يتناول هذا البحث عصر التنظيمات العثمانية، وأسباب سقوط الإمبراطورية، وظروف قيام الجمهورية التركية الحديثة على يد مصطفى كمال، الملقب بأتاتورك، أي “أبو الأتراك”.
لعل البعض ممن اطلعوا على المقال السابق، تحت عنوان: (بين التاريخ والسياسة.. حكم العثمانيين للعرب فتح أم احتلال؟)، وتعرفوا من خلاله على النظام العثماني العام الشديد الإحكام، قد تساءلوا: لماذا سقطت هذه الإمبراطورية رغم ما تمتعت به من قوة؟ وكما أسلفنا في ذلك المقال، فالدولة العثمانية مرت بمراحل متعددة، ولكل مرحلة ظروفها، ومهنية البحث بالشؤون التاريخية تحتم ذكرها، وعدم اختصارها أو اختزالها في عصر القوة والازدهار، أو عصر الأفول والانحطاط، وقد وصلت هذه الإمبراطورية إلى قمة مجدها وعصرها الذهبي زمن السلطان العثماني العاشر سليمان الأول “القانوني”، الذي ظل يحكمها طيلة 46 سنة متواصلة، لكن هذه المدة الطويلة في الحكم، وما أصاب السلطان من وهن فيها وضعف، أدت إلى ارتيابه في كل من يحيطون به، بدءًا من رفيق دربه الصدر الأعظم الداماد إبراهيم باشا البارغلي ليصل إلى أبنائه، حيث بدأ مسلسل الدم بقتل الوزير الأعظم، ثم قتل ابنه البكر الأمير مصطفى وأولاده، وكذلك الأمير بايزيد وجميع أبنائه، ليصعد إلى عرش السلطنة الأمير سليم الثاني الملقب “بالسكير”.
كان سليم “السكير” ضعيف الشخصية، غارقًا في شرب الخمر، وترك شؤون الدولة في يد وزرائه، وتحديدًا الصدر الأعظم الداماد سوكولو محمد باشا، أو “باجيكا نيناديك” الصربي الأرثوذكسي الأصل الذي جاء إلى إسطنبول وفق نظام الدِّڤشيرمة، وتزوج السلطانة أسمهان ابنة السلطان سليم، والسلطانة نوربانو أو “راشيل بافو” قبل إسلامها، وهي إيطالية يعتقد كثير من المؤرخين الأتراك أنها من أصول يهودية.
كانت البحرية العثمانية بفضل مجهودات خضر خير الدين “بربروس” اليوناني- الألباني الأصل، أقوى سلاح بحرية في العالم كله، ثم بدأت بالتراجع من بعده حتى تعرضت لهزيمة ثقيلة في معركة لبيانتو البحرية على يد “العصبة المقدسة” الأوروبية الكاثوليكية بقيادة إسبانيا عام 1571م، وكان من نتائج هذه المعركة فقدان العثمانيين هيمنتهم على البحار، ليصبح الأسطول البحري الإسباني “الأرمادا” سيد البحار في العالم حتى هزيمته النهائية على يد الأساطيل الإنجليزية في نهاية الحرب الآنجلو إسبانية (1585- 1604).
بعدما فقد العثمانيون سيادتهم البحرية، وتحولت إلى صالح الإسبان، والإنجليز، والبرتغاليين، ظل الجيش العثماني البري الأقوى عالميًّا حتى حصار فيينا الثالث عام 1683م، وفشل العثمانيين في اقتحامها، وهزيمتهم على يد التحالف الكاثوليكي؛ ومن ثم فقد العثمانيون سيادتهم العسكرية البرية، ولم تعد جيوشهم ترهب أوروبا كما كانت من ذي قبل، ومقابل التقدم العسكري التقني الكبير الذي عم الجيوش الأوروبية، ظلت الجيوش العثمانية على عقيدتها القتالية القديمة المتخلفة قياسًا بالتطور الذي حدث آنذاك.
أصبحت الإمبراطورية العثمانية المهيبة في حالة ضعف وجمود، وتحولت إلى نمر من ورق، ووقعت تحت هيمنة قناصل البلدان الأوروبية الغربية وسيطرتهم، وأصبح أمر إسقاطها يتوقف على قرار من هذه الدول، لكن ما عطل هذا القرار تلك التحولات الكبرى التي حدثت في روسيا، وحولتها من قيصرية مسيطرة على الأراضي السلافية الشرقية (الاتحاد الروسي، وشرق أوكرانيا، وبيلاروس) حاليًا إلى الإمبراطورية الروسية عام 1721م، وتمددها لتصبح أكثر قربًا من أوروبا، مع ما رافق هذا التوسع من عملية تحديث شاملة قام بها الإمبراطور بيوتر الأول “بطرس الأكبر” في وقت كانت فيه القوى الأوروبية الغربية منشغلة في توسعاتها بالعالم الجديد “الأمريكيتين”، ولا تريد تبديد جهودها وطاقتها في مواجهة القوى الروسية الصاعدة؛ ولذلك وجدوا من المناسب الإبقاء على الدولة العثمانية لتؤدي دورًا وظيفيًّا لصالح الغرب ضد روسيا، وتشكل عازلًا بينهم وبينها، لا سيما أن العثمانيين دُجِّنوا ولم يعودوا يشكلون خطرًا على أوروبا، وأصبح اقتصادهم تحت هيمنة هذه الدول وسيطرتها من خلال الديون والامتيازات التجارية؛ لذلك أصبح بقاء هذه الإمبراطورية، التي لُقبت فيما بعد بـ”المريضة”، أمرًا ضروريًّا لخدمة المصالح الغربية، وهو ما أخر سقوطها الرسمي حتى عام 1923م، في حين أنها سقطت فعليا منذ عام 1683.
