين، وأسهم في ترسيخ سياسة التقارب بوصفها خيارًا إستراتيجيًّا لاحتواء الصراع الألماني- الألماني ضمن سياق الحرب الباردة.
لم يلقَ هذا التوجه دعمًا كبيرًا في الأوساط الاقتصادية الألمانية. كانت نسبة الشركات المهتمة بتوسيع العلاقات التجارية مع الاتحاد السوفيتي محدودة، كما أن التجارة الألمانية- السوفيتية في السبعينيات كانت تعويضية، إذ ارتبطت الصادرات الألمانية بالواردات السوفيتية من الناحية الاقتصادية والتكنولوجية. على سبيل المثال، بموجب اتفاقية عام 1970، زودت ألمانيا الغربية الاتحاد السوفيتي بأنابيب ذات قطر كبير، استخدمت لاحقًا في تصدير الغاز الطبيعي. لم يكن اعتماد ألمانيا الغربية على موسكو بالغ الأهمية اقتصاديًّا في ذلك الوقت، لكنه كان كافيًا لتأسيس علاقة طويلة الأمد بين الطرفين.
سرعان ما وجدت ألمانيا نفسها في قلب توترات الحرب الباردة؛ ففي عام 1981، مارس الاتحاد السوفيتي ضغوطًا على الحكومة الشيوعية في بولندا لقمع حركة التضامن (Solidarity)، وهي نقابة عمالية بولندية دعت إلى إصلاحات اجتماعية واسعة. وردّت الولايات المتحدة بفرض عقوبات اقتصادية على موسكو، غير أن المستشار هيلموت شميت -خليفة ويلي برانت عن الحزب الديمقراطي الاجتماعي- رفض تبني هذا النهج التصادمي، وبدلًا من ذلك، واصل سياسته في تعزيز السياسة الشرقية، ودفع باتجاه تنفيذ اتفاق خط أنابيب الغاز بين ألمانيا الغربية والاتحاد السوفيتي، الذي يهدف إلى نقل الغاز الطبيعي من سيبيريا إلى أوروبا. هذا القرار أثار استياء الولايات المتحدة، إذ كشف كيف أن السياسة الشرقية عمّقت الفجوة بين ألمانيا الغربية وأوثق حلفائها.
فور تولّي المستشار هيلموت كول السلطة، سعى إلى ترميم العلاقات مع الولايات المتحدة، فكان دعمه القوي لحلف حلف شمال الأطلسي وموافقته على نشر الصواريخ الأمريكية في أوروبا الغربية عاملًا محوريًّا في استعادة الثقة بين البلدين. ومع ذلك، لم يسعَ كول إلى فك الارتباط الاقتصادي الذي أسسته ألمانيا الغربية مع الاتحاد السوفيتي، إذ كان يدرك -كحال معظم الألمان الغربيين- أهمية الحفاظ على قناة للحوار مع موسكو، خاصة فيما يتعلق بمستقبل ألمانيا الشرقية.
