انعقدت قمة حلف شمال الأطلسي في لاهاي، الأربعاء 25 يونيو (حزيران) 2025، في ظرف استثنائي من التصعيد المنضبط، إن صح التعبير… وما أقصده أن التصعيد في الشكل والخطاب، والانضباط في المضمون والتوقيت.
فبينما تتوالى التصريحات الغربية عن خطر روسي محدق، واحتمالات اندلاع حرب بين الناتو وروسيا في أفق زمني يتراوح بين ستة أشهر وخمس سنوات، لا يخفي الناتو -من واقع مخرجات قمته، وسياقات التحضير لها- أن الهدف الفعلي يتمثل في تحويل وظيفي بنيوي للحلف، يعيد من خلاله رسم عقيدته الأمنية ومصادر تمويله، ومهمته الطويلة الأمد، والذريعة الأمثل لذلك هي العودة إلى التهديد الروسي بوصفه مفهومًا مؤسسًا.
من هذا المنطلق، ومن واقع ما أتابعه من مواقف وتصريحات روسية، لا تتعامل موسكو مع قمة لاهاي بوصفها محطة دبلوماسية عابرة؛ بل بوصفها سردية متكاملة تُبنى في الغرب لتثبيت صورة روسيا في موقع “الوحش البنيوي” الذي يجب التسلح ضده، دائمًا، وليس تسلحًا ردعيًّا أو ظرفيًّا، كحرب أوكرانيا مثلًا.
وهذه السردية تتجاوز -بحسب التقديرات الروسية- الحسابات العسكرية إلى رهانات اقتصادية وهيكلية كبرى، أبرزها توجيه الإنفاق الأوروبي إلى التخديم على الصناعات الدفاعية العابرة للأطلسي، في سياق ما يمكن وصفه بـ”التعبئة ما قبل الحرب.. دون الحرب”.
وفي أول ردود الفعل الروسية على هذه القمة ومخرجاتها، جاءت تصريحات المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف، التي وصفها بالتصريحات غير الاعتيادية من حيث مباشرتها، فبيسكوف وصف قمة لاهاي بأنها محاولة لرسم وحش لتبرير رفع الإنفاق العسكري إلى 5% من الناتج المحلي لدول الناتو، وهو تطور لم تشهده أوروبا منذ تأسيس الحلف.
وأنقل هنا -للاستشهاد- نص تصريح المتحدث الرئاسي الروسي، يقول بيسكوف: “هذه منظمة أُنشئت للمواجهة، تحمل طابعًا هجوميًّا لا دفاعيًّا، وهي الآن بصدد تمرير قرار مفصلي: زيادة الإنفاق إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي لدولها. ولتمرير هذا القرار، لا بد من خلق (وحش جهنمي)، ولا مرشح أفضل من روسيا لهذا الدور في عقل بيروقراطية الناتو”.
إذن، هذه القراءة الروسية لا تعد -من وجهة نظري- تصريحًا دعائيًّا بقدر ما تمثل تشخيصًا دقيقًا لمنطق التحشيد الداخلي في الغرب، الذي يعتمد -كما يرى الكرملين من مضمون التصريح أعلاه- على إستراتيجية سيكولوجية نفسية مركبة تشمل: التهويل المنظم، والتبرير المالي، والتطبيع الجماهيري مع فكرة الحرب.
وعليَّ أن أقول من واقع متابعتي لبعض ردود الفعل في الدول الغربية نفسها على هذه الخطوة، إن الروس ليسوا وحدهم في هذا التشخيص، فحتى داخل ألمانيا نفسها، التي تعد أحد أعمدة الناتو الأوروبية، لا سيما من حيث الإنفاق، تتعالى أصوات التشكيك في جدوى هذا الإنفاق، وهي ليست وحدها في ذلك، بل إسبانيا وإيطاليا كذلك.
ومما قرأته عن موقف المعارضين الألمان لهذه الخطوة أن سبب التشكيك يعود إلى كون الإنفاق الدفاعي المقترح بـ5% يعادل أكثر من ثلث الميزانية الفيدرالية، هذا أولًا. وثانيًا: شركات السلاح الأمريكية أساسًا هي التي ستسفيد منه، وليس الإقتصاد الوطني الألماني، فليس هناك أساس مفاهيمي أو إستراتيجي واضح يقدم تحليلًا شاملًا مقنعًا للتهديدات التي تدفع إلى اتخاذ هذا القرار، وليس هناك مثلًا خريطة لتوطين الصناعات الدفاعية داخل أوروبا.
ومن هنا يمكن القول إن الرؤية الروسية المعلنة تعطي وزنًا كبيرًا لهذا السجال الأوروبي الداخلي، وتراه مؤشرًا على تحول الناتو من تحالف دفاعي إلى كيان اقتصادي- عسكري موجه نحو إعادة توزيع الموارد، لا الدفاع فقط.
ومن الملاحظ كذلك من اجتماعات القمة ومخرجاتها، أن أوكرانيا، التي شكلت لسنوات محور الاندفاعة الغربية نحو الشرق، لم تعد تحظى بالمركزية نفسها، على الرغم من حضور زيلينسكي القمة، ولقائه مع ترامب وبعض القادة الآخرين.
فالمعلومات التي اطلعت عليها تشير تقليص حاد في تناول الأزمة الأوكرانية ضمن أعمال القمة، بل حُذفت العبارات الهجومية ضد روسيا من الصيغة النهائية للبيان الختامي.
وكل ذلك تم -حسبما فهمت- بهدف تهيئة الأجواء لتوافق ممكن مع الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، الذي ما زال لا يخفي رغبته في إنهاء الحرب الأوكرانية، أو على الأقل خفض التكاليف الأمريكية فيها، وهذا في رأيي هدفه الأكبر.
وهنا ترى موسكو أن دعم أوكرانيا لم يعد يحمل هدفًا إستراتيجيًّا مركزيًّا؛ بل أصبح أداة وظيفية داخل بنية أكبر تهدف إلى إطالة، أو -لأكون أكثر دقة- إدامة حالة التوتر في الفضاء الروسي- الأوروبي؛ لذلك فالدعم لأوكرانيا قائم ومستمر، لكن الأولوية انتقلت إلى “عسكرة أوروبية ذاتية”، وليس من أجل تحقيق انتصار أوكراني.
وأهم يمكن الإشارة إليه لتبرير هذا الاستنتاج الذي قدمته في الفقرة السابقة، هو التحول النوعي في خطاب الأمين العام للحلف، ماركو روته، الذي أعلن أن الحلف يخوض “حربًا إنتاجية مع روسيا”، وهي عبارة لم تمر مرور الكرام دون تعليق في الأوساط الروسية. فمن منظور موسكو، يعكس هذا المفهوم المتضمن في تصريح روته الانتقال من الردع التقليدي إلى الحرب الاقتصادية- الصناعية الشاملة، وهو ما يعني أن المعركة لم تعد تدار في ميادين القتال فقط؛ بل في ميزانيات الدفاع، وسلاسل التوريد والطاقة، والأهم في القدرة المستدامة على تمويل صناعات السلاح.
ومن الجدير بالملاحظة أن خطة الـ5% من الناتج الإجمالي تشمل التوزيعة التالية، حسبما أُعلن: 3.5% للأسلحة والجيوش النظامية، و1.5% للبنية التحيتية والصناعات الدفاعية ومجال الأمن السيبراني.
وهذه الهيكلة للنفقات -من وجهة نظر موسكو بحسب التعليقات التي قرأتها- لا تعكس تحوطًا من خطر وشيك؛ بل تمثل استثمارًا طويل الأمد في عسكرة أوروبا، بناء على فرضية أن روسيا ستظل الخطر البنيوي إلى ما بعد عام 2030.
وبعد كل ما ذكرته في هذا التحليل، ومن موقع المراقب، لا بد أن أطرح سؤالًا مهمًّا: هل نحن أمام عقيدة مواجهة حتمية؟ وما الموقف الروسي فعليًّا من احتمال الحرب المباشرة مع الناتو؟
وسأحتكم في جوابي إلى التصريحات الرسمية، فمن واقع هذه التصريحات التي أتابعها من كثب يوميًّا، من الواضح تمامًا أن روسيا لا تستهين بجدية الخطاب الأطلسي الجديد، لكنها لا تتعامل مع هذا التصعيد بوصفه مقدمة حتمية لمواجهة عسكرية قريبة.
موسكو تنظر إلى هذا التصعيد على أنه نوع من التحشيد الاحتياطي، المصمم لضبط التوازنات داخل الناتو نفسه، خاصةً في ظل الخلافات بين واشنطن وبرلين، أو تباين موقف إسبانيا والدول الاسكندنافية مثلًا، فضلًا عن الانقسام بشأن أولويات التمويل المحلي.
الكرملين لا يتعامل مع الحرب بوصفها خيارًا مطروحًا من جانب الناتو في المدى القصير، لكنه يرى أن تثبيت روسيا في موضع أو وضع العدو ضرورة مؤسِسة لعقيدة الناتو الجديدة. ومن هذا المنطلق، لا تتوقع موسكو -في رأيي- مواجهة عسكرية مباشرة في المستقبل القريب، لكنها تستعد جيدًا لاحتمال تآكل شروط الأمن الأوروبي الجماعي تدريجيًّا بسبب عسكرة الحدود، وغياب آليات ضبط التصعيد.
وفي الختام، ومن منظور تحليلي، يمكن القول إن قمة لاهاي تمثل لحظة انتقالية في هوية الناتو: من تحالف كان مبنيًا على الحاجة إلى الأمن إلى مؤسسة قائمة على استدامة التهديد؛ فالهدف ليس الحرب؛ بل الاستثمار في احتمالية الحرب، والعدو في هذه الصيغة لم يعد خصمًا سياسيًّا أو عسكريًّا؛ بل كيانًا وظيفيًّا يعاد إنتاجه دائمًا؛ لضمان استمرار المنظومة.
وبناء على هذا المنطق، ستظل روسيا -حتى دون أن تتخذ أي خطوات عدائية- الوحش المرسوم على جدار الإنفاق الأوروبي ما لم يظهر تهديد أكبر، أو تتغير المعادلة الأمريكية نفسها.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.