أدب

قراءة في كتاب “شاليابين في إفريقيا”


  • 11 يناير 2025

شارك الموضوع

الكتاب الذي بين أيدينا من ترجمة الأستاذ الدكتور محمد عباس محمد، أستاذ الأدب الروسي المقارن بجامعة عين شمس، ومراجعة الأستاذة الدكتورة نادية إمام سلطان، أستاذة الأدب الروسي المقارن بجامعة عين شمس، ومن إصدار المؤسسة المصرية الروسية للثقافة والعلوم عام 2021، ويتألف من 131 صفحة.

تبدأ الترجمة بوصف رحلة “فيودر إيفانوفيتش شاليابين” (1873- 1938) ورفاقه إلى مصر عام  1903. الكتاب من تأليف الشاعر نيكولاي ألكسندرافيتش ساكالوف (1859- 1922)، وقد تركت الرحلة أثرًا لا يُمحى، وانطباعات فريدة لا تنسى. وكان مؤلف الكتاب ضمن أعضاء الرحلة.

أدب الرحلة الروسي

انطلقت الرحلة في مسيرتها بالقطار من مدينة موسكو إلى ميناء أوديسا، ومنها بالباخرة إلى مدينة الإسكندرية، من خلال التوقف في مواني القسطنطينية، وسميرنا، وبيريه، وجزيرة كريت، وفور أن وصلوا إلى الإسكندرية استقلوا القطار إلى مدينة القاهرة.

تميز هذا الكتاب بوصف الرحلة والأماكن التي زارتها المجموعة وتأثروا بها، وضمَّ صورًا قليلة، وصدر في موسكو عام 1914، ويندرج تحت ما يعرف بأدب الرحلات.

ويقوم هذا النوع من الأدب على وصف الرحالة أو شاهد عيان للحقائق، أو يقدم معلومات موثوقًا بها، سواء أكانت جغرافية، أم إثنوجرافية، أم تاريخية، أم شخصيات حقيقية، وتكون في المقام الأول غير مألوفة للقارئ عن غرائب وعجائب بلدان وشعوب ما، ويعرض مجمل سماتهم وعاداتهم وتقاليدهم في شكل مدونات، أو ملاحظات، أو يوميات، أو مقالات، أو مذكرات.

كما يتخلل هذا النوع من الكتب سمات جمالية وفكرية ذاتية وفلسفية وفولكلورية، ويتسم أيضًا بالخيال والمغامرة والعمق والوضوح، وعدم المبالغة، بطريقة شائقة وممتعة، وبأسلوب فني راقٍ وجميل، فالراوي أو الرحالة يراقب عالمًا غريبًا عن عالمه، فهو غريب في بلاد غريبة، وفي الوقت نفسه هو البطل الأساسي للعمل الروائي.

ترجع نشأة هذا الشكل من مؤلفات أدب الرحلات إلى أقدم رحلة في مصر القديمة في عصر الدولة الوسطى في بردية موجودة في متحف الإرميتاج في مدينة سانت بطرسبورغ، بعنوان “قصة ضحية السفينة”، منذ 20-17 عام قبل الميلاد، وتحمل هذه البردية كثيرًا من العناوين، منها على سبيل المثال “حكاية الملاح التائه”، و”الملاح والثعبان”.

     تطور أدب الرحلة في روسيا حتى وصلنا إلى القرن التاسع عشر، فكتب بوشكين (1799- 1837) “رحلة إلى أرض الروم”، التي قام بها في 1829، واستغرق في كتابتها خمس سنوات، وجاءت في شكل مذكرات سفر يصف فيها الكاتب الطرق الجبلية الوعرة، والمدن التي عبرها، وعادات هذه الشعوب وتقاليدها وتاريخها، والهندسة المعمارية في القوقاز وما وراء القوقاز، ومدينة أرض الروم التركية.