من المهم لفهم طبيعة العلاقات التركية- الروسية حاليًا الاطلاع على هذه الحقبة التاريخية، ودورها المستمر حتى الآن، وكيف أسهمت فيما بعد في انضمام تركيا إلى حلف الناتو عام 1952، بدعم غربي لمواجهة روسيا السوفيتية، حيث ظلت القوى الغربية تنظر إلى تركيا منذ تلك الحقبة على أنها دولة وظيفية يمكن أن تؤدي بحكم موقعها الجغرافي المهم عدة أدوار في خدمة المصالح الغربية، وخلق عازل مع روسيا كلما تمددت وتصاعدت قوتها. كذلك، تعتقد القوى الغربية أن تركيا القوية يتحول تلقائيًّا فائض قوتها تجاه أوروبا الغربية، وتكون على وفاق أو هدنة مع روسيا، وكلما كانت ضعيفة تعوض ضعفها بأداء هذا الدور الوظيفي لصالح الغرب ضد روسيا، وقد أدركت السياسة الروسية هذا الأمر جيدًا؛ ولذلك تسعى إلى تقوية تركيا، وعقد تحالف معها، أو على أقل تقدير تحييدها عن أداء هذا الدور السلبي تجاهها لصالح الغرب، وهو ما يفسر الدعم الكبير الذي قدمته روسيا لتركيا، وسعي موسكو الدائم إلى عدم انجراف العلاقات معها باتجاه الصراع، وهو ما ساعد على حالة التنمر التركية تجاه أوروبا.
كثيرون هم من تحدثوا عن عوامل سقوط الدولة العثمانية، ونظرًا إلى ما يعانيه المسلمون من هزيمة حضارية انسحبت على قراءتهم لتاريخهم ورؤيتهم له؛ ظهرت رؤيتان لا ثالث لهما تقريبًا عن أسباب سقوط هذه الإمبراطورية؛ الرؤية الأولى تتحدث عن مؤامرة غربية، ودور الصهيونية العالمية في إسقاط الإمبراطورية أو الخلافة كما يسميها البعض، ويتبنى هذا الرأي تيار الإسلام السياسي، وحزب العدالة والتنمية الحاكم، وصولًا إلى الرئيس رجب طيب أردوغان، وقد صرح هو وقادة حزبه بذلك في مرات عدة، وتجلت تأثيرات تلك النظرة على صناع الدراما التركية التاريخية، وظهرت بوضوح في مسلسل “السلطان عبد الحميد“، الذي يروي سيرة السلطان عبد الحميد الثاني. أما الرؤية الثانية فترى أن سقوط هذه الإمبراطورية كان إنقاذًا لتركيا من الفناء، وعملًا عظيمًا كان لا بد منه، ويتبنى هذا الرأي التيار العَقدي العلماني بالأساس.
إذا أردنا تحليل أسباب هذا السقوط بعيدًا عن التوظيف السياسي والأيديولوجي، فلا يمكنا اختصاره في سبب واحد؛ إنما كان ذلك نتاج عدة عوامل، منها ما هو رئيس، وما هو ثانوي، وسنركز على العوامل الرئيسة.
سقوط الدولة العثمانية كان نتيجة طبيعية ومنطقية لسقوط العقل المسلم الذي لم يكن العثمانيون استثناء منه، وإن كان من لوم يوجه إليهم فهو لعدم قدرتهم بحكم قيادتهم للعالم الإسلامي على القيام بالتطوير والتحديث اللازم، ومواكبة روح العصر والتقدم العلمي المذهل الذي حدث فيه، فلو تأملنا خريطة الدولة العثمانية سنجد أن تصنيفها يقع تحت اسم “الإمبراطورية القابعة”، وهي تلك الإمبراطورية الكبيرة بمساحتها، ولكنها محصورة في نطاق حدودها الإقليمية البرية، وهذه الإمبراطوريات تتسم بالبطء الشديد في التحديث، والميل نحو المحافظة والتقليد، وذلك لوجود شعوب متجانسة نوعًا ما تقع تحت حكمها، وعبر أدوات القوة والأعراف الاجتماعية يمكن أن تقودها، في حين أن الإمبراطوريات التوسعية البحرية، التي تعتمد في توسعها على الخروج من نطاقها الإقليمي نحو العالمي، وتشمل أراضي بعيدة عن مركز الإمبراطورية، مثل الإمبراطورية البريطانية، أو الفرنسية، والأمريكية حاليًا، تتسم بمرونة أكبر، وقدرة على مسايرة العصر وتوقع المتغيرات الجديدة واستباقها، واستخدام أدوات حديثة لتتمكن من حكم هذه الأراضي المترامية الأطراف.