بصورة أوسع، أسهم نهج التقارب في ترسيخ علاقة مستقرة بين ألمانيا الغربية والاتحاد السوفيتي، وهو ما اعتُبر عاملًا محوريًّا في تحقيق إعادة التوحيد السلمي عام 1990. ورغم صعوبة تحديد مدى تأثير هذه السياسة في إنهاء الحرب الباردة، فإنها عززت النهج البراغماتي لألمانيا الغربية؛ مما مهد الطريق لاستيعاب المتغيرات الجيوسياسية في العقود اللاحقة. ويمكن تلخيص إرث السياسة الشرقية في ثلاث نقاط رئيسة:
مقاربات ألمانية للشراكة مع روسيا
مع نهاية الحرب الباردة، وسقوط جدار برلين، وتفكك الاتحاد السوفيتي في أوائل التسعينيات، ساد في ألمانيا والغرب اعتقاد أن روسيا ستتجه نحو الديمقراطية، بل وصل التفاؤل إلى حد احتمال انضمامها إلى حلف شمال الأطلسي. روج وزير الخارجية الأمريكي الأسبق جيمس بيكر لهذا التفاؤل، معتقدًا أنه سيعزز التحول الديمقراطي في روسيا، ويمنع العودة إلى النهج السلطوي السابق، لكن سرعان ما تبددت هذه الأمال، وبدأ الإحباط يتسلل إلى الغرب خلال التسعينيات، مع تصاعد المؤشرات على تعثر مسار التحول الديمقراطي في روسيا، وصعود احتمالات العودة إلى نهج سلطوي. لم يكن إخفاق التحول الديمقراطي مسؤولية الروس وحدهم، إذ لم يبذل الشركاء الغربيون جهودًا كافية لدمج روسيا بفاعلية في المؤسسات الأوروبية، كما فشلوا في إعادة تشكيل نظام أمني أوروبي جديد يشمل روسيا دون حلف شمال الأطلسي.
أسهمت هذه المقاربة، سواء بقصد أو بدونه، في تعزيز مشاعر الإخضاع والإذلال لدى الروس؛ مما زاد نفورهم تجاه الغرب. كما أن المبالغة الغربية في تقدير قوة الموجة الديمقراطية عقب انهيار الاتحاد السوفيتي، إلى جانب الافتراضات الخاطئة بشأن مسار التطورات في روسيا، أدت إلى الاستخفاف بالإرث الإمبراطوري الروسي وقوة هياكل السلطة العميقة، التي أثبتت أنها أكثر رسوخًا مما كان متوقعًا.
في البداية، نظرت موسكو بإيجابية إلى توسع الاتحاد الأوروبي شرقًا، خاصة مع إمكانية إبرام اتفاقيات شراكة بين روسيا والاتحاد الأوروبي، لكنها لاحقًا رفضت اتفاقيات الشراكة الأوروبية مع أوكرانيا، ومولدوفا، وجورجيا، مع أنها سعت في البداية إلى توقيع اتفاقيات مماثلة. أما فيما يخص حلف شمال الأطلسي، فعارضت روسيا توسعه شرقًا منذ البداية، ورغم محاولات احتواء هذه المخاوف عبر اتفاقيات 1997 و2002، فإنها لم تُرضِ موسكو التي أرادت الحصول على دور متكافئ داخل الحلف. إضافة إلى ذلك، لم يكن أعضاء حلف شمال الاطلسي والاتحاد الأوروبي مستعدين لمنح روسيا منطقة نفوذ في الفضاء ما بعد السوفيتي؛ نظرًا إلى تمسكهم بمبادئ السيادة، وحق تقرير المصير للدول الأصغر، ورفضهم العودة إلى سياسة “تحالف القوى” التي كانت سائدة في القرنين التاسع عشر والعشرين.
حاول الاتحاد الأوروبي تعزيز التعاون مع روسيا، لكن دون التضحية بمصالح الدول الأصغر في شرق أوروبا وجنوب شرقها، إذ كان من شأن أي تجاهل لهذه الدول أن يعيد حالة عدم الثقة والمخاوف من إعادة رسم الحدود على غرار اتفاقية يالطا.
أدى التوسع الشرقي للاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي إلى نشوء واقع أوروبي جديد، لم تعد معه برلين مضطرة إلى أخذ موافقة موسكو عند التعامل مع دول مثل بولندا، والتشيك، والمجر، فقد أصبحت دول حلف وارسو جزءًا من الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الاطلسي، وحصلت على مقعد على طاولة صنع القرار بشأن السياسات تجاه روسيا.