وكذلك كتب مورافيوف (1806- 1874) كتابًا بعنوان “رحلة إلى الأماكن المقدسة”، حيث شاهد الأماكن المقدسة في فلسطين في أثناء رحلته لها، ولكن ما يثير الاهتمام أنه توقف في مصر وزار الإسكندرية، حيث شاهد كثيرًا من الأماكن، مثل الفنار، وقلعة قايتباي، وعمود السواري، والمقابر الأثرية، وقابل إبراهيم باشا؛ الابن الأكبر للوالي محمد علي باشا، والمنتصر على الوهابيين. كما سافر إلى القاهرة ووصفها وصفًا دقيقًا، وكتب انطباعاته عن مدينة القاهرة، وكيف انبهر بها، مفضلًا   إياها على دول أخرى مثل إسطنبول، وزار الأهرامات، وصعد إلى قمة هرم خوفو، وشاهد أنقاض مدينة منف القديمة، والمسلة في منطقة المطرية، كما شاهد مسجد السلطان حسن والقلعة. وترك نهر النيل تأثيرًا قويًّا في نفسه. وأعطى صورة واضحة عن صيام شهر رمضان، كما زار حصن بابليون بمصر القديمة، والدير الأرثوذكسي والمجمع المقدس للبطريكية الأرثوذكسية، وحضر قداسًا فيها، وسُمح له بالاطلاع على الأرشيف، واكتشف هناك رسائل من القياصرة الروس: أليكسيي ميخايلافيتش (1672- 1725)، وبطرس الأول (1672- 1725)، والإمبراطورة آنا يوحانفا (1693- 1740)، وذكر أن الوالي محمد علي باشا أعطى له تصريحًا للسفر إلى مدينة القدس عبر بلبيس والعريش مع قافلة، وخصص له دليلًا.

الكتاب والمؤلف والموضوع

نعود إلى كتاب “رحلة ف. إي، شاليابين في إفريقيا” الذي ألفه ن. أ. ساكالوف ليكشف ويصور فيه مضمون رحلته الفريدة إلى إحدى عجائب الدنيا السبع الشهيرة في العالم، وهي الأهرام المصرية.

يسجل الكاتب في هذا الكتاب انطباعاته في أثناء رحلته التي قام بها من أوديسا إلى مصر، ويروي للقارئ كل ما رآه جديرًا بالعرض، وما صادفه من أمور في أثناء الرحلة، ويصف فيه كثيرًا من الأماكن في أثناء الطريق الذي سلكته الباخرة عبر البحر، وفي أثناء توقفها على اليابسة في مدن مختلفة، ويحكي لنا عن كثير من الحقائق التاريخية والمعلومات الجغرافية، ويسرد الأحداث حسب تسلسلها، ووفق كل مرحلة من مراحل الرحلة من المشاهدة الحية، والتصوير المباشر والدقيق للمناظر الطبيعية من خلال عنصر الخيال، في أسلوب فني رفيع، ويقص لنا عن عادات وتقاليد وأخلاق، وأهم سمات هذه الشعوب للبلدان التي زارها على السواء.

كما يجسد لنا بعض الشخصيات التي رافقته أو قابلها خلال الرحلة، وعلى رأسهم الفنان فيودر إيفانافيتش شاليابين- المسمى به عنوان هذا الكتاب- وأكثر ما يلفت النظر هنا أن معظم الأحداث والانطباعات والأفكار والتعليقات لم تأتِ على لسان المؤلف؛ وإنما جاءت على لسان شاليابين، ومرتبطة به؛ إذ يعد هو الرابط الرئيس لأحداث الكتاب. وقد قُسِّمَ الكتاب إلى فصول غير معنونة، والسرد جاء في موضوعات شتى وليست محدودة. ونوجه عناية القارئ أن الكتاب قد طُبع بحروف اللغة الروسية القديمة؛ مما شكّل صعوبة ما، لكن تم التغلب عليها.

مَن شاليابين؟

فيودر إيفانافيتش شاليابين (1873- 1938) من أشهر فناني الأوبرا في روسيا والعالم في القرن العشرين. أقام كثيرًا من الحفلات في فرنسا وألمانيا وإنجلترا وأمريكا. تمتع بصوت جهوري، وعزف على البيانو، ومارس الرسم والنحت، واشترك في التمثيل في عدة أفلام. حاز لقب فنان الشعب وكثيرًا من الجوائز. حضر إلى مصر عام 1903، ومرة أخرى عام 1933، وغنّى على أحد مسارح مدينة الإسكندرية.