عندما نتأمل مرحلة العصر الذهبي العثماني في القرن السادس عشر الميلادي، سنجد إمبراطورية تتوسع في نطاقها الجغرافي، وتعتمد على الوسائل التقليدية في إدارتها لشؤون الدولة ورعاياها، وتطور منها دائمًا حتى توقفت هذه الحركة بعد السلطان سليمان القانوني، في حين كان العالم الغربي المسيحي يخطو بخطى حثيثة نحو التقدم بسرعة كبيرة، لم يقابلها العثمانيون والمسلمون عامة بالوتيرة نفسها، فعندما سقطت القسطنطينية “إسطنبول” في يد العثمانيين عام 1453، شكل هذا السقوط صدمة ودويًّا واسعًا في كل أوروبا، حيث سقطت الإمبراطورية الرومانية الشرقية؛ الإمبراطورية الرومانية الأخيرة التي امتلكت إرث (1480) سنة من الحكم الإمبراطوري الروماني الذي بدأ عام 27 ق.م، وروما الثانية؛ معقل الأرثوذكسية العالمية، والجناح الأيمن للمسيحية في العالم كله، التي صمدت أمام غزوات الجميع، سقطت أخيرًا على يد الترك المسلمين. لكن الفارق بين العقل المسلم والغربي في ذلك الوقت، هو قدرة الأخير على التعلم من أخطائه، ودراسة تاريخه دراسة نقدية، بعيدًا عن ثلاثية الكوارث (العواطف، والغرائز، والأحقاد) التي اتسم بها العقل المسلم في فترات الانحطاط، وما زالت ملازمة له حتى الآن، أو الشعور باليأس نتيجة الهزيمة والاستسلام لها. تمكن العقل الغربي من تحويل هذا السقوط إلى عامل قوة ودفع نحو التقدم، واعتبار يوم سقوط القسطنطينية هو نهاية لحقبة العصور الوسطى، وبداية لعصر النهضة، والنهضة لها مراحل متعددة لا تختصر في عهد واحد، فبدأت أوروبا في إعادة النظر إلى خريطتها، وتمكنت، عام 1492، من الاستيلاء على غرناطة، آخر معاقل المسلمين في شبه الجزيرة الإيبيرية، وطردهم بالكامل من أوروبا الغربية، وذلك بعد مرور 39 سنة فقط من سقوط القسطنطينية.
رافق “تحرير” غرناطة، وفي العام نفسه، البحث عن طرق جديدة للوصول إلى العالم، بعيدًا عن سيطرة المسلمين، وبدأت رحلة البحارة الإيطالي كريستوفر كولومبوس، ليكتشف فيما بعد البحارة الإيطالي أمريكو فسبوتشي الأمريكيتين، ويوسع الغرب المسيحي أملاكه، ويضيف إليها مع الوقت نحو (42.549.000) كم² في هذا العالم الجديد، ويمتلك ثروات مهولة من الذهب والفضة والمعادن الثمينة، ويبدأ عصر الاستيطان والزراعة بهذه الأراضي البكر؛ مما مكنه من خلق نمو اقتصادي مذهل لم يسبق له مثيل، في حين كان العثمانيون والمسلمون يتصارعون على العالم القديم، ولا يدركون ما يحدث من تحولات كبرى، واكتشاف عالم آخر جديد.
شرقًا، دبت روح جديدة في روسيا القيصرية أخرجتها من عزلتها وحالة الجمود التي عاشت فيها، وصنعت لنفسها نهضة علمية، وفكرية، وعسكرية، توجها بطرس الأكبر في توسعاته، وامتلاك روسيا لأول مرة في تاريخها مواني عميقة على السواحل الدافئة غير المتجمدة، في حين كانت قبل ذلك محصورة في يابستها وبحارها المتجمدة لمدة ستة أشهر على الأقل في السنة، وهو ما أعاق حركة التجارة منها وإليها، وجعلها رهينة لعدة قوى خارجية كان العثمانيون من بينهم.
رافق التطور الاقتصادي تطور تقني وعلمي، وحركة نقد للذات دون القطيعة مع الماضي، وإعادة قراءة تاريخ أوروبا قراءة هادئة لمعرفة أسباب تخلفها الذي أدى بدوره إلى بروز حركة الإصلاح الديني، تلك الحركة التي بدأها مبكرًا المصلح التشيكي يان هوس عام 1415، وكانت الإرهاصة الأولى لمحاولات متكررة تكللت بالنجاح على يد الراهب الألماني مارتن لوثر، وترجمته الكتاب المقدس المسيحي من اللغة اللاتينية النخبوية إلى اللغة الألمانية الشعبية عام 1522. وانفجار الطاقات الفكرية الأوروبية، وقيام النزاعات والصراعات الدموية التي أدت في النهاية إلى خلق نظم ديمقراطية، كان نتاج هذا الصراع الفكري الذي تحول إلى صراع مسلح أيقن بعده الجميع ألا مجال لحسمه بسوى التوافق، وصولًا إلى الثورة الفرنسية، وربيع أوروبا، وتحول الملكيات إلى نظم دستورية.