دفع هذا التحول الجذري إلى انكماش السياسة الشرقية؛ مما أدى إلى تطورها نحو سياسة ألمانية جديدة تجاه روسيا (Rysslandpolitik) . بدا أن السياسة الجديدة يمكن أن تكون إطارًا مناسبًا لإدماج روسيا في أوروبا الأوسع. كما ساعدت هذه السياسة الشركات الألمانية على توسيع نفوذها داخل روسيا، لكن رغم أوجه التشابه الشكلية بين النهجين، فإن اعتبارها امتدادًا مباشرًا للسياسة الشرقية يعد طرحًا مضللًا، إذ تغير السياق الدولي برمته.
وعلى الرغم من سعي برلين إلى دمج روسيا بعمق أكبر في المؤسسات الأوروبية، لم يقتصر هذا الجهد على عضويتها في مجلس أوروبا، ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، بل تجاوز ذلك نحو آفاق أوسع. لم تكن موسكو راضية، وعكس خطاب بوتين أمام البوندستاغ الألماني عام 2001 هذا الاستياء بوضوح، عندما تساءل ساخرًا: هل هذه شراكة حقيقية؟ لم يخفِ بوتين انتقاده للغرب، لا سيما بشأن تهميش روسيا في هيكل الأمن الأوروبي، وحرمانها من دور مؤثر في حلف شمال الأطلسي. مع تقدم الاندماج الأوروبي وتوسع حلف شمال الأطلسي، أصبحت خطابات بوتين أكثر صراحة وحزمًا تجاه الغرب.
بلغ هذا النهج ذروته في عهد المستشار غيرهارد شرودر؛ إذ اختارت ألمانيا مع شرودر ألا تولي اهتمامًا لهذا التصعيد، وفضلت التركيز على “شراكة التحديث” و”التغيير عبر التجارة” مع روسيا؛ سعيًا وراء بناء شراكة بنّاءة. على سبيل المثال، أُضفِيَ الطابع المؤسسي على الاجتماعات الاستشارية الألمانية-الروسية (2001- 2005). وفي عام 2005، وقع البلدان اتفاقية لبناء خط أنابيب الغاز “نورد ستريم”، الذي يربط روسيا وألمانيا مباشرة عبر بحر البلطيق؛ مما عزز التعاون الاقتصادي بين الطرفين. لم يعبأ شرودر بالتوترات السياسية المتزايدة التي أثارتها اعتراضات دول أوروبا الشرقية، وأكد -على نحو خاص- “المصالحة التاريخية”، وأبدى تفهمًا خاصًا “لمخاوف روسيا من الحصار”، وانتقد الاتحاد الأوروبي بسبب رفضه اقتراح روسيا إنشاء منطقة تجارة حرة تمتد من فلاديفوستوك إلى لشبونة. وبمرور الوقت، تطورت علاقة شرودر مع بوتين إلى علاقة وثيقة، ولم يكن مستغربًا وصف شرودر لبوتين بأنه “ديمقراطي نزيه”. لاحقًا، انضم شرودر إلى مجالس إدارة شركات الطاقة الروسية، ويرى محللون أن سياسة شرودر شجعت بوتين على اتباع نهج أكثر عدوانية، إذ أدرك أن ألمانيا ستضع المصالح الاقتصادية فوق أي اعتبارات أخرى. ولم يكن من الممكن وصف جمهورية ألمانيا الاتحادية بأقل من “محامي روسيا في أوروبا”.
رهان ميركل
على مدى حكم أنغيلا ميركل (2005- 2021)، تبنّت في البداية النهج التقليدي للسياسة الألمانية تجاه روسيا، الذي أسسه هيلموت كول، ورسّخه غيرهارد شرودر، المعتمد على التكامل الاقتصادي، والتقارب الدبلوماسي كأدوات لاحتواء روسيا. تجاهلت ميركل في سنواتها الأولى تصاعد النزعة السلطوية داخل روسيا، واتجاه بوتين إلى تبني سياسة خارجية تعديلية تجاه أوروبا، مستمرة في سياسة الشراكة التي بدأت تفقد أسسها تدريجيًّا مع ترسيخ بوتين نظامًا سلطويًّا، وتركيزه على المصالح الجيوسياسية.