يتضمن الكتاب في البداية عدة صور فوتوغرافية للأماكن التي زاروها في أثناء الرحلة في مصر فقط؛ حتى يمكن للقراء أن يروا بأم أعينهم عبق التاريخ والشخصيات الحقيقية من خلال عدسة الكاميرا.

سافر الفنان الروسي شاليابين المشهور الذائع الصيت إلى إفريقيا- مصر، بالإضافة إلى أنه كان يريد أن ينعم بالهدوء والراحة والسكينة بعيدًا عن ضوضاء الشهرة، ومعاناته من مضايقة المعجبين له.

محطات الرحلة من روسيا إلى مصر

انطلقت الرحلة في تمام الساعة العاشرة يوم 9 مارس (آذار) 1903 على متن الباخرة “تسار” التابعة لشركة الملاحة والتجارة من أوديسا إلى الإسكندرية. كانت أسباب سفر شاليابين إلى إفريقيا هي الراحة والاستجمام، وأيضًا الهروب من ملاحقيه من محبيه ومعجبيه، وهذه ضريبة مجد الشهرة التي يدفعها الفنان، وكذلك ليجد متنفسًا يريحه قليلًا، ويخفف عنه عبء هموم الحياة.

يواصل الكاتب وصف الظروف التي تسود الرحلة؛ ليجعل القارئ مصاحبًا له خلال السفر، فيعرفه بعدد من الركاب المسافرين المرافقين، في أسلوب ضاحك شائق ممتع من ميناء أوديسا إلى القسطنطينية وسميرنا وبيريه وجزيرة كريت والإسكندرية والقاهرة. وكان من ضمن المجموعة شخصيات مرموقة، وأخرى بسيطة، ما بين جنرال وموظف ذي شأن مهم في المجتمع الروسي، وشاب بسيط وعازف موسيي فنان وطبيب يتمتع بشهرة واسعة وماهر في تخصصه، لكنه يخاف ويهاب البحر وأمواجه، وسيدات مجتمع راقٍ، وأخريات بسيطات المظهر، ومنهن من يتمتعن بالجرأة والشجاعة، وإحداهن تسلقت هرم خوفو بمفردها دون مساعدة من أحد.

كانت المجموعة في بداية الرحلة لا يعرف بعضهم بعضًا تمامًا، فمنذ فترة بسيطة كانوا غرباء، لكنهم عاشوا في جو يسوده الود والاحترام والوئام، دون تكلف، فأنست النفوس، وتآلفت الأرواح، وتحابت القلوب، رغم رتابة منظر البحر المثير للملل، لكنهم استمتعوا بأوقات جميلة في أثناء الرحلة: فتارة يبتهج القلب بجمال المناظر الطبيعية وسحرها وتأثيرها في مشاعر الإنسان، وتارة أخرى يسعدون عند سماع صوت البحر الهادئ، فينعكس هذا على الناحية النفسية.

وقد أقام الفنان أكثر من حفلة على ظهر الباخرة سعد بها الجميع، إذ كان من الصعب أن يحضروا حفلاته. واتضح من خلال تعاملاته مع الآخرين ملامح شخصيته وسماتها، فهو إنسان بسيط، وعاطفي، ومرح. وقد اتصف هذا العبقري بحسن الخصال، والأدب الجم، ورهافة الحس، وكشف عن عبقرية فنه الفذة وموهبته، وتواضعه، وعلو مجده وشأنه، ليس فقط في روسيا؛ وإنما في كل الأماكن التي زارها من خلال تعليقات محبيه ومعجبيه، وأكد سعة اطلاعه ومعرفته بالتاريخ والشعر، واهتمامه الكبير بالحضارة المصرية.

تعددت آراء الفنان شاليابين تجاه موضوعات متنوعة، فأثنى على كثير من الأماكن التي شاهدها وامتدحها. كانت المحطة الأولى هي إسطنبول، حيث جمال الجو ونقاؤه في مضيق البوسفور، وروعة الفن المعماري، إذ امتزجت المباني ذات الطراز المعماري الحديث مع القديم، وشاهد مع رفاقه كثيرًا من الأماكن، مثل: الأثر التاريخي آيا صوفيا، ومسجد السلطان سليمان، والقلعة ذات الأبراج السبعة. والمحطة الثانية كانت ميناء بيريه، ثم سافر بالقطار في رحلة استغرقت عشرين دقيقة إلى أثينا، حيث شاهد هناك الآثار اليونانية القديمة، مثل الأكروبوليس، وقصر الملك، ومن هناك، ومن أمام القصر، أرسل تحية دافئة وسلامًا حارًا إلى الأميرة الروسية يلينا فلاديمرافنا، التي تقطن هذا القصر، والمتزوجة بالأمير نيكولاي، وأعجب في سميرنا بكثير من الأماكن، خاصة السوق والأسماك المتعددة الأنواع والغريبة غير المألوفة من حيث الشكل واللون.