ساعدت حالة التوافق داخل أوروبا بعد صلح “وستفاليا” عام 1648 على نمو الحركة العلمية، والفنية، والتطور الاقتصادي والاجتماعي، وصولًا إلى الثورة الصناعية، وقوة البخار، وظهور السفن التجارية العملاقة، وتحول فائض القوة الأوروبية الذي كان يوجه إلى صراعات داخلية نحو الخارج، ونشوء الظاهرة الاستعمارية، وتوسع الغرب في قارات العالم كله، في حين كان العالم الإسلامي بقيادة العثمانيين في حالة ثبات عميق، وجمود أدى إلى تحول فائض القوة لديه إلى صراعات داخلية.
كانت كل هذه الأسباب كفيلة بسقوط هذه الإمبراطورية، وبقاؤها كان مرهونًا بحاجة القوى الغربية إليها لمواجهة روسيا، وفور انتفاء هذه الحاجة بعد تفاهم الغرب مع روسيا، تأسس تحالف سمي بالوفاق الثلاثي، ضم روسيا، وفرنسا، وبريطانيا بدءًا من عام 1894.
صُمم النظام العثماني ليتناسب مع دولة توسعية، تعتمد مواردها الاقتصادية في المقام الأول على الغزو والفتوحات، ولم تراعِ أن التوسع له حد معين سيفرض عليها التوقف، فلم تتمكن من إدارة هذا الانتقال، ولم تستغل الموارد المالية الضخمة التي حصلت عليها من هذه الفتوحات لصنع نهضة حقيقية، وبدلًا من ذلك، توسع السلاطين في الإنفاق ببذخ شديد على عمارة المساجد والتكايا، والقصور والسرايات، وإنشاء السبل، واقتناء النفائس الثمينة ليتباهوا بها، في حين تُرك الإنسان المسلم مهملًا دون أي استثمار، وهذه العادة ما زالت ملازمة لنا حتى الآن بالمنطقة، حيث ترى بعض الأنظمة العربية أن الاستثمار في الحجر أجدى وأنفع من البشر.
حركة الفتوحات المستمرة أسهمت في تجديد جهاز الدولة البيروقراطي دائمًا، وتطعيمه بالكفاءات عبر نظام الدِّڤشيرمة. ومع توقف هذه الحركة عانت البيروقراطية العثمانية الركود، وشيخوخة القائمين عليها، وعدم تمكنهم بحكم السن من مسايرة العصر، أو إدراك الجديد وتحديث الدولة، وتحولهم إلى طائفة لها تأثيرها السلبي على صنع القرار بالدولة، ومعوق أمام تطورها، مع تفشي الفساد والرشوة داخل أوساطها.
الجيش العثماني الذي أُسس على العبيد، ولم يكن مسموحًا لجنوده بالزواج، ولا يتلقى جنوده رواتب شهرية، ورغباتهم الجنسية ومواردهم المالية يحصلون عليها من الغزو الدائم، بعدما كانوا عامل قوة للدولة، تحولوا إلى عبء عليها، وعامل تمرد مستمر، مطالبين بشن الحروب، وخلفهم قوى مجتمعية تدفع إلى ذلك؛ لتراكم ديونها لدى التجار. ودون مراعاة للسياسة الخارجية والوقت المناسب للحرب، وليأمن السلاطين من شرهم، تورطت الدولة في حروب عدة لم تكن في صالحها، وشكلت خرقًا لمعاهدات واتفاقيات سابقة وقعتها، وفي أثناء الحروب، وقبل تحقيق النصر العسكري المطلوب لنيل أفضل الشروط السياسية، كان الجيش يتمرد، ويطالب بالاكتفاء بما حصل عليه من غنائم، مطالبًا بالعودة إلى العاصمة، وعندما أدرك السلاطين هذا الخلل الذي دب بالجيش، وضرورة تغيير عقيدته ونظامه العسكري كان الوقت قد فات؛ ولذلك فشلت محاولة السلطان عثمان الثاني “الشهيد” في القضاء على الإنكشارية، وتمرد الجيش عليه وقتله عام 1622، بعدما أهانوه وعذبوه في شوارع إسطنبول ليكون عبرة لأي سلطان يحاول القيام بأي تغيير بالنظام العسكري مثله، وقد ظل السلاطين في حالة رعب من الجيش، خاصةً مع تحول قواه إلى الداخل بعد غياب عدو الخارج، بل أصبح أمر تعيين السلاطين وعزلهم بيده، ولم يتمكن من تغيير هذا الوضع سوى السلطان محمود الثاني عام 1826؛ أي بعد 204 سنوات من المحاولة الأولى بعدما اتسعت الفجوة بين الدولة العثمانية والغرب على نحو كبير جدًّا يصعب تداركه.
