هذا هو المقال الثاني لعرض الكتاب الذي صدرت ترجمته العربية في عام 2023 تحت عنوان “الإمبراطورية الروسية والجزيرة العربية والخليج”، من تحرير المؤرخ الروسي إيجور شينشينكو (2018)، وقد ترجمه من الروسية إلى العربية ثلاثة من كبار المترجمين المصريين؛ هم: عامر محمد عامر، ومحمد نصر الدين الجبالي، ووائل فهيم، وصدرت الترجمة عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة فيما يربو على 600 صفحة.
وقد عرضنا في المقال الأول محتوى الكتاب وفكرته، وموجزًا عن الفصل الأول. وسنتناول هنا الفصول الثلاثة من الثاني إلى الرابع.
يشغل سيرجيي نيكولا يفيتش صيرومياتنيكوف (١٨٦٤- ۱۹٣٣) مكانة بارزة بين مكتشفي الجزيرة العربية من الروس والباحثين في شؤونها، ومهندسي صيغة “سياسة الأعمال” في منطقة الخليج العربي، فقد بعث القنصل العام الإنجليزي في سانت بطرسبورغ، السيد ميتشيل، بتقرير إلى لندن يقول فيه إنه في عام ۱۹۰۰، وفي إطار “السياسة الهجومية لروسيا في آسيا”، ابتُعِثَ السيد صيرومياتنيكوف إلى الخليج العربي بأمر من الأمير الأعظم ألكسندر ميخائيلوفيتش، والغرض من هذه البعثة هو دراسة التجارة في مواني هذه المنطقة”.
وكان صيرومياتنيكوف شخصية غير عادية، إذ ترك بصمة كبيرة في تاريخ روسيا بوصفه مستشرقًا وكاتبًا صحفيًّا وأديبًا، وخلال مأموريته في الخليج (في الفترة من يوليو/ تموز حتى سبتمبر/ أيلول ۱۹۰۰)، التي أثارت ضجة كبيرة في لندن، قام بزيارة إلى بلاد الرافدين، وسواحل الجزيرة العربية، حيث زار بغداد والبصرة، والمحمَّرة والكويت، ولنجة والبحرين وبندر عباس ومسقط (ومنها توجه في النصف الثاني من سبتمبر/ أيلول إلى بومباي).
وكان وزير المالية سيرجيي فيته (١٨٤٩- ١٩١٥) هو صاحب مبادرة إيفاده تحديدًا إلى الخليج، حيث وجه في أبريل (نيسان) ۱۹۰۰ مذكرة إلى صاحب الجلالة الإمبراطور نيقولا الثاني، أشار فيها إلى ضرورة فتح خط ملاحي مباشر بين أوديسا ومواني الخليج العربي بهدف تنمية العلاقات التجارية مع جنوب فارس وبلاد ما بين النهرين وسواحل الجزيرة العربية، مقترحًا إيفاد كل من صيرومياتنيكوف والنقيب بافلوفسكي لدراسة هذا الموضوع على أرض الواقع.
وأفاد كروجلوف القنصل العام في بغداد في تقريره (بتاريخ ۱۹/۱۰/۱۹۰۰) أن “صيرومياتنيكوف بعد أن غادر بغداد في يوليو (تموز) ١٩٠٠ قضى نحو ثلاثة أيام في البصرة، حيث جمع هناك بيانات عن التجارة في الميناء، والتجار المحليين، والائتمان، والرسوم الجمركية، كما استفسر عن سعر الأراضي (إذا تطلب الأمر إنشاء مرسى)، وتوافر الفحم في الميناء وأسعاره”.
وتوجه صيرومياتنيكوف بعد ذلك إلى الكويت “عن طريق البحر، بعد أن عدل، بناءً على نصيحة والي البصرة، عن السفر عبر الصحراء، الذي كان محفوفًا بالمخاطر بسبب الاضطرابات القبلية”. ولدى وصوله إلى الكويت لم يتمكن من مقابلة الشيخ مبارك في المدينة، حيث كان موجودًا في الصحراء، فكان في استقبال الرحالة الروسي الشيخ جابر الابن الأكبر للأمير. وعلى مدار الأيام السبع التي قضاها في الكويت التقى عدة مرات، ولساعات طويلة، بالشيخ مبارك، الذي عاد إلى الكويت بغرض الالتقاء به. وأشار كروجلوف إلى أن صيرومياتنيكوف، بعد أن كلف رجاله بجمع المعلومات التجارية، فرغ نفسه معظم الوقت للمحادثات من خلال مترجم مع الشيخ مبارك، ونجله الشيخ جابر؛ بغرض معرفة الوضع السياسي للكويت، والأوضاع في هذه الإمارة العربية، وصرح أنه لم يأتِ إلى الخليج فردًا بشخصه؛ وإنما بإرادة الحكومة الإمبراطورية وأمرها، مع تكليفه بزيارة واستكشاف أهم المواني في هذه المياه. وفي الوقت نفسه، كان السيد صيرومياتنيكوف “يضفي على تصرفاته وأحاديثه الطابع الرسمي”؛ ولذلك لم يكن الكويتيون أو الشيخ مبارك نفسه ينظرون إليه على أنه رحالة؛ وإنما ممثل رسمي للإمبراطورية الروسية. ويلمح القنصل في تقريره إلى أن هذه التصريحات دائمًا تترك انطباعات جيدة لدى الشيوخ العرب.
وجاء على لسان القنصل الروسي أن صيرومياتنيكوف خلال اجتماعاته ومحادثاته مع الشيخ مبارك بذل كل الجهود؛ كي يستوضح موقف الشيخ من “الإنجليز والأتراك والشعوب الأخرى”، وكثيرًا ما كان “يبدأ بالتحدث عن العلاقات بين الشيخ والإنجليز”، وإبرامه معاهدة معهم، وكذلك عن علاقات الكويت مع الأتراك، لكنه مهما حاول معرفة أي شيء عن معاهدة الإنجليز مع الكويت، كان “الشيخ الماكر” يهرب من الحديث عن مسألة العلاقات مع إنجلترا، فيتحدث على نحو رئيس عن العلاقات مع الأتراك، فيعلن أنه لم يوقع معهم تحديدًا أي معاهدات، ويروي عن أشكال الظلم التي يتسببون فيها في المنطقة”، ورغبة الباب العالي في إضعاف الكويت وإخضاعها لسلطانه. وعامةً، كان يتحدث عن الأتراك بازدراء شديد، مستهينًا بقوتهم، ومنتقدًا حكمهم.
وعند مناقشة القضية الأكثر حرجًا لحاكم الكويت، وهي سكك حديد بغداد، والخطط الرامية إلى مدها إلى خليج الكويت، سأل الشيخ مبارك بوضوح عن “طبيعة التحركات التي سيتخذها بهذا الخصوص”، فأعرب مبارك أنه قد يفعل أي شيء، لكنه في هذا الشأن لن يقدم -بأي حال من الأحوال- أي تنازلات للأتراك”، مشددًا على أنه لن يسمح ببناء هذا الخط الحديدي في أملاكه، حتى إذا تطلب الأمر منه ومن أبنائه الدخول في صراع لهذا السبب مع العثمانيين والألمان الذين يقفون خلفهم.
وأفاد كروجلوف في تقريره أن صيرومياتنيكوف في محادثاته مع حاكم الكويت الشيخ مبارك، نصحه بإقامة علاقات أقوى مع الحكومة الروسية، مشيرًا إلى فكرة أن الإمبراطور الروسي “ليس في حاجة بالمرة إلى الاستحواذ على أراضٍ مثل الأراضي الكويتية”؛ فروسيا غنية بالفعل بالأراضي، وأن نيّات روسيا في هذه المنطقة تتعلق بتعزيز مصالحها التجارية؛ ولذلك فإن بناء الكويت علاقات أقوى مع روسيا لا تنطوي على أي أخطار أو أزمات للشيخ مبارك، وعرض أن يقوم بدور الوساطة في هذه المسألة، ناصحًا الشيخ بكتابة رسالة بهذا المضمون ليسلمها للحكومة الروسية لدى عودته إلى سانت بطرسبورغ.
وكان الشيخ مبارك -كما يقول كروجلوف- دبلوماسيًّا محنكًا من الصحراء العربية، ذا خبرة منذ الصغر في التفاوض ومواجهة المكايد مع المسؤولين الأتراك؛ لذا حاول القضاء على نبرة السلبية التي لا حاجة له بها في حديثهم، وقال إن توجيه خطاب من هذا القبيل إلى الحكومة الروسية في الوقت الراهن من شأنه ألا يؤدى إلا إلى تفاقم علاقاته المتأزمة بالفعل، سواء مع الأتراك أو الإنجليز، “دون أن يغير في واقع الأمر من الأوضاع في شيء”، ثم توقف عن الكلام قليلًا وأضاف: “إن الروس بعيدون للغاية، فعندما أرى بأم عيني السكة الحديدية الروسية في بندر عباس، التي يدور عنها الحديث كثيرًا في الآونة الأخيرة، والسفن الروسية في الخليج، ربما وقتها سيتغير مسار تفكيري”.
ويستخلص القنصل في تقريره أن من الصعب في الغالب معرفة ما إذا كان الشيخ مبارك قد أراد في حديثه مع الضيف الروسي معرفة إمكانية توافر الرعاية الروسية، أم كان يقصد التأكد من صحة الشائعات التي يروجها الإنجليز عن اعتزام روسيا الاستيلاء على ميناء في الخليج العربي، لكن فكرة روسيا ترسخت في ذهن الشيخ مبارك. إنه حاكم “حكيم وحذر”، وأملاكه أكثر استقلالية مما يقول الأتراك، وهو يهتم باستقلاليته، ويدافع عنها قدر استطاعته. ومن المعتقد أن الشيخ مبارك قد يقدم على الدخول في تحالف مع روسيا، لكن فقط في حالة ما إذا كان واثقًا تمام الثقة من أن الروس سيأتون لمساعدته بالفعل، وسيدافعون عن الكويت ضد التعديات من أي مصدر على استقلالها وحريتها. أما حذر الشيخ في أقواله وتصرفاته فيرجع إلى أن الحياة قد علمت هذا الدبلوماسي اللامع من الصحراء العربية أن يحفظ لسانه، ويتصرف بعقلانية، وأن يوازن بعناية بين الأمور جميعًا؛ ما هو “في مصلحته”، وما هو “ضد مصلحته”.
وفور عودته، جهَّزَ كبار التجار والصناع من جنوب روسيا، الذين مولوا -إلى جانب الحكومة- رحلته إلى الخليج، أول بعثة تجارية إلى المنطقة، بيد أن وباء الكوليرا الذي انتشر في سواحل الجزيرة العربية، وما تبع ذلك من قيود صحية صارمة على دخول السفن إلى الخليج، أجبرتهم على تحويل مسار البعثة وتوجيهها إلى مواني البحر الأحمر.
في معرض تقييم دور ومكانة مواني الخليج العربي في التجارة بالمنطقة، أشار المستشار ألكسندر آدموف، الذي زارها عام ۱۸۹۷، إلى أن أهم هذه المواني في تلك الآونة كان ميناء بندر بوشهر، الذي تربطه طرق القوافل بالمراكز التجارية الكبرى في جنوب فارس، مثل شيراز وأصفهان. أما المركز الثاني في الأهمية من الناحية التجارية بين مواني ساحل الخليج، فهو من نصيب بندر عباس، ويليه ميناء لنجة. أما مواني الساحل العربي لمنطقة الخليج، فكان آدموف يرى على رأسها مسقط والكويت والبحرين.
كما أخطر مدير شؤون القنصلية العامة في بوشهر، السيد أو فسيينكو، وزارة الخارجية الروسية بأن التجارة البحرية تعتمد على المواني التالية: البصرة المحمرة، والكويت، والمنامة، وبندر بوشهر، وبندر عباس، ولنجة، ومسقط، والمواني الساحلية على شاطئ عمان، التي من أهمها: الشارقة، ورأس الخيمة، وأبو ظبي، ودبي. وقال إن جميع هذه المواني تربطها بعضها ببعض صلات تجارية دائمة، فمسقط تخدم أسواق القطاع الشرقي من عمان، والمنامة تخدم مجموعة جزر البحرين وجارتها قطر وشريط الأحساء الساحلي، الذي كان يسيطر عليه الأتراك، أما ميناء الكويت فيخدم داخل شبه الجزيرة العربية وجزءًا من العراق العربي. ويرى أن دور الكويت بوصفها مركزًا تجاريًّا مستقلًا وكبيرًا “من المفترض أن يزداد إلى درجة ما في المستقبل القريب”. أما بشأن التجارة في المنطقة برمتها، فقال إن التجار الإنجليز والهنود قد سيطروا تقريبًا عليها بالكامل في ذلك الوقت. ويستخلص آدموف أنه لم يعد هناك مجال للشك بأن حجم الواردات من خلال مواني الخليج يقع بكامله تقريبًا في أيدي الإنجليز.
أما فيما يخص التجارة في العراق العربي، فقد أفاد آدموف أن “85% من تجارة بغداد” من نصيب إنجلترا والهند، فكل العمليات المالية وصفقات تجارة الجملة في جنوب بلاد الرافدين “تعتمد عمليًّا -بشكل مباشر أو غير مباشر- على جيوب الإنجليز”، حيث إن “90 % من واردات بغداد يسيطر عليها التجار اليهود”، أما الصادرات فتعد امتيازًا تتمتع به المراكز التجارية الإنجليزية.
وفي حديثه عن واردات البصرة، كتب آدموف يقول إنه عبر وساطة كبار التجار الإنجليز، كان السكر يأتي إلى البصرة من فرنسا، أما الزجاج وأواني الخزف فكانت ترد من ألمانيا والنمسا وهولندا، وزجاج النوافذ من بلجيكا، والثقاب من إنجلترا والسويد واليابان، والمنتجات القطنية من إنجلترا، أما الكيروسين فكان منشؤه روسيا، وكان أول من ورَّده إلى البصرة عام ۱۸۸۸ هو مركز مانتاشيف التجاري في تفليس.
ويرى الدبلوماسيون الروس أن من الأسباب التي كانت تعوق التجارة الروسية إعاقة شديدة في حوض الخليج هو سقوط هذه المنطقة بالكامل من حيز نشاط الأسطول التجاري الروسي، فقد جاء في تقرير آدموف أن “غياب الأسطول التجاري الروسي في الخليج العربي يحرم روسيا من أي إمكانية للنجاح في التنافس مع أوروبا في هذه المنطقة”، فالبضائع الأوروبية التي تجلب إلى المنطقة بالبحر تنتشر بوفرة” عبر مواني الخليج في كل أرجاء بلاد فارس، وما بين النهرين، والجزيرة العربية.
وتم الاستماع إلى تصورات الدبلوماسيين الروس، وتوصيات وزارة الخارجية ذات الصلة بهذا الشأن، فصار خط نقل الركاب والبضائع، الذي أنشأته الحكومة بين أوديسا ومواني الخليج، أداة مهمة لدى الإمبراطورية الروسية لتنفيذ خططها التجارية في حوض الخليج والجزيرة العربية، وبلاد الرافدين. وقد نجح هذا الخط في أداء وظيفته على مدار ١٤ عامًا (۱۹۰۱- ١٩١٤) رغم “حيل البريطانيين” والوضع السياسي المعقد في المنطقة. وذكر الدبلوماسيون الفرنسيون في تقاريرهم أن ظهور العلم التجاري لروسيا في مياه الخليج العربي “كان يستحق الترحيب؛ فقط لأن الروس قضوا على احتكار الإنجليز الوحشي للنقل البحري في حوض الخليج”.
أما السيد كروجلوف، القنصل العام الروسي في بغداد، فقد أشار بتاريخ ٨ /٤/۱۹٠١، مستندًا إلى حواره مع نائب القنصل الفرنسي في الموصل، السيد دي أورفيل، أن الإنجليز في بوشهر ومواني الخليج الأخرى يتملكهم غضب لا يصدق من تشغيل الخط الملاحي الروسي إلى مواني الخليج العربي… ويؤكدون في كل ملأ أن هذا الخط عمره قصير، وأن محاولة الروس ستنتهي بالفشل، ولا يرون في هذا الخط تحركًا تجاريًّا؛ وإنما خطوة سياسية تهدف إلى الإضرار بمصالحهم وهيبتهم.
وكان السيد دي أورفيل يعمل في جدة، ثم في السفارة الفرنسية في القسطنطينية، وقد وصل إلى بغداد -مقر خدمته الجديد- عبر بومباي والخليج العربي، وكان كروجلوف يذكر مرارًا بعد ذلك أن الإنجليز الذين التقى بهم وتحدث إليهم خلال رحلته “لم يستطيعوا أن يتصوروا أن مناطق ارتكاز الدبلوماسية الروسية الجديدة في بومباي وبوشهر والبصرة وغيرها من التحركات الروسية الأخرى تمليها اعتبارات بسيطة وطبيعية”، فلم يريدوا أن يفهموا ويقبلوا أن كل هذه التحركات كان هدفها تنمية مصالح التجارة والأعمال الروسية في هذه المناطق وحمايتها، فقد كانوا يظنون أن كل هذا ينطوي على فكر خفي، وخطة سرية تخطط لها روسيا للاقتراب من الهند، إلى غير ذلك من الأخطار التي تهدد الأمة الإنجليزية.
ويذكر كروجلوف أن السيد دي أورفيل عندما تحدث إلى حاكم بومباي خلال وجوده فيها، دهش جدًّا من حالة الارتباك التي أثارها لدى هذا المسؤول الإنجليزي ظهور السيد كليم، القنصل العام الروسي في بومباي، التي ربما لم يكن يقيم فيها على قدر علمه شخص واحد من الرعايا الروس؛ ومن ثم، لم يكن لدى الدبلوماسيين الروس -في رأيه- ما يفعلونه في بومباي.
كذلك يؤكد كروجلوف في تقاريره أن نشاط الجمعية الروسية للملاحة والتجارة، الرامي إلى تنظيم عمليات شحن تجارية منتظمة إلى مواني الخليج، قد أزعج الإنجليز أشد إزعاج، حتى إنهم صاروا يعلنون على الملأ أنهم سيبدؤون باتخاذ خطوات جادة؛ فهم على استعداد لنقل جميع الشحنات القادمة إلى الخليج بأسعار زهيدة، المهم ألا يتركوا شيئًا لسفن الجمعية الروسية للملاحة والتجارة.
وكما يتضح من وثائق أرشيف السياسة الخارجية للإمبراطورية الروسية، كانت التصريحات من هذا القبيل تدعمها تحركات عملية، حيث كانت بريطانيا -على حد تعبير الدبلوماسيين الفرنسيين- تبذل كل ما في وسعها كي تجهز على السندباد الروسي في المياه العربية مرة واحدة، وإلى الأبد.
وأبلغ الكونت أوستين ساكين من برلين أن تدشين رحلات الجمعية الروسية للملاحة والتجارة إلى الخليج العربي يفسر في الدوائر المالية هنا على أنه دليل على القضاء على الاحتكار الإنجليزي لمياه هذا الخليج، “فالألمان تتولد لديهم رغبة في أن يحذوا حذونا، ويضعوا أيديهم دون إضاعة للوقت على جزء من التجارة في الخليج العربي”.
وتناولت الاتفاقية على وجه التحديد مسألة وكلاء الجمعية، حيث أكدت الجمعية استعدادها لتعيين وكلاء لها في بندر بوشهر والبصرة، من الرعايا الروس قدر الإمكان. أما في المواني الأخرى فقد سمح للجمعية بتعيين وكلاء من الرعايا الأجانب، على ألا يتم هذا إلا بعد الحصول على إذن من المدير العام للملاحة التجارية والمواني (المادة الثالثة عشرة).
كان الإنجليز يدركون جيدًا أن وجهات نظر سانت بطرسبورغ بشأن سياسة روسيا في منطقة الخليج شهدت تحولات حادة، ولم يكن لديهم أدنى شك في أن الحكومة الإمبراطورية قد وضعت الخليج العربي نصب عينيها.
وتشير وثائق أرشيف السياسة الخارجية للإمبراطورية الروسية إلى أن الهدف من خطط “السياسة الجديدة” للإمبراطورية الروسية في حوض الخليج كان سلميًّا بالدرجة الأولى، حيث يكمن -من ناحية- في شل مواصلة أطماع الإنجليز في هذه المنطقة بالطرق السلمية، ومن ناحية أخرى، المساعدة على توسيع التواصل التجاري بين روسيا وجنوب فارس وبلاد ما بين النهرين وساحل الجزيرة العربية.
وكتب وزير الخارجية، الكونت فلاديمير لامزدورف (في ٢١/١/١٩٠٤)، إلى السفير الروسي في القسطنطينية، المستشار السري إيفان زينوفييف، يقول إنه “سعيًا وراء تحقيق مصالحنا السياسية بالتوازي مع الأهداف التجارية، سيتعين علينا الدخول في تواصل معين مع شيوخ العرب”. وفي هذا الشأن، تعد التربة اللازمة لذلك جاهزة إلى حد ما، والدليل على هذا تولد أشكال من انجذاب العرب نحو روسيا، وصلت إلى حد التماسهم الحصول على الجنسية الروسية. وأشار الكونت إلى أن مسألة الهيمنة الكاملة للإمبراطورية البريطانية في حوض الخليج لا يمكن أن تعد مبررًا كافيًا لأن نقف هناك مكتوفي الأيدي تمامًا، حيث ثبت بالتجربة أن أنشطة روسيا تحديدًا في ساحل الخليج، خلال فترة قصيرة نسبيًّا، قد أضعفت وضع الإنجليز هناك، بعد أن كان يُزعم أنهم هم المهيمنون على كل المستويات.
ولم يكن من الممكن إيقاف زحف إنجلترا نحو المنطقة، كما كان الدبلوماسيون الروس يعتقدون، إلا بالمواجهة الفعلية، ومن خلال وجود السفن الروسية في الخليج، فوجودها هناك أكثر من مطلوب؛ لسبب آخر، هو أنه -على حد تعبير القنصل الروسي في بغداد فيكتور ماشكوف- “إذا أنزلنا مقابل كل عشرة بحارة إنجليز ينزلون على الشاطئ بحارًا روسيًّا واحدًا؛ حينها تكون نهاية انفراد الإنجليز بإدارة هذه المنطقة قد تحتمت”.
وكان موضوع “استعراض العلم العسكري الروسي” في الخليج قد طرحه لأول مرة وزير خارجية الإمبراطورية الروسية، الكونت ميخائيل مورافيوف (١٨٤٥- ١٩٠٠) أمام مدير شؤون وزارة البحرية، الفريق البحري الياور بافل طيرتوف، في عام ١٨٩٩، وجاء الرد الرسمي بأن سفن الأسطول الحربي الروسي المتجهة إلى الشرق الأقصى لم ترفع من قبل العلم العسكري الروسي في الخليج البتة؛ لعدة أسباب، أولًا: لكيلا نحول السفن عن مسارها المباشر؛ لأن مواني هذا الخليج لا تقع مباشرة على طريق السفن المتجهة إلى الشرق الأقصى والعكس، وثانيًا: لكيلا نثير بظهورنا غير المعتاد في هذه المنطقة أي ارتياب أو استياء لدى أحد. واستجاب طيرتوف لمقترح الخارجية بشأن دخول السفن الروسية إلى الخليج، فأخطر وزير الخارجية أنه سينتهز أول فرصة لإرسال أي سفينة من السفن الصغيرة الغاطس إلى الخليج العربي لزيارة بعض موانيه.
وفي مراسلاته مع الخارجية بشأن التدابير التي يتعين أن تتخذها الإمبراطورية الروسية من أجل تعزيز هيبتها في الخليج، لفت المستشار كيمون أرجيروبولو، المبعوث الروسي في طهران، الانتباه لعدد من الأمور ذات الأهمية، حيث أشار إلى أن سكان الساحل الجنوبي لبلاد فارس ليس لديهم أي تصور عن قوة روسيا، وهم يتملكهم الفزع من الإنجليز؛ لذلك، لعل من الفائدة الكبرى إرسال سفينة عسكرية روسية إلى هذه المنطقة، و”إفهام” السكان المحليين أن روسيا لا تعترف بالاحتكار الذي تمنحه إنجلترا لنفسها في هذه الأرجاء، وأن الخليج العربي ليس بحرًا مغلقًا. وكانت أول سفينة من الأسطول الإمبراطوري الروسي تزور الخليج في مهمة للدبلوماسية العسكرية هي الزورق “جيلياك”، بقيادة القبطان البحري من الدرجة الثانية البارون إيفان إندرينيوس.
وكان الهدف من حملة الزورق “جيلياك” يرجع -في المقام الأول- إلى “الإشارة للإنجليز، وللسكان المحليين في نفس الوقت، من خلال ظهور العلم الروسي في الخليج، إلى أن الروس يعتبرون مياه هذا الخليج متاحة تمامًا أمام حركة السفن من مختلف الجنسيات”، إذ كانت مهمة الدبلوماسية العسكرية للزورق “جيلياك” تتلخص في إظهار رفض روسيا سعي الحكومة البريطانية نحو تحويل الخليج العربي إلى بحر مغلق يقع ضمن نطاق المصالح الإنجليزية دون غيرها. كذلك كان المقصد من دخول الزورق “جيلياك” إلى الخليج العربي هو ترك انطباع أخلاقي معين لدى السكان على كلا ساحلي الخليج، والتأكيد للعرب والفرس أن روسيا ليس لديها أي خطط عدوانية، أو رغبة في الاستحواذ على الأراضي.
وأشار لامزدورف إلى أنه ينبغي التنبيه على قائد الزورق لتوخي الحذر الشديد والحيطة؛ حتى لا يعطي مبررًا لاستنتاج أن ظهور العلم الروسي في هذه المواني يخفي وراءه نيّات غير معلنة، وشدد على ضرورة لفت انتباه قائد الزورق إلى هذا الأمر، والسبب في ذلك هو أن الشائعات، التي انتشرت في الآونة الأخيرة بشأن نية الروس الاستحواذ على ميناء على ساحل الخليج، قد أثارت قلقًا ملحوظًا لدى المسؤولين الأتراك والفرس، الذين لم يتوانوا -بناء على تكليف من حكومات بلادهم- في التوجه إلى الخارجية الروسية للحصول على تفسيرات بهذا الشأن، وقال إن قائد السفينة يجب أن يلتزم في تعاملاته “مع السلطات الساحلية والوكلاء الأجانب بالأشكال المتعارف عليها من قواعد المجاملة الدولية”.
وبالفعل نشر الإنجليز ووكلاؤهم شائعات عن السفينة الروسية بين السكان المحليين، حسبما أفاد الدبلوماسيون الروس، حيث قال بعضهم إن الخليج في انتظار “زورق خشبي صغير” لا يستحق حتى الانتباه له، في حين راح البعض الآخر يؤكد أن “الروس دون دراية بالخليج أرسلوا إليه سفينة قديمة بالية”، فيما ادعى آخرون أن “الروس يعتزمون إنزال قوات من السفينة المتجهة إلى الخليج، والاستيلاء على الكويت”.
ويتبين من الرسالة العاجلة، التي بعث بها إيفان زينوفييف، السفير الروسي في القسطنطينية، إلى خارجية بلاده (بتاريخ ۲۱/۱/۱۹۰۰)، أن “خبر رحلة الزورق جيلياك إلى الخليج قد ترك انطباعًا غير طيب إلى حد ما لدى وزير الخارجية التركي”، حيث ركزت تصريحاته في جوهرها على أن ظهور الزورق الروسي في المنطقة، خاصة في الكويت، من شأنه أن يعطي الإنجليز مبررًا للاعتقاد أن إرسال هذه السفينة قد تم بالاتفاق مع الحكومة التركية، وهذا قد يدفعهم إلى اتخاذ مزيد من التدابير لتعزيز نفوذهم في الكويت على حساب المصالح التركية.
وفور وصول المعلومات عن مواعيد رحلة الزورق وخط سيره، أصدر السفير زينوفييف أوامره إلى المستشار كروجلوف، القنصل العام في بغداد، بالتوجه إلى المحمرة والبصرة لمساعدة قائد الزورق في تعاملاته مع السلطات الفارسية والتركية هناك، مشددًا على ضرورة إبلاغ هذه السلطات بأن زيارة السفينة الحربية الروسية إلى مواني الخليج تهدف فقط إلى استعراض العلم الروسي أمام سكان السواحل، وخلخلة الاعتقاد المترسخ في هذه المناطق بأن هذا الخليج متاح فقط للسفن الحربية الإنجليزية دون غيرها.
وتروي وثائق أرشيف السياسة الخارجية للإمبراطورية الروسية أن الإنجليز بذلوا كل ما في وسعهم لوضع أكبر قدر ممكن من العراقيل أمام الزورق “جيلياك”، حيث رفضوا توفير الفحم له في عدن. وأبلغ بافل طيرتوف، مدير شؤون وزارة البحرية، وزير الخارجية الكونت مورافيوف (في ۲۳ /۱/۱۹۰۰) أن قائد الزورق واجه صعوبة في استئجار باخرة لنقل الفحم إلى الخليج؛ لأن السلطات الإنجليزية في عدن رفضت تلبية طلبه، لكن “بفضل مساعدة القنصل الروسي في بورسعيد تم التغلب على هذه العقبة، حيث تم استئجار باخرة، وبعد تحميلها بالفحم ستتوجه إلى بندر عباس، حيث ستلتقي بالزورق جيلياك”.
وكان الزورقان الإنجليزيان “سفنكس” و”المذنب” يقتفيان أثر الزورق “جيلياك”، متتبعين مساره، ومراقبين تصرفات طاقمه، فقد أفاد القنصل الروسي في أصفهان، في تقريره (بتاريخ ۳/۳/۱۹۰۰)، أن ظهور الزورق البحري الروسي “جيلياك” في مياه الخليج قد أثار ضجة، حيث أثار قلق الإنجليز خاصةً، “فبمجرد أن ورد إلى بوشهر خبر وصول زورقنا إلى بندر عباس، تحركت السفن العسكرية الإنجليزية المرابطة في مرسى بوشهر إلى هناك على الفور، عاقدة النية على مراقبة تحركات الزورق ، ثم رافقته عائدة إلى بوشهر”.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.