في مدينة الإسكندرية

عندما توقفت السفينة في ميناء الإسكندرية غادر الجميع الباخرة، وذهبوا إلى المدينة. المظهر العام لمدينة الإسكندرية الحديثة له طابع إنجليزي. هذا ما تحولت إليه مدينة الإسكندر الأكبر، التي كانت فيما مضى تشتهر بمكتبتها، ومعابدها وقصورها الرائعة.

الآن هذا ما يلفت انتباه السائحين: الميدان الرئيس يوجد في منتصفه تمثال لمحمد علي- مؤسس الأسرة الحاكمة حاليًا- وهو يمتطي فرسًا، ونصب تذكاري للجنرال البريطاني وليم إيرل الذي قتل عام 1885 في أثناء موقعة كيربيكان بالسودان، وكاتدرائية القديس مرقس الأسقفية.

يعد شارع شريف باشا (الآن شارع صلاح سالم) من أفضل الشوارع وأكثرها ازدحامًا وحيوية، حيث توجد فيه أفضل المحال الباهظة الثمن. كذلك جذب انتباههم: شارع وميدان إبراهيم باشا، والحي العربي، وترعة المحمودية، عمود بومباي (عمود السواري)، ومقابر الكتاكمب، وكما أوضح الدليل فإن كل هذه الآثار ترجع إلى العصور الغابرة.

 قام بجولة سريعة للمدينة، وانبهر بعمود السواري، وتداخل الفن المصري القديم بالفن الروماني، الذي يشكل نماذج فريدة للعمارة الجنائزية. كما أعجب بالمقابر الأثرية، خاصة مقابر “الكتاكومب”؛ لاتساعها وكثرة زخارفها التي تتداخل مع الفن الفرعوني. وأيضًا امتدح الأبنية الحديثة في المدينة، وأشاد بالمركبات المستخدمة في الانتقال، التي تزود بالشموع عند حلول المساء لتنير الطريق.

وهناك قانون صارم بمعاقبة كل من يخالف هذه الضوابط. كما شاهد إحدى الحدائق التي يمتلكها أحد اليونانيين (يقصد بها حديقة البارون اليوناني جون أنطونيادس)، وقد جمع فيها كثيرًا من النباتات الرائعة في إفريقيا في صورة مصغرة.

وسجل إعجابه بدور رجال الشرطة فيها، واحترام الناس لها، واحترام كل أفراد الشرطة لأنفسهم أولًا وأخيرًا، وهذا على غير المعتاد في روسيا، وابتهج برؤية الحقول الخضراء، ومزارع القطن، وتنوع التمر، وأزهار الصبار، في أثناء انتقاله من الإسكندرية إلى القاهرة بالقطار السريع “الإكسبريس”.

تحرك القطار السريع “الإكسبريس” من مدينة الإسكندرية إلى القاهرة بسرعة مذهلة، وتوقف في ثلاث محطات فقط. وصلنا في تمام الساعة الثانية عشرة ظهرًا. كانت حرارة الجو مرتفعة ولا تطاق، وكان التراب من تحت عجلات القطار يتصاعد عموديًّا. وكان يظهر بين الحين والآخر، وعلى مقربة منا، الحقول الخضراء، ومزارع القطن، وظهرت بيوت الفلاحين من الطين التي يتميز بها الريف المصري، والأشجار الاستوائية، والجميز، ونخيل التمر، والصبار وأوراقه العريضة الصلبة الملمس ذات الزهور المختلفة الأشكال والأحجام، ومجموعات من الجمال والجاموس والبغال، وقطعان من الحمير والخراف.