شرعية الحكم التي اعتمدت على البقاء للأقوى، أو ما يمكن تسميته “الداروينية الاجتماعية”، لم تعد موجودة مع توقف الحروب، وبدء حقبة ما تسمى “السلاطين التنابلة” الغارقين في السكر والحرملك مع الجواري، ولا يخرجون بأنفسهم على رأس الحملات العسكرية، وكان السلطان سليمان القانوني أول من أقر في الثلث الأخير من حياته قانونًا يقضي بعدم ضرورة خروج السلطان مع الحملات العسكرية.
عادة قتل السلطان إخوته ليضمن استقرار منظومة الحكم، وعدم تعرضها للاهتزاز نتيجة صراع الإخوة، لم تعد مقبولة، خاصةً بعد فاجعة قتل السلطان محمد الثالث، يوم 15 يناير (كانون الثاني) 1595، لكل إخوته الذكور، وعددهم 19، في يوم توليه عرش السلطنة، فعدّل السلطان أحمد الأول القانون عام 1603، ليُوضَع الأمراء في “القفص” بدلًا من القتل، والقفص هو قصر معزول لا يخرج منه الأمير، ولا يدخل عليه أحد، ولا حتى والدته، إلا في ظروف استثنائية يقررها السلطان بنفسه، وهؤلاء الأمراء لا يعلمون أي شيء عن العالم الخارجي، وحياتهم كلها مختصرة في الأكل والشرب، والنوم ومضاجعة الجواري، والسمر مع العبيد المخصيين، ولنا أن نتخيل شخصيات تعيش في هذا الجو، وتشعر دائمًا بأن حياتها مهددة، وفجأة، وبدون سبق إنذار، يجد الحرس بين يديه راكعين ليقولوا له: لقد أصبحت السلطان الجديد، ليخرج من سجنه ويدير إمبراطورية بهذا الحجم دون أي خبرة، مع اضطرابه النفسي والعقلي.
تحولت القصور العثمانية إلى سرايا للمضطربين نفسيًّا وعقليًّا بلا أدنى مبالغة، فالخدم من العبيد المخصيين فقدوا أهلهم ورجولتهم، ووُضِعوا داخل قصور يخدمون فيها، وغير مسموح لهم بالخروج منها، والجواري خُطفن من بلدانهن، وأُجبرن على لغة وثقافة جديدة، وبعضهن دخلن الإسلام طمعًا في السلطة، وغير مسموح لهن بالخروج من القصر، أو معرفة أي رجل سوى السلطان أو الأمراء، والأمراء معزولون، قيد الإقامة الجبرية، ينتظرون الموت في أي لحظة، ومصابون بالوسواس القهري. أصبح السلطان يخشى من الجميع: الجواري، والعبيد، والصدر الأعظم، والجيش، وإخوته المحبوسين. أما السلطانات، فقد أصبح لديهن نهم غير طبيعي لتعويض ما فاتهن بالسلطة. لنا أن نتخيل الحياة في هذه القصور كيف كانت تجسيدًا للجحيم بكل ما تعنيه الكلمة، ويتمتع ساكنوها بفقدانهم لأي رحمة أو شفقة؛ بسبب ما تعرضوا له من إذلال ومآسٍ في حياتهم، ومن يقرأ قصص ما كان يحدث في القصور العثمانية لا يسعه سوى أن يصاب بالاكتئاب.
بدأت ما تسمى “سلطنة الحريم”، أي تدخل النساء في شؤون الحكم، وتشكيل أحزاب داخل القصر، والتحكم في السلاطين والوزراء منذ عهد السلطان سليمان القانوني، وعبر ما منحه من صلاحيات واسعة لزوجته الأوكرانية الأصل خرم سلطانة “روكسيلانا”، وأصبحت سُنة من بعدها، وتحولت بعض السلطانات إلى حاكمات الدولة الفعليات، وأبرزهن السلطانة صفية “صوفيا بيلوجى بافو”، الإيطالية الكاثوليكية الأصل، والسلطانة كوسم “أناستاسيا”، اليونانية الأرثوذكسية الأصل، التي حكمت السلطنة 40 سنة، وكثيرات منهن كن يقدمن خدمات ومجاملات لبلدانهن الأصلية التي قدمن منها، ولبعض ملوك أوروبا على حساب الدولة، واتسمن بالقسوة الشديدة وعدم الرحمة، وأغلبهن كن مريضات وغير سويات نفسيًّا نتيجة الظروف التي تعرضن لها من اختطاف وأسر.
التنظيمات السرية كانت سمة رئيسة في الدولة العثمانية، وقد تعددت هذه التنظيمات داخل الجهاز الإداري، والقصور، والجيش، والحركات الصوفية، وعدد من الحركات الدينية الشيعية، وحركات مسيحية وقومية، وقد شكلت هذه التنظيمات لنفسها فرق اغتيال، وما يمكن تسميتهم عملاء نفوذ داخل ديوان الحكم العثماني، وهو ما كان له أثره البالغ في إضعاف الدولة وتفكيكها.