تبنّت إدارة أوباما سياسة “إعادة الضبط” تجاه روسيا؛ مما شجّع المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل على تعزيز علاقاتها مع موسكو، التي كان يرأسها آنذاك ديمتري ميدفيديف. في هذا السياق، صاغت ميركل أجندة الاتحاد الأوروبي تجاه روسيا، متبنية نهج “الشراكة من أجل التحديث”، الذي استند إلى الافتراضات التقليدية للسياسة الألمانية بأن تعزيز التفاعل الاقتصادي مع روسيا قد يحوّلها إلى لاعب أكثر ديمقراطية وموثوقية. وفي عام 2010، أصبح هذا النموذج سياسة رسمية للاتحاد الأوروبي، إذ أُطلقت “شراكة الاتحاد الأوروبي وروسيا من أجل التحديث”، إلى جانب توقيع 22 اتفاقية ثنائية بين الدول الأعضاء وموسكو.
كثّفت ميركل جهودها لدمج روسيا في الأطر الأوروبية، ووقّعت مع ميدفيديف مذكرة ميسبيرغ، التي اقترحت إنشاء لجنة سياسية وأمنية مشتركة بين الاتحاد الأوروبي وروسيا؛ مما منح موسكو نفوذًا أكبر في القرارات الأمنية الأوروبية، وهو امتياز لم تتمتع به الولايات المتحدة، أو حلف الناتو. وقد تم اعتبار تسوية نزاع ترانسنيستريا (المنطقة الانفصالية في مولدوفا والمدعومة من روسيا) اختبارًا عمليًّا لهذه الآلية الجديدة للتعاون.
لكن مذكرة ميسبيرغ واجهت عدة عراقيل، وفشلت في تحقيق أهدافها، إذ لم تقدّم روسيا أي تنازلات لتسوية النزاع، بل عينت دميتري روجوزين، القومي المتطرف، مبعوثًا لها إلى ترانسنيستريا، ورئيسًا للجنة الاقتصادية المولدوفية- الروسية، في إشارة واضحة إلى عدم اهتمام موسكو بإحراز تقدم حقيقي. أبرزت مبادرة ميسبيرغ حدود النهج الألماني، إذ تعرّضت برلين لانتقادات بسبب “عقد الصفقات” الثنائية مع روسيا، في ظل تردد الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي في تحمل المسؤولية. وبدلًا من تعزيز العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وروسيا، أدت المبادرة إلى إحباط الجانبين؛ مما زاد تآكل الثقة المتبادلة، وأظهر محدودية النفوذ الألماني داخل السياسة الأوروبية.
بمرور الوقت، بدأت ميركل تتبنى موقفًا أكثر حذرًا تجاه موسكو، منتقدة سجل بوتين في حقوق الإنسان، ومعارضة منحه نفوذًا أوسع داخل المؤسسات الأوروبية. ومع ذلك، لم تكن هذه الانتقادات مصحوبة بإجراءات حاسمة لاحتواء النفوذ الروسي؛ بل واصلت دعم مشروع “نورد ستريم 2″؛ مما جعل ألمانيا اكثر اعتمادًا على الطاقة الروسية. لم يكن هذا القرار مجرد استمرار للسياسة الاقتصادية الألمانية فحسب؛ بل كشف عن تضارب جوهري بين مصالح برلين الاقتصادية وأمنها القومي.
في هذا السياق، يمكن القول إن السياسة الألمانية لم تشهد تحولًا جوهريًّا خلال العقد الأول من حكم ميركل؛ إذ ظل السياسيون الألمان متشبثين بتصوراتهم القديمة عن العلاقة مع روسيا، في حين حرصت النخبة الاقتصادية على حماية استثماراتها ومصالحها التجارية، حتى مع وضوح مؤشرات التصعيد الروسي. نتيجة لهذا التوجه، أصبحت ألمانيا أكثر عرضة للابتزاز الروسي، إذ استمرت في التعاون مع نظام كليبتوقراطي منحته الوصول إلى بنيتها التحتية الحيوية عبر مشروعات الطاقة العملاقة التي تقودها شركة غازبروم وشركاتها التابعة.