في مدينة القاهرة

انبهر شاليابين بأضخم مبنى لمحطة سكة حديد في القاهرة، كما شاهد هناك المناطق الحديثة التي شيدت على غرار الطراز الأوروبي، وامتدح المتحف المصري الذي خلب الألباب، وسحر العيون، والغني بالفنون القديمة والفريدة من نوعها في العالم، وأثار اهتمامه المومياوات وفن التحنيط لدى المصريين القدماء، وفن النحت الذي يعبر عن روح مصر القديمة، وجذب انتباهه الأهرام، وأُعجِبَ جدًّا بأبي الهول، وشعر أنه إنسان ضئيل جدًّا أمام هؤلاء العمالقة من المصريين القدماء. وبعد زيارته إلى متحف الآثار توصل إلى نتيجة قاطعة، وهي أن الحضارة اليونانية مصدرها الأساسي الحضارة المصرية القديمة، وأن اليونانيين اقتبسوا كثيرًا من المصريين، حتى الدين الذي بدوره اعتنقه الروس عنهم.

زار شاليابين في اليوم الثالث من إقامته في القاهرة حديقة الحيوان، وأثنى عليها، حيث تتجمع فيها كثير من النباتات والحيوانات من إفريقيا الاستوائية. في مساء اليوم نفسه ذهب إلى دار الأوبرا الخديوية في القاهرة، وعبر عن أمنيته لو تلقى دعوة للغناء على خشبة هذا المسرح. وفي ضوء القمر جلس هو وصديقه بالقرب من نهر النيل الذي يسحر الأفئدة والعقول، في ليلة مقمرة، وعبّر عن إعجابه الشديد به، وكأنهما يعيشان في إحدى ليالي ألف ليلة وليلة، حيث يفوح عطر سحر الشرق، فامتزجت الفانتازيا بالواقع.

زار شاليابين منطقة الأهرام مرتين، وقد تركت لديه انطباعًا قويًّا لا يُمحى: في المرة الأولى في الصباح لم يتأثر بها كثيرًا، وحاول في هذه المرة أن يتسلق هرم خوفو دون مساعدة من أحد، لكنه شعر بدوار شديد، واضطر إلى النزول، لكن بعد أن داعبه أحد الحاضرين، معاتبًا إياه، كيف استطاع أن يحقق مجدًا عظيمًا في فن الغناء، وأخفق في صعود قمة الهرم، فما كان منه إلا أن تحمس، ونجح في الصعود.

وكانت زيارته الثانية مع صديقه ساكالوف ليلًا، فقد سحرت الأهرام وأبو الهول عقله، وفتن بهما قبله. وفي أثناء وجوده في هذه المنطقة كشف عمّا يكمن في نفسه من خبايا، أخذ يتأمل ويتخيل أنه يعيش في العصور الغابرة في مصر القديمة، ويحضر قداسًا مهيبًا بكل أبهته ووقاره وفخامته، وناجى نفسه، وداعبه خياله وارتجل سيمفونية في رحاب هذه المنطقة التي تسودها العظمة والغموض والعزلة بين القبور، وأخذ يتذكر كيف يقف أبو الهول شامخًا صامدًا صامتًا، وبكل فخر وكبرياء واعتزاز، شاهدًا على أحداث جليلة وضخمة وعنيفة.

وصف القاهرة بأنها تنقسم إلى جزأين: الأوروبي، وآخر يقطن فيه سكان البلد الأصليون. يجلس في المقهى في الغالب الأوربيون: من رجال وسيدات وأطفال، ويمشي بين الموائد المواطنون المحليون والبائعون، ولديهم من جميع أنواع الأشياء، وينادون بصوت عالٍ على بضائعهم: كل البضاعة موجودة بوفرة، وكذلك يمشى الحواة والراقصون والراقصات والموسيقيون المتجولون والبهلونات والسحرة الذين يعرضون ألعاب الخفة.

لا يمكن تصور الضوضاء والضجيج، واتضح من زيارة الحي الذي يقطن فيه السكان الأصليون أن الكسل والنعيم والترف الشرقي ليس فكرة نظرية؛ بل هو “أمر واقع حقيقي”.