أخيرًا، لا يمكن إنكار دور المخططات الخارجية والداخلية، أو ما تسمى شعبيًّا بـ”المؤامرات”، وتحالف قوى داخلية مع أخرى خارجية في بعض الأحيان، لكن الدولة كانت متعفنة من جذورها، ومنهارة فعليًّا قبل سقوطها الرسمي بأكثر من قرنين من الزمان، ولم يحافظ على بقائها سوى حاجة الغرب إليها لتتصدى لروسيا كما سلف، وتجربة الثنائي محمد علي وإبراهيم باشا في مصر لاحقًا؛ لذا تم التخلص سريعًا منها بعدما انتهى دورها الوظيفي.
أيضًا نُشير إلى أن العصر تغير في مطلع القرن الماضي، ولم يعد مقبولًا فيه وجود إمبراطوريات أوتوقراطية، خاصةً تلك التي لم تطور نفسها. سقطت في الحرب العالمية الأولى آخر أربع إمبراطوريات من هذا النمط (الإمبراطورية العثمانية، والإمبراطورية النمساوية المجرية، والإمبراطورية الألمانية، والإمبراطورية الروسية).
المقصود بالتنظيمات العثمانية هو تلك الإصلاحات الإدارية، والعسكرية، والسياسية، والقانونية، والاقتصادية، وتعزيز اللا مركزية بحكم الولايات لنفسها عبر مجالس منتخبة، وقوانين شؤون الأقليات الدينية والعرقية، والجنسية، وتأسيس مجلس “برلمان” أعلى في العاصمة إسطنبول، تُمثل فيه كل الولايات، والقوميات، والطوائف الدينية.
تمت هذه العملية على عدة مراحل، بدءًا من عام 1839، ويمكن اختصارها بعبارة “الأحكام الدستورية العثمانية”. ونظرًا إلى تشعب هذه القوانين وتفاصيلها الكثيرة؛ يمكن العودة إلى دراسة شاملة عنها، أعدها المؤرخ العربي اللبناني وجيه كوثراني.
تميزت هذه الحزمة من القوانين، التي سُميت بالمشروطية الأولى عام 1876، والمشروطية الثانية “الدستور” عام 1908، بمراعاتها لعلاج جميع الإشكالات التي عانتها الإمبراطورية عبر تاريخها، وفي فترة تقلصت فيها مساحة الإمبراطورية لتصبح في نطاق تركيا الحالية وجوارها الأوروبي في البلقان، وبلدان المشرق العربية والحجاز، واستخدام السلاطين العثمانيين، بدءً من عصر السلطان عبد الحميد الثاني عام 1876 لقب “خليفة المسلمين”؛ ليقوي الرابطة الجامعة بين تركيا والعالم الإسلامي. ومع أن هذه الإصلاحات كانت ضرورية، وتمثل مطالب شعوب الإمبراطورية والنخب المثقفة، فإنها فشلت في النهوض بالدولة العثمانية والمحافظة عليها، بل كانت أحد أهم أسباب التعجيل بسقوطها.
أول إشكالات هذه التنظيمات أنها جاءت في وقت متأخر جدًّا، وبعدما أصبح الفارق الحضاري بين الدولة العثمانية والغرب كبيرًا جدًّا، كما أن النخبة التركية كانت تعاني نفس أمراض النخب العربية حاليًا، فلم تمتلك قدرة على التفكير والتحليل السليم لأسباب انحطاط الدولة والمسلمين، ولم تتمكن من فهم أسباب نهضة الغرب المسيحي، وتخيلت أن التقدم والتخلف قائمان على مجموعة جاهزة من النظريات إذا طُبِّقت سيتبدل الوضع فورًا من حال إلى حال، وأن الديمقراطية والدستور هما سبيل نهضة الأمم المتأخرة، ولم يدركوا أن الغرب عندما تطور أصبح ديمقراطيًّا تلقائيًّا، وسادت العدالة على قانون الغاب، كما لم يراعوا الفوارق الكبرى بين المجتمع الشرقي المسلم وخصائصه والمجتمع الغربي المسيحي، وسعوا باندفاع، وبلا أي تدرج أو مخطط، إلى إنجاز ما حققه الغرب في قرون في سنوات معدودات.
أدت هذه العملية الانتقالية التي تحولت إلى انتقامية من إرث الماضي، والنظرة الحدية والتسرع في التحديث السياسي بأكثر مما يمكن للدولة أو لمواطنيها استيعابه، وإهمال التقدم العلمي والتقني والاقتصادي، واختزال أسباب التقدم حصرًا في الشق السياسي والمظهري الاجتماعي، إلى فشل عملية التحول، وعدم القدرة على السيطرة عليها وضبطها، وتحولها إلى عملية غوغائية كارثية كتلك التي حدثت في مصر في المنتصف الثاني من السبعينيات، أو عملية تحديث المجتمع المتسرعة جدًّا في الستينيات، أو التحول السوفيتي المعروف بـ”البيريسترويكا” في الثمانينيات، وكان من آثار هذه السياسة أن فقد المجتمع توازنه وقدرته على استيعابها، وخلق شقاقًا وصراعًا حادًّا بين المطالبين بالحداثة والاندماج المطلق مع الغرب على نحو راديكالي، ورد الفعل المضاد عليه عبر التشدد أكثر بالتمسك بالتقاليد القديمة، وروح المحافظة.
انتقل الاستقطاب الحاد من العاصمة إسطنبول إلى باقي الولايات العثمانية، وصعدت معه المطالب القومية، ومطالبة سكان البلقان واليونان وأرمينيا بحقوقهم القومية، تلا ذلك مطالبة الأتراك أنفسهم بدولة قومية تركية، لا علاقة لها بالإسلام، أو بباقي الأعراق الأخرى.
كان الرأي السائد في ذلك الوقت عربيًّا الحفاظ على الخلافة وصيانتها، وتحولها إلى اتحاد ديمقراطي عصري، وصنع تاج جديد للإمبراطورية العثمانية يجمع بين تاجي المُلك التاريخيين للعرب والترك، وقد أيدت غالبية النخب العربية هذه الرؤية، لكن هذه النخب اكتشفت استحالة تحقيق هذا الهدف؛ بسبب رفض النخب التركية، ممثلة في حزب الاتحاد والترقي، وجمعية تركيا الفتاة، لأي اتحاد أو مساواة بين العرب والترك، واستئسادهم على العرب بعدما فقدوا جميع الأراضي التي سيطروا عليها في أوروبا، وطرحوا مقابل ذلك الوحدة الاندماجية المركزية، وسيادة إسطنبول على سائر الأقاليم العربية، واستخدموا القمع والقوة المفرطة لإجبار العرب على قبول الأمر الواقع، وصولًا إلى قيام الحاكم العام العثماني لسوريا وبلاد الشام، جمال باشا الملقب بـ”السفاح”، بإعدام نخبة المثقفين العرب على دفعتين، الأولى يوم 21 أغسطس (آب) 1915، في ساحة البرج في بيروت، والثانية يوم 6 مايو (أيار) 1916، في إحدى ساحات دمشق، التي سُميت فيما بعد “ساحة الشهداء”، بجانب إهانة مقام شريف مكة، الشريف حسين الهاشمي، ورفض برقياته ومناشداته وتوسلاته للعفو عن هؤلاء المثقفين، وإجبار العرب على تعلم اللغة التركية، وقد سميت هذه السياسة “التتريك” القسري.
العرب كانوا آخر قومية من ضمن القوميات التي حكمتها الإمبراطورية العثمانية مطالبة بحقوقهم القومية، ومن المستغرب أن ينسب حتى اليوم بعض العرب للعرب أنهم أحد أسباب سقوط الدولة العثمانية، وهذا أمر أقل ما يقال فيه إنه جهل مطلق بتاريخ تلك الحقبة، أو تدليس متعمد لخدمة أيديولوجيا بعينها، وبعدما عانى العرب الويلات، ووجدوا ألا أمل في خلق اتحاد حقيقي مع الأتراك، انفضوا عنهم، وسعوا إلى تأسيس رابطة قومية عربية. كان رواد القومية العربية في تلك الفترة بالأساس من المطالبين بالاتحاد مع تركيا، وأبرزهم ساطع الحصري، صاحب كتاب “العروبة أولًا”، الذي كان من أبرز المدافعين عن تركيا، والمنادي بضرورة الاتحاد معها، وعزيز باشا المصري، الذي تولى منصب رئيس أركان جيش الثورة العربية الكبرى التي أعلنها الشريف حسين في الحجاز، وأصبح لاحقًا الأب الروحي لتنظيم “الضباط الأحرار”، والشريف حسين نفسه وأولاده كانوا من المؤيدين لهذا الاتحاد، ولم يعلنوا الثورة إلا بعدما خاب أملهم في الأتراك الذين.
كثيرًا ما نسمع عربيًّا، وتحديدًا بعد صعود خطاب تيار الإسلام السياسي على الساحة، أوصافًا سلبية تجاه مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال، ووصفه بالخائن، والعميل، واليهودي الأصل، المدسوس على الإسلام لتخريبه من الداخل، ولو صح استخدام هذا الخطاب لخدمة أيديولوجيا سياسية، والترويج لمشروع الخلافة الإسلامية، لأمكنا أن نتفهم دوافعه من الناحية السياسية، لكن ما لا يمكن فهمه هو التعامل معه على أنه حقيقة، وما أكثر الأساطير التي أصبحت بحكم تكرارها نعتقد أنها الحقيقة. لا تنبع أزمة هذا الخطاب من كونه تزويرًا فجًّا للتاريخ فحسب؛ بل إلى ما هو أخطر منه، وهو تشويه ذاكرة الأمة، وخلق عقلية مشوشة لشعوبها، وعندما تشوه ذاكرة الأمم وتشوّش؛ تفقد قدرتها على تقييم تجاربها تقييمًا سليمًا، وتكرر أخطاءها؛ لأنها لم تدركها أصلًا أو تعرفها، وتصنع تصورات لواقعها، ورؤى لمستقبلها مبنية على خرافات تظنها حقائق؛ مما يزيد أزمتها وعزلتها الحضارية، وهو ما يعانيه المسلمون عامة، والعرب على وجه الخصوص، حتى اليوم.
بدأ مصطفى كمال حياته ضابطًا في الجيش العثماني، وكان مؤمنًا بالدولة العثمانية والباب العالي، ومواليًا للسلطان العثماني، وخاض كل حروب الدولة العثمانية في تلك المرحلة، وخدم في الجيش العثماني بسوريا، وفلسطين، وحارب في ليبيا، والبلقان، والحرب العالمية الأولى التي كان يدافع فيها عن السلطنة العثمانية بشراسة وشرف، ولم ينقلب على السلطان محمد السادس إلا بعدما استسلم الأخير لجيوش الحلفاء، وسلم لهم العاصمة إسطنبول، وأمر مصطفى كمال بتفكيك الجيوش العثمانية، وإعلان استسلامها، وهو ما رفضه واعتبره إذلالًا للأمة التركية وتاريخها، فما كان من السلطان إلا أن أعلنه عاصيًا، وشكّل مع الحلفاء الإنجليز جيشًا سماه “جيش الخليفة”، وأرسله لقتال مصطفى كمال والضباط الذين رفضوا الاستسلام معه عام 1920.
المصيبة الأكبر التي كانت ستنهي وجود تركيا من التاريخ معاهدة سيڨر، الموقعة في 10 أغسطس (آب) 1920، التي وافق عليها السلطان العثماني، وقسمت تركيا الحالية بين اليونان، وأرمينيا، وبريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا، ومنح للكرد دولة، وتركت لتركيا مساحة ضئيلة في آسيا منزوعة السلاح، ووضعت إسطنبول تحت حماية القوات (الأمريكية، والفرنسية، والبريطانية، والإيطالية).
خاض مصطفى كمال حروبه ضد كل هذه القوة مجتمعة، وتمكن من الانتصار عليها جميعًا، وأجبر الغرب على تغيير معاهدة سيڨر بمعاهدة جديدة سميت معاهدة لوزان، في 24 يوليو (تموز) 1923، بموجبها أصبحت تركيا بحدودها المعروفة بها الآن، في حين هرب السلطان محمد السادس قبل ذلك في 17 نوفمبر (تشرين الثاني) 1922، على ظهر بارجة بريطانية إلى إيطاليا.
وقفت أغلبية الشعب التركي في ذلك الوقت مع مصطفى كمال، ولقبوه بأتاتورك (أبو الأتراك)؛ بسبب ما قدمه من خدمات جليلة لتركيا. كان الرأي العام التركي شبه مجمع على خلع آل عثمان، والتخلص منهم، واعتبارهم خونة؛ ولذلك هرب السلطان، حيث لم يجد أحدًا يناصره من الشعب.
من الطبيعي أن يصبح أتاتورك -بعد العرض السابق- رمزًا قوميًّا تركيًّا، وشخصية لا يمكن لأي زعيم أو حزب سياسي تركي أن يتجاوزه، وحتى حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب أردوغان في كل مجالسه خلفه صورة أتاتورك، ولا يجرؤ على إزالتها، أو الطعن في شخصيته بعدما أصبح جزءًا لا يتجزأ من الجمهورية التركية وتاريخها. وبعد إلغاء السلطنة بسنة واحدة في عام 1924، ألغى أتاتورك منصب الخليفة الذي كان يشغله عبد المجيد الثاني، وقد برر ذلك بأن الخلافة فقدت دورها، وانقلب الشعب التركي وباقي الشعوب المسلمة عليها، ومع تفكك الإمبراطورية وقيام الجمهورية، أصبحت منصبًا بلا معنى.
قوانين التنظيمات العثمانية كانت الفرصة الأخيرة لخلق اتحاد يجمع شعوب المنطقة مع تركيا، وشخصيًّا، أعتقد أن اتحادًا كهذا كان وما زال مفيدًا لكلا الطرفين، لكن مشكلة هذه التنظيمات -كما أسلفنا- كانت في تأخرها كثيرًا، وعدم قدرة العقل التركي على تنظيم عملية التحول من نظام حكم أوتوقراطي مطلق إلى حكم حديث رشيد. كما لا يمكن أن ننفي دور الاستعمار الغربي في إيقافه تجربة التطور الطبيعي في العالم الإسلامي، وفرضه مسارًا بعينه للتطور تبنته نخب عربية وإسلامية، مع عدم إدراكها صعوبة نجاحه في ظل الاختلاف الكبير في السياق الحضاري والثقافي والديني؛ مما خلق وضعًا مشوهًا ما زال قائمًا حتى الآن في بلداننا.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.