أدى ضم روسيا شبه جزيرة القرم عام 2014 إلى تغيير في السياسة الألمانية، لكنه لم يكن كافيًا لإحداث قطيعة مع النهج السابق. دعمت ميركل فرض عقوبات على موسكو، لكن بدلًا من تبني إستراتيجية أكثر صرامة لكبح النفوذ الروسي، أبقت على قنوات الاتصال مفتوحة مع الكرملين، مدعومة بوزير خارجيتها آنذاك، فرانك- فالتر شتاينماير، الذي كان كبير موظفي شرودر سابقًا.
كان رهان ميركل الأساسي يقوم على افتراض أن استمرار الحوار سيحول دون سوء الفهم الذي قد يؤدي إلى تصعيد عسكري مفتوح؛ ولهذا السبب بقيت ألمانيا في موقف متردد بين تشديد العقوبات والإبقاء على علاقاتها التجارية والطاقوية مع روسيا. شكل ذلك عاملًا أساسيًّا في استمرار سياسة الحذر الألمانية؛ مما جعل بوتين أكثر جرأة، لكن الأهم أن الرأي العام الألماني كان يميل إلى أداء دور الوسيط بين روسيا والغرب بدلًا من الانخراط المباشر في مواجهة موسكو. وهذا الموقف الشعبي عزّز تردد ميركل، التي سعت إلى الحفاظ على توازن دبلوماسي، وإن كان ذلك يعني عدم اتخاذ إجراءات أكثر حزمًا.
كان ضم القرم إنذارًا مبكرًا لفشل السياسة الألمانية تجاه روسيا؛ إذ كشف عن العيوب الجوهرية للنهج الألماني تجاه روسيا، وفشل في ردع الطموحات التوسعية الروسية، كما أثبتت اتفاقيات مينسك حدود الدبلوماسية مع قوة تعديلية توسعية لا تحترم التسويات السياسية. فرضت هذه الأزمة على ألمانيا تحديًا صعبًا: كيف توازن بين البراغماتية الاقتصادية، والوساطة الدبلوماسية، والواقعية الجيوسياسية؟
أسهمت استجابة ألمانيا الفاترة عام 2014 في تعزيز قناعة بوتين بأن برلين لن تتخذ إجراءات رادعة، كما أن استمرارها في الاعتماد على الطاقة الروسية قوّض نفوذها؛ ومن ثم أخفقت برلين في إدراك أن الإستراتيجية الروسية بعيدة المدى، إذ لم يكن ضم القرم حدثًا معزولًا؛ بل جزءًا من نهج روسي أوسع لزعزعة استقرار أوروبا. ومع ذلك، استمرت ألمانيا في الرهان على الحوار والإجراءات الاقتصادية كأدوات لاحتواء روسيا، متجاهلة الإشارات القادمة في موسكو.
الدروس المستفادة: إخفاقات السياسة الألمانية تجاه روسيا
افترضت ألمانيا أن التعاون الاقتصادي سيقود إلى تحول ديمقراطي في روسيا، مستلهمة تجربة السياسة الشرقية. تجاهل هذا النهج أن بوتين لم يسعَ إلى الإصلاح؛ بل إلى تعزيز سلطويته، واستغلال الاقتصاد كأداة نفوذ. تحولت مشروعات الطاقة، مثل نورد ستريم، إلى وسيلة ابتزاز بدلًا من ضمانة للاستقرار، واستُخدمت العوائد الروسية لتمويل التدخلات العسكرية في جورجيا (2008)، والقرم (2014)، وأوكرانيا (2022).
ظل نهج “روسيا أولًا” مهيمنًا على التفكير الألماني؛ مما أدى إلى تجاهل المخاوف الأمنية لدول أوروبا الشرقية، مثل بولندا، ودول البلطيق، وأوكرانيا. ركزت برلين مسؤوليتها التاريخية عن الحرب العالمية الثانية على روسيا وحدها، متجاهلة أن أوكرانيا وبيلاروس تحملتا وطأة الاحتلال النازي. عزز هذا التوجه التساهل مع موسكو، بما في ذلك رفض خطة انضمام أوكرانيا إلى الناتو عام 2008؛ ما شجع روسيا على التصعيد.
رهنت ألمانيا سياستها تجاه روسيا بالحوار والتكامل الاقتصادي، معتقدة أن التنازلات ستشجع التعاون، لكن العكس حدث؛ إذ فاقمت سياسة الاسترضاء شهية بوتين للتوسع. حتى بعد غزو القرم، واصلت برلين السعي إلى الحوار، مع أن روسيا لم تعد تعتبر نفسها جزءًا من النظام الأوروبي؛ بل قوة تسعى إلى تقويضه.
فرضت جماعات الضغط الاقتصادية، مثل اللجنة الشرقية للاقتصاد الألماني، إبقاء العلاقات الوثيقة مع موسكو، متذرعة بحاجة ألمانيا إلى الغاز الروسي، والأسواق الروسية. كما أدت كيانات مثل “حوار بطرسبورغ” دورًا في الترويج لشراكة إستراتيجية مع روسيا، حتى بعد تصاعد عدوانيتها. امتد نفوذ هذه المصالح إلى النخبة السياسية الألمانية، التي أعلت التجارة على الأمن القومي.
فضّلت برلين المصالح الاقتصادية على الاعتبارات الأمنية، متجاهلة التحذيرات من السياسات التوسعية لبوتين. اكتفت بعد ضم القرم عام 2014 بفرض عقوبات محدودة دون ردع فعلي. تفاقم هذا الخطأ مع استمرار دعم “نورد ستريم 2″، الذي قلّص دور أوكرانيا بوصفها دولة عبور للطاقة؛ مما جعلها أكثر عرضة للابتزاز الروسي.
رغم تحذيرات الحلفاء، لم تتبنَّ ألمانيا أي إستراتيجية ردع قبل الغزو الشامل لأوكرانيا (2022)، ورفضت تقديم أسلحة لكييف حتى بعد اندلاع الحرب؛ مما أضعف دفاعاتها. استغرقت برلين وقتًا طويلًا لتعديل موقفها؛ مما كشف افتقارها إلى الاستعداد لمواجهة تهديد بهذا الحجم.
لحظة التحول (Zeitenwende)
أصيب الألمان بالصدمة وهم يشاهدون غزو روسيا لأوكرانيا في فبراير 2022. شعروا بأنه كان هجومًا على فكرة ألمانيا نفسها.
في 27 فبراير (شباط) 2022، أي بعد ثلاثة أيام من الغزو الروسي، أعلن المستشار أولاف شولتز أمام البوندستاغ الألماني نقطة تحول تاريخية، متعهدًا بإحداث تغيرات جذرية وتاريخية في تاريخ ألمانيا وأوروبا؛ إذ تعهد بانشاء صندوق دفاعي بقيمة 100 مليار يورو لتحديث الجيش الألماني، والالتزام بزيادة الإنفاق الدفاعي إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي، وتقديم مساعدات عسكرية لأوكرانيا، متجاوزًا عقودًا من التردد في تصدير الأسلحة الفتاكة، وأخيرًا، إنهاء الاعتماد على الطاقة الروسية من خلال الاستثمار في الغاز الطبيعي المسال، والطاقة المتجددة.
في لحظة واحدة، أعاد شولتز صياغة النقاش بشأن دور ألمانيا في أوروبا والعالم؛ تخلّى عن المبدأ الألماني القديم بعدم تسليح أطراف في صراعات دولية، وتحدى -دفعة واحدة- كل المفاهيم السابقة المتعلقة بروسيا.
لكن رغم الطابع الحاسم لهذا الإعلان، واجه تنفيذ الإصلاحات عقبات كبيرة. ولا تزال “السياسة الخارجية الجديدة” لألمانيا موضع نزاع شديد. كما ظهرت عوائق عندما واجهت ألمانيا نفسها، فالعقبات البيروقراطية، والانقسام السياسي، وعدم الاستعداد لتحمل الأخطار، جعلت تنفيذ التغييرات اللازمة عملية يشوبها كثير من التردد، والأهم أنها افتقرت إلى إستراتيجية متماسكة للتعامل مع تداعيات التغيير.
قاومت برلين إرسال أسلحة ثقيلة إلى أوكرانيا، متذرعة بالخوف من التصعيد مع روسيا، في حين قدمت بولندا ودول البلطيق مساعدات عسكرية مباشرة. اكتفت ألمانيا بإرسال 5,000 خوذة، مما أثار انتقادات واسعة. لاحقًا، وبعد ضغوط أمريكية وأوروبية، بدأت ألمانيا بتقديم أسلحة متقدمة، مثل دبابات جيبارد المضادة للطائرات، وأنظمة الدفاع الجوي IRIS-T، ومدافع PzH 2000 الذاتية الدفع. وفي عام 2023، وافقت على إرسال دبابات “ليوبارد 2″، لكنها لم تتخذ القرار إلا بعد مماطلة وضغوط من حلف شمال الاطلسي . مع أن ألمانيا أصبحت أحد أكبر موردي الأسلحة لأوكرانيا، فإن تأخيراتها أضرت بمصداقيتها بوصفها حليفًا أمنيًّا موثوقًا به.
كان التغيير الأكثر دراماتيكية هو التخلي السريع عن الطاقة الروسية؛ إذ نجحت ألمانيا في قيادة أوروبا لخفض إمدادات الطاقة من روسيا. كما أوقفت برلين مشروع “نورد ستريم 2″، وبدأت بسرعة ببناء محطات غاز طبيعي مسال، وزادت استيراد الغاز من النرويج، والولايات المتحدة، وقطر، مع إعادة تشغيل محطات الفحم لتخفيف أزمة الطاقة. لكن هذا التحول لم يأتِ بلا تكلفة؛ فقد أدت الأزمة إلى ارتفاع الأسعار، وإضعاف الصناعة الألمانية؛ مما أثار استياء شعبيًّا، واستغلته أحزاب اليمين الشعبوي (AfD) للمطالبة باستئناف العلاقات الاقتصادية مع روسيا.
نهاية حقبة التحالف عبر الأطلسي
كشف الاجتماع بين ترمب وزيلينسكي في المكتب البيضاوي عن تحولات جوهرية في ركائز العلاقات عبر الأطلسي، التي استمرت ما يقرب من ثمانية عقود. ما كان تحالفًا ثابتًا يقوم على القيم والمصالح المشتركة بات الآن مشروطًا وخاضعًا لحسابات القوة والمصالح السياسية المتغيرة. الأخطر أن هذه التحولات لا تعكس مجرد تقلبات في السياسة الترمبية؛ بل تشير إلى تراجع أهمية أوروبا في إستراتيجيات القوى الكبرى، سواء في واشنطن أو موسكو، في ظل تبني ترمب رؤية متشددة لهذا التغيير.
في ظل هذه المتغيرات العميقة، لم يعد الأمر مقتصرًا على إعادة تشكيل موازين القوى الدولية، بل يمتد إلى إعادة تعريف القيم والمفاهيم التي تحكم النظام الدولي. التحدي الحقيقي لا يكمن في هذه التحولات في ذاتها؛ بل في قدرة الفاعلين الدوليين على استيعاب الاتجاهات الفاعلة وسط الضوضاء التي يولدها المشهد المتغير. وفي هذا السياق، تجد ألمانيا نفسها أمام مفترق طرق حاسم؛ إذ يتعين عليها التخلي عن نهج التردد الإستراتيجي، وتبني سياسة خارجية أكثر استقلالية وفاعلية.
لا تزال ألمانيا تُعرّف نفسها بناء على ماضيها أكثر من استعدادها للمستقبل. أدت الهوية الألمانية بعد الحرب العالمية الثانية دورًا محوريًّا في تشكيل سياستها الخارجية، إذ قامت على مبادئ السلام، والدبلوماسية المتعددة الأطراف، والاندماج الأوروبي. غير أن التحديات الجديدة، سواء تصاعد النزعات اليمينية المتطرفة في الداخل، أو التحولات في النظام الدولي، أو تداعيات الحرب في أوكرانيا، تفرض على ألمانيا إعادة التفكير في هويتها، وتتطلب منها:
التحولات الإستراتيجية المطلوبة
في ظل تراجع الالتزام الأمريكي بالأمن الأوروبي، وتصاعد نهج الترمبية السياسية في واشنطن، تحتاج ألمانيا إلى تطوير قدراتها الدفاعية بعيدًا عن الاعتماد المفرط على الولايات المتحدة. يتطلب ذلك إعادة هيكلة سياسات التسلح، والاستثمار في التكنولوجيا العسكرية المتقدمة، بما يتجاوز الالتزامات التقليدية لحلف شمال الأطلسي، بالإضافة إلى ترسيخ دورها بوصفها قائدًا أمنيًّا أوروبيًّا قادرًا على تحمل مسؤولياته في مواجهة التهديدات المتزايدة.
أما سياستها تجاه روسيا، فقد أصبح تبني نهج واضح وحازم أمرًا ضروريًّا، يقوم على الردع الفعال بدلًا من سياسة الاسترضاء التي أثبتت فشلها. ينبغي لبرلين تعزيز انتشارها العسكري في شرق أوروبا، وتقديم دعم عسكري مستدام لأوكرانيا، مع إنهاء الاعتماد على الطاقة الروسية نهائيًّا، وتنويع مصادر الطاقة لضمان أمنها القومي. يجب أن تستند علاقتها مع موسكو إلى إستراتيجية احتواء نشطة تحول دون أي تقارب غير محسوب قد يعيد أخطاء الماضي.
أما علاقتها مع الولايات المتحدة، فعلى برلين التعامل بحذر مع التحولات الجارية وفق رؤية واقعية تأخذ في الحسبان احتمالات تقلص الدور الأمريكي في الأمن الأوروبي. يتطلب ذلك تعزيز التحالفات الدفاعية داخل أوروبا، والانخراط في شراكات إستراتيجية في منطقة الهند والمحيط الهادئ، خاصة مع اليابان وأستراليا، لموازنة التوجهات الجديدة في النظام الدولي. كما ينبغي أن تعيد ألمانيا تقييم علاقاتها مع الصين على نحو متوازن، بحيث تحافظ على مصالحها الاقتصادية، دون التفريط في أمنها القومي، أو موقعها الجيوسياسي.
إعلان المستشار أولاف شولتز “نقطة تحول” في السياسة الألمانية لا يجب أن يظل مجرد خطاب سياسي، بل ينبغي للمستشار الجديد فريدريش ميرز تحويله إلى إستراتيجية عملية متماسكة. يتطلب ذلك:
ألمانيا اليوم أمام لحظة اختبار كبرى؛ إذ لم يعد بإمكانها التهرب من مسؤولياتها بوصفها قوة أوروبية محورية، وعليها أن تتخلى عن التردد في مواجهة الأزمات العالمية. السنوات المقبلة ستكون حاسمة في تحديد ما إذا كانت برلين قادرة على إعادة صياغة سياستها الخارجية بما يتناسب مع التحولات الجذرية في النظام الدولي، أم ستظل رهينة الحسابات القديمة التي أثبتت فشلها.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.