كان يُسمع نداء المؤذن من المآذن إلى الصلوات الخمس في اليوم، التي تدعو المؤمنين إلى الصلاة في كل الشوارع. سجل شاليابين كلمات الآذان، والدعوة إلى الصلاة وفقًا لما نقله المترجم.

في المساء ذهبوا إلى الأوبرا الخديوية (المسرح الرئيس بالقاهرة)، وهي عبارة عن مبنى جميل جدًّا من الخارج، ورديء في الداخل، إذ كان يُقدَّم نوع من الأوبريت الإنجليزي، وكانت الموسيقى لا معنى لها، وكان الفنانون لا صوت لهم، وكان أداء الفنانات ركيكًا جدًّا.

في اليوم الثاني زار شاليابين “متحف الآثار المصرية”، إذ يعد هذا المتحف الفريد في نوعه في العالم، حيث يضم مجموعة آثار للفنون المصرية القديمة، ولا تستحوذ على اهتمام من جانب المتخصص فقط؛ بل من كل شخص مثقف.

اهتم شاليابين في أثناء الزيارة -في المقام الأول- بالمومياوات، وأخذ ينظر إليهم بإمعان، ولفترة طويلة. وقد أُعجِبَ جدًّا بتمثال الملك خفرع المصنوع من حجر الديوريت الأخضر. خلص شاليابين بعد مشاهدة المتحف وأقدم آثاره، إلى أنه لدى المصريين كل أنواع الفنون التي ازدهرت إلى درجة عالية من الجمال والفن، وأضاف أن الإغريق -على ما أعتقد- بما قدموه من فن كانوا -ببساطة، لا أكثر ولا أقل- قد اقتبسوا وحاكوا المصريين في فنونهم، ووفق رأيي الشخصي، “سرقوا” الدين من المصريين، وكنا نحن نسير على الدرب نفسه. وكما ترون، فقد علق المصريون على أعناق المومياوات قلادة الصليب (الكاتب يقصد علامة العنخ، وهو رمز مصري في العقيدة المصرية القديمة، ويخلط كثير من الناس بالخطأ بين العنج الذي ظهر قبل مئات السنين والصليب المسيحي).

في اليوم الثالث زارت المجموعة حديقة الحيوان، حيث تتمركز كل النباتات والحيوانات في إفريقيا الإستوائية. يوجد بالحديقة نماذج ممتازة رائعة، فقط محلية، باستثناء “الغراب الروسي”، ولندرته وضع في قفص منفصل. كما يوجد هناك عدد لا يُحصى من القرود، التي -بالمناسبة- يحبها شاليابين، ويوجد في الحديقة بحيرة ضخمة، يعيش ويولد ويتكاثر فيها عدد لا حصر له من الطيور.

كان يقوم على خدمة المجموعة في الفندق شاب مصري وسيم، اسمه حسان، كان يرتدي دائمًا الزي التقليدي. أحب شاليابين حسان، وعرض عليه الذهاب معه إلى روسيا ليخدم عنده، وسيدفع له راتبًا جيدًا. سأله حسان: أين روسيا؟ فشرحوا له. رحب حسان بالفكرة، ولكنه طلب أن يأخذ عائلته بكاملها معه، وكانت لديه عدة زوجات، واثنا عشر طفلًا، واتضح أن حسان كان يتقاضى 50 “كابيك”، بما يعادل النقود الروسية، في اليوم الواحد على عمله خادمًا في الأوتيل، وبهذه النقود عليه أن يعول أسرته الكبيرة العدد، وبعض زوجاته يحصدن محصول قصب السكر، ويكسبن لقمة العيش نظير مبلغ ضئيل. أشفق عليه شاليابين وأعرب عن أسفه، وحسم موضوع سفره مع إلى روسيا بالرفض.

أول مرة ذهب فيها مؤلف الكتاب مع شاليابين إلى الأهرام في فترة الظهيرة. كان يجب شراء تذكرة ثمنها 10 قروش (أي ما يعادل روبل واحد) من رئيس القرية التي يسكنها البدو؛ لتسلق الهرم. رفض شاليابين الخدمات التي تقدمها الحشود المزعجة من الناس الجشعين الذين يحيطون بالسياح، وأراد أن يتسلق هرم خوفو دون مساعدة من الدخلاء، ولكن لأنه شخص عصبي بلا جدال، ما إن تسلق بضع درجات حتى شعر بدوار، فسخر منه أحد الأشخاص المرافقين له، بأنه بلغ قمة المجد البعيد المنال (يقصد في عالم الفن)، ولم يتحمل صعود هذا الارتفاع الشاهق، ولكن يبدو أن هذا الكلام شجعه، فقرر الصعود إلى قمة الهرم مهما كلفه الأمر، وفعلها وتسلقه.

قال شاليابين فيما بعد، إن المنظر من أعلى قمة الهرم رائع، ولكن الأهرام نفسها لم تترك لديه أي انطباع خاص. حدث هذا في أثناء النهار، غير أن الأهرام نفسها، وأبو الهول نفسه تركا لديه انطباعًا كبيرًا ليلًا.

في اليوم التالي، في المساء، ذهب مؤلف الكتاب وشاليابين إلى واحد من أفضل المقاهي في القاهرة، وهناك أعطى الخادم شاليابين رسالة مختصرة، مكتوبًا فيها طلبًا من مواطنين من مدينة موسكو بالجلوس معه إلى الطاولة. دعاهم شاليابين واستضافهم. واضح أن أحدهما من مواليد القاهرة -مصري تخرج في أكاديمية موسكو اللاهوتية، والآخر تاجر. عرض عليه الشاب أن يقوم بأعمال الترجمة، فوافق شاليابين الذي أخذ يصفق ويصيح طوال الوقت بعد بدء الموسيقى والرقص (لأن صديقه كان يلقنه). بعد ختام البرنامج دعا شاليابين بعض الممثلين إلى طاولته، واستضافهم على العشاء، وتحدث إليهم طويلًا -من خلال المترجم- عن الموسيقى الشرقية، والفن الشرقي، وأردك الحاضرون أنهم لا يتعاملون مع شخصية روسية مشهورة فحسب؛ وإنما مع فنان ومُغنٍ عالمي، وأعربوا عن استحسانهم، واحترامهم، وتقديرهم لموهبته، عن طريق لغة الإشارات والإيماءات، وطلبوا منه أن يغني لهم شيئًا، لكنه اعتذر متعللًا بألم في الحنجرة.

انتقادات كثيرة

في زيارته لمصر، سجل شاليابين عدة انتقادات، أهمها:

  • مشكلة البقشيش، حتى إنه سجل يقول إن الصيحات الصاخبة والمبهجة من المواطنين تتعالى في الشارع، وعندما كانوا يشاهدون أي أجنبي، كانوا يمدون أياديهم ويصرخون بأعلى صوت: “بقشيش”، حتى إنه غالى بالقول إن مصر بلد البقشيش، وأعرب يقول: هنا لا يتسول الفقراء فقط، والذين بالمناسبة عددهم قليل جدًّا، وليس الأطفال فقط؛ وإنما البالغون من الرجال والسيدات. مفهوم “الأجنبي” و”البقشيش” لا ينفصلان. يطلبون البقشيش بلا أدنى مبرر على وجه الإطلاق، وبمنتهى البساطة يدعون لك “بحياة رغدة”، حتى إن الحكومة اضطرت إلى لصق إعلانات في أماكن كثيرة في الشوارع: “لا تفسدوا الشعب بالصدقات، وإعطائهم البقشيش، إلا في حالة تقديم خدمة فعلية”.
  • كثرة الناس في شوارع القاهرة المزدحمة، لكنه أرجعها إلى وجود كثير من البشر جاءوا إليها من كل حدب وصوب؛ ولذا يسودها كثير من الضوضاء والصخب. كما تعجب من تعدد الزوجات وكثرة الأولاد في الأسرة الواحدة.
  • قلة النظافة في بعض المواقف، واشتكى من البعوض، ومن ارتفاع درجة الحرارة، وأعرب عن شكواه من هبوط الظلام في مصر مبكرًا، ويبدو وكأن الشمس قد ضربها شخص ما على رأسها، وتختبئ على الفور وراء الأفق، ويحل ظلام دامس، وتعاني المدينة قلة الإضاءة في المساء والليل.
  • تكررت بعض العبارات التي توحي بنظرة استعلائية وشبه عنصرية في وصف سلوك بعض المصريين